تمهيــــد:
يعد التصوف من أهم المباحث الأساسية التي يدرسها الفكر الإسلامي إلى جانب علم الكلام والفلسفة والفكر العربي المعاصر. وقد قطع التصوف الإسلامي أشواطا كثيرة في تطوره إلى أن تحول إلى طرق وزوايا ورباطات دينية للسالكين والمريدين يقودهم شيخ أو قطب. وقد قامت هذه الطرق والزوايا بأدوار إيجابية تتمثل في خدمة الناس والفقراء والمحتاجين على مستوى الاجتماعي، والدعوة إلى الجهاد على المستوى السياسي، بيد أن هناك من الزوايا الطرقية التي كان لها دور سلبي يتمثل في مهادنة الاستعمار والتحالف معه ضد السيادة الوطنية ومصلحة الشعب.
هذا، وللتصوف علاقة وطيدة بالأدب نثرا وشعرا، إذ استعان المتصوفة بالشعر للتعبير عن مجاهداتهم وشطحاتهم العرفانية، كما استعانوا بالنثر لتقديم قبساتهم النورانية وتجاربهم العرفانية الباطنية. إذاً، ما هي علاقة التصوف بالأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة؟
1- مفهـــوم التصوف:
من يتأمل الاشتقاقات اللغوية لكلمة التصوف، فإنه سيجد أن الكلمة تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو؛ لأن هم المتصوف هو تزكية النفس وتطهيرها وتصفيتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشير الكلمة إلى أهل الصفة الذين كانوا يسكنون صفة المسجد النبوي، ويعيشون على الكفاف والتقشف وشظف العيش، ويزهدون في الحياة الدنيا. وهناك من يربط التصوف بلباس الصوف ؛ لأن المتصوفة كانوا يلبسون ثيابا مصنوعة من الصوف الخشن، في حين ذهب البيروني إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفيا اليونانية، والتي هي بمعنى الحكمة.
وعلى الرغم من تعدد معاني كلمة التصوف، فإن الدلالة الأميل إلى المنطق والصواب هي اشتقاقها من الصوف الذي يشكل علامة تميز العارف وتفرد الزاهد عن باقي الناس داخل المجتمع العربي الإسلامي، وقد يكون هذا تأثرا بالرهبان النصارى أو تأثرا بأحبار اليهود.
ويقصد بالتصوف في الاصطلاح تلك التجربة الروحانية الوجدانية التي يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية و الذات الربانية من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، ويمكن تعريفه كذلك بأنه تحلية وتخلية وتجل، ويمكن القول أيضا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفا وتجليا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية.
وإذا كان الفلاسفة يعتمدون على العقل والمنطق للوصول إلى الحقيقة، وعلماء الكلام يعتمدون على الجدل ، والفقهاء يستندون إلى الظاهر النصي، فإن المتصوفة يتكئون في معرفتهم على القلب والحدس الوجداني والعرفان اللدني متجاوزين بذلك الحس والعقل نحو الباطن. لذا يعتبر التأويل من أهم الآليات الإجرائية لفهم الخطاب الديني والصوفي على حد سواء.
3- الأدب الصوفي:
الشعر الصوفي القديم:
يمكن تقسيم الأدب الصوفي إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول يبدأ من ظهور الإسلام وينتهي في أواسط القرن الثاني للهجرة؛ " وكل ما بين أيدينا منه طائفة كبيرة من الحكم والمواعظ الدينية والأخلاق تحث على كثير من الفضائل، وتدعو إلى التسليم بأحكام الله ومقاديره، وإلى الزهد والتقشف وكثرة العبادة والورع، وعلى العموم تصور لنا عقيدة هذا العصر من البساطة والحيرة.
والطور الثاني يبدأ من أواسط القرن الثاني الهجري إلى القرن الرابع. وهنا يبدو ظهور آثار التلقيح بين الجنس العربي والأجناس الأخرى، وفيه يظهر اتساع أفق التفكير اللاهوتي، وتبدأ العقائد تستقر في النفوس على أثر نمو علم الكلام. وفيه يظهر عنصر جديد من الفلسفة.
والأدب الصوفي في طوريه الأول والثاني أغلبه نثر، وإن ظهر الشعر قليلا في طