مقدمة{اطلبوا العلمَ ولو في الصين}.
هذا الحديث الشريف الذي قيل منذ حوالي ألف وخمسمئة عام ، لا يزال ساري المفعول حتى اليوم .
فعلماء الصين امتازوا منذ القديم ، وحتى العصر الراهن باهتماماتهم العلمية وباكتشافاتهم المذهلة أيضاً .
لن نتحدث عن إنجازاتهم في علم الفلك مثلاً،الذي جعلهم منذ القديم يرصدوا ظهور"المذنب هِلي" وخسوفات الشمس وكسوفات القمر، وفي العام 1054 م رصْدَ انفجار نجمٍ عملاقٍ " سوبر نوفا " ، وجعلتهم يخترعون الورق ، الذي أسهم في تطوير الفكر البشري والأدبي بخاصة ، وفي نشره ، ولا عن اكتشاف البارود ، من خلال الألعاب النارية الجميلة ، الذي غدا وباءً على البشرية كما أدَّى لاحقاَ اكتشاف
( الديناميت ) على يد ( ألفريد نوبل ) النرويجي ، ولا عن تربية شرانق الحرير التي وصلت العالم الخارجيَّ وأذهلته ، وخلقت ما أسميه بـ ( ثقافة الحرير ) ، تلك المادة الطبيعية ، عجيبة الصفات ، التي هُرِّبت من الصين على يد راهبين مسيحيين ، في عصاتين مُفرغتين _ تحت طائلة عقوبة الإعدام _ إلى بيزنطة وإلى العالم القديم بعامة ، حيث غدت سورية وقتها ، أحد أهمّ مراكز الإمبراطورية لإنتاج الحرير ولا عن الاكتشافات العديدة الأخرى ، ولكن ماذا عن الأدب وعن الإبداع وعن التألق فيما يسمى اليوم
( بالعلوم الإنسانية ) ؟
مدخل إلى الأدب الصيني:
كتاب آي _ كنغ ( I _ King ) أي كتاب التحولات ، يُعتَبر الكتابَ الأقدمَ ، المحتوي على القوانين اللاَّهوتية والتصورات الدينية ، التي كان يتم عرضها بشكل فقير بالتَّصورات، ومتعلق أكثر بالنبوءات .
ووجدَ هذا الكتاب في العقود الأخيرة ، اهتماماً في الغرب ، لدى نخبة قليلةٍ وخبيرة من المهتمين بالفكر والأدب الصيني ، وذلك بسبب صعوبات فهمه .
من الكتب القديمة عندهم هناك كتابان هامان ، الأول منهما : كتاب شو _ كنغ ( Shu _ King ) وهو عرض تاريخي وجغرافي يحتوي على العادات والتقاليد والتعليمات المتعلقة بالأخلاق وبالعادات الحميدة الواجب اتباعها والسّعي وراءها .
من خلال هذه الكتب الهامة في تاريخ الفكر الصيني ، يتبدَّى لنا ، نوع الشعور الحياتي الحاسم لديهم والمتمثل في : القانون والموروث ، حيث الشكل والنمط المألوف يسيطر على كل مناحي الحياة ، وهذا ما يقود إلى الفراغ والتَّجمد والطريق المسدود الذي طال مختلف نواحي الحياة ، ومنها الشعر، وبخاصة الشعر الوجداني والغزلي الذي يشكل أساس الشعر الصيني بعامة ، والذي وصلنا منه على مدار القرون ، تيار ضخم من القصائد تُعدُّ بالآلاف .الشعر الصني:
في كتاب الشَّي _ كنغ ( Shi _ King ) نجد أكثرَ من ثلاثمئة قصيدةٍ تُعتَبر من أفضل قصائد الغزل القديمة في الصين.يُنسب هذا الكتاب كما الكتب الواردة أسماؤها أعلاه إلى الحكيم الشهير"كونغ_فو_تسي" (Kung_fu_tse ) المعروف عندنا ، تحت اسم " كونفوشيوس "_ 551 _ 479 ق.م _ والذي قام بهذه الاختيارات المعتَبرة بالمقارنة مع غيرها من الموروث الشعري أنموذجية ، وإن كانت لا تصل إلى القارئ في خارج الصين ، إلاَّ كأنموذجات مملّة لأنها برغم الاختلاف في موضوعاتها ، تتشابه كما تشبه الوردة الوردةَ الأخرى ، حيث يغلب عليها طابعُ اليوميَّ : الحب _ العائلة _ صيد السمك _ العمل _ الفصول ... إلخ وتبدو تارة مشاكِسة ، بطولية ، ثرثارة ، وبيتيّة ساذجة ... إلى آخر هذه الصفات .اللغةُ الصينيةُ وشكلُ الخطِ أيضاً تغريانِ الشاعرَ الصينيَّ القديمَ إلى اللعبِ والتَّلاعبِ بالإمكاناتِ الشكلانيةِ لرموزِ اللغةِ وإلى التَّمسك بالموروثِ الذي يُفضي إلى تلك الغنائيةِ الفارغةِ_كما رأينا في النص أعلاه _ .
إنّ ترجمة الشعر الصيني ستظلّ دوماً ، شأنها شأن ترجمة الشعر بعامة .هناك مسألة هامة أخرى وهي أنَّ الأدب الصيني الكلاسيكي يستعمل كتابةً خاصةً به ولغةً خاصةً أيضاً بعيدةً كلّ البعد عن الكلامِ المُتداوَل ، بشكل لا يسمح بالتعبير عنه بالكلام الشفهيِّ ، وكانت هذه اللغة القديمة ضروريةً لدخول الموظفين في خدمة الدولة ، وكان لِزاماً عليهم إثبات معرفتها بفحوصٍ خاصةٍ ، واقتصرت معرفةُ اللغةِ القديمةِ على الأغنياء ، الذين يستطيعون تَمويل دراسة وتعلُّم أبنائهم لها فترةً شاقةً وطويلةً ، وكان من الضّروري ( ترجمتها ) _ إنْ صحَّ التعبير _ مِن الكلمة الصينية المكتوبة إلى تلك المقروءةِ عند الناس العاديين حتى يتمكنوا مِن فَهمها ، كما ذكَر عالمُ اللغة الألماني" كارلْ أريندْ "_( Carl Arendt).
بالمناسبة لقد كَتبَ " شيمي ماو " _ الرفيق ماو _ ثلثي قصائده الـ ( 37 ) على هذه الطريقة المعقدة الكلاسيّة التي تَلتزم المقطعَ ( الشّكل ) الكلاسيكيِّ دون الالتزام بالنوعية الصوتية أو بالموضوع ، أما الثلث الأخير من قصائده فقد كتبها على طريقة قصيدة ( شي _ لو ) _ Chi _ Lu _ الغنائية ذات السطور الثمانيةِ التي تحتوي كلٌّ منها على سبعةِ أقدامٍ _ رموزٍ _ تلفظُ في الصينيةِ كمقطعٍ واحدٍ _ وهذا النمطُ يَتْبعُ نوع ( الشِّي _ Chih ) أي القصيدة الحقيقية ، وله قصائدَ كُتبتْ على أساليبَ قديمةٍ أخرى .
كما في قصيدةِ ( تسو ) كذلك نجدُ قصيدةَ ( شي ) مُقفَّاةً أيضاً ، غيرَ أنَّ أنظمتها المتعلقة بالإيقاعِ وبالنُّطقِ تتطلَّبُ جهداً عالياً ، وشَهِد علماءُ اللغةِ الغربيونَ لـ( ماو _ تسي _ تونغ ) بسيطرةٍ كافيةٍ على قواعدِ وأساليبِ كتابة هذا اللَّونِ الشعريِّ المعقَّد . ( للمزيد انظر دراستنا في الآداب الأجنبية _ دمشق _ العددان 43 _ 44 ربيع وصيف 1985 _ السنة الثانية عشر _ ص 201 _ 220 ) .
لقد تطوَّرت قصيدة ( تْسو _ Tzu ) في القرن الحادي عشر على يدِ بعضِ الشعراء من أمثال ( سو تونغ بو _ Su tung po ) وأدخِلتْ فيها موضوعات بطولية ، ولم تعد تقتصر على مواضيع الحب فقط ، وعلى الرُّغم من أنها لم تعد تُرافَقُ بالموسيقى ( الخارجية ) إلاَّ أنها لم تزل حافلةً بموسيقاها الذَّاتيةِ.
وهي تتألفُ من مقاطع طويلة وقصيرة أي من ( أبيات ) ثلاثية ورباعية وخماسية أو أكثرَ وهي ليست
( شعراً حراً ) وتستمدّ من هذا التَّباينِ العددي إيقاعَها الخاص . هذه القصيدةُ الغنائية الصعبةُ كانت تنظم وترتَّلُ على ألحانِ مقطوعات موسيقيةٍ جاهزةٍ ترافقها آلاتٌ وتَريَّةٌ ومزمارٌ في البّدءِ ، وتعتبرُ استناداً إلى رقتها وعذوبتها من روائع أدب الحب الصيني وتحتلُّ مكانةً مرموقةً في الأدب العالمي .
لم يكن مِن النادرِ أبداً في تاريخِ الصينِ القديم أنْ يكتبَ بعضُ الحكامِ والأباطرةِ والقادةِ الشعرَ ، غير أنَّ القلةَ القليلةَ كان يمكن لهم القولَ ، كما قالَ الإمبراطور ( بو شو إي ) _ Po Chu I _ عن نفسه : بأن شعره يروى على" أفواه الرّعيانِ وخادمي الخيولِ ويعلق على جدرانِ القصورِ والمعابد ومحطات البريدِ ".
في حوالي القرن الثاني الميلادي أحبَّ القيصر ( تساو ، تساو ) _ Tsao Tsao _ وأولادُه جميعاً الشعرَ وكتبوه أيضاً ، وأما القيصر ( تاي تسو )_ Tai Tsu _ الذي انتصر على غريمه القيصرَ( الشاعرَ ) ( لي يو ) _ Li Yu _ فقد قال عنه ساخراً : ( لو أضاعَ " لي يو " الوقتَ في إدراةِ الإمبراطورية ، بدلاً مِن إضاعته في الشعر ، فكيف كان ممكناً أن يصبحَ أسيري ؟التعليماتُ الناظمةُ في علاقاتِ التَّعايشِ بين الناسِ ، لعبتْ دوراً هاماً في حياةِ الصِّينيين ، فلا عجبَ إذن أنْ تحتلَّ الحِكَم والأمثالُ مكانةً هامةً في آدابهم الكلاسية ِ ، ويُعتبرُ الحكيمُ _ الفيلسوفُ ( كونغ _ فو _ تسي ) _ Kung _ Fu _ Tsi _ ( كونفوشيوس ) من أهمِ مَن كتبَ في هذا المجال ، الأمر الذي رفعه تدريجياً عند الشعب الصيني بخاصةٍ إلى مرتبةِ القديسينَ العاليةِ ، حيث أصبحت آراؤهُ وتعليماته موضعَ تدريسٍ وبحثٍ حتى في الجامعاتِ ، لأنه صارَ معلّماً عالمياً .
إلى جانب كتاب ( تشون _ تْسينْ ) _ Tshun _ Tsin_ أي كتاب ( الربيع _ الخريف ) وكتاب
( تسو _ تشوان ) _ Tso Tsohuan _ نجد أهمَّ أفكاره الرئيسةَ في كتابه ( لون _ يُوِي ) _ Lun _ Yue _
أي كتاب ( المحاورات ) الذي يعتبر من أهم كتبه وأعماله الفكرية ،الذي نذر نفسه فيها من أجل تربية الإنسان لأنْ يصبحَ ويكونَ إنساناً حقاً . إنه المعلّم اليومي الذي تنهَلُ الجماهيرُ من حكَمِه وتعليماته الموجّهة دوماً والمتوجّهةِ نحو نواميس الحياة المُعاشَة اليومية وضروراتها فقط ، على الرّغم من أنّه لا يُعير الحياةَ ، بحدّ ذاتها ، كبيرَ اهتمامه ، ناهيكَ عمّا يسمّى بالحياة الأخرى ، لأن جوهرَ فلسفته هو :" هنا ، والآن " .
لقد غدت تعليمات " كونغ _ فو _ تسي " ، على مدار القرون ، إرثاً للبشرية جمعاء يُدرَّسُ حتى في الجامعاتِ ، شعارُها ( تعليماتنا مخلصةٌ لذاتها ، طيبةٌ متسامحة مع الآخرين : فيها تجدُ كلَّ شيء ) .
على الرغم مِن أهمية " كونفوشيوس " البالغةِ لدى الشعب الصيني وغيره مِن الأمم ، فإنَّ " لاو _ تسي " _ Lao _ Tse _ ، معاصر كونفوشيوس الشابْ يومَئذٍ ، ربما يعتبر بالنسبة للعالم الخارجيِّ أكثر أهميةً منه . إنه صوفي يرتبط به مفهومُ " التَّاويَّةِ " ( الطَّاويَّة ) _ Tao _ وهو مبدأٌ في الحياةِ والتفكير وليس ديناً بمعنى الكلمةِ . كتبَ عن التَّاويَّةِ المرحوم الأديب ( الهادي العلوي ) كتاباً هاماً .إنَّ " لاو _ تسي " متصوِّفٌ وحيدٌ غارقٌ في البحثِ عن أسرارِ الحياةِ ، لا نعرفُ الكثيرَ عن حياته وإن كنا نعرف الكثيرَ عن أعمالهِ ، ولعلَّ مِن أهمها كتاب " الدرب الصحيح " _ تاو _ تي _ كنغ _ الذي وصل حدُّ الإعجاب به في الغرب مِن قِبل البعض إلى أن جعلوه رديفاً أو بديلاً عن الإنجيل . تعليماتُ مذهب التَّاويَّةِ الصُّوفية ، والتَّاويَّة هي ( أمُّ كل الكينوناتِ ) والجذر الأول للسماوي والأرضيِّ ، تحتفي بمفهومَ " العَوْدُ الأبديُّ " ، كما سمَّاه الفيلسوف الألماني " فريدريشْ نيتشهِ " _ Fr . Nietze _ لاحقاً ، الذي يشكلُ فيها جوهرَ الموضوعِ ، والذي جذب إليه العديدَ مِن العقولِ الباحثةِ عن الحقيقةِ ومعنى الوجود . بهذا يعتبر " لاو _ تسي " بحقٍّ أحدَ العظماءِ الأقلاَّء المنتمينَ إلى البشريةِ جمعاءَ .
مادمنا في سياقِ الحديث عن الأدب الصيني فلا بأس أن نشيرَ _ سريعاً – إلى الرواية وإلى الدراما.
الروايةُ الصينيَّةُ :
لم تَخرج الروايةُ الصينيةُ مِن إطارها القوميِّ إلاَّ في حالاتٍ نادرةٍ ، فهي تعكسُ خصوصيةَ حياةِ الشعبِ الصيني وما تتميزُ به من عاداتٍ وتقاليد قد لا تُفهم في الخارج تماماً ، حيث تبقى غريبة لدى القارئ غير الصيني الذي يجد أمامه حدوداً للفكريِّ فيها أيضاً .
من الروايات الهامة في الغرب اعتُبرتْ رواية " يو _ كياو _ لي " _ Yue _ Kiao _ li_ التي تتحدث عن حب شاعر إلى فتاتين ، وكذلك رواية " القلب الحجري والحجر الكريم " _ الترجمة بتصرف _ ورواية الأديب " كنغ _ بنغ _ ميه " _ King _ Ping _ Meh _ المسماة ( هْسي ونساؤه الستة ) _ رواية غرامية _ وهي من الروايات الصينية القديمة القليلة التي وجدت لها انتشاراً نسبياً في الغرب وتوجد منها نسخة ألمانية في مكتبتي صادرة عن دار نشر الجزيرة ( Insel ) في مدينة لايبزغ عام 1973 وهي مزينة برسوم صينية بطبعة خشبية من العام 1695 وتقع في نحو 864 صفحة من القطع المتوسط . أما قراءتها فبدت لي مسهبة ومملة في كثير من المواضع .
الدراما الصينية :
لا تشذ الدراما الصينية بالنسبة لاستقبالها خارج الصين عن الرواية ، حيث بقيت غريبة على المتلقي، وهي غالباً ما تحتوي على مشاهد مشخصة من الروايات ومن " التمثيل الصامت " وعلى كمٍ من المشاهد الطريفة ، تتخللها بعض الرقصات والمشاهد والعناصر الأوبرالية الأصل . من خلال فولتير " Voltaire " ومسرحيته المسماة " L' orphelin de la chine" من العام 1754 استطاعت المسرحية صينية الأصل المسماة " يتيم عائلة تشاو " ( Tschao ) أن تجد النجاح على مسارح الغرب ، وهي تتحدث عن الوفاء وعن تضحية الأب بابنه لإنقاذ الصديق ، كما قام الشاعر الألماني ( كلابوند ) _ Klabund_ بإيصال المسرحية الصينية المسماة : ( Hoei _ Lan _ Ki ) للمؤلف ( Li _ Hing _ Tao ) إلى الشهرة وهي معروفة عندنا أيضاً من خلال مسرح ( برتولد بريشت ) ( B.Brecht ) – أوبرا القروش العشر – التي تتحدث عن صراع اثنتين من الأمهات حول انتماء طفل إلى كل منهما وعن القضاء بالأمر.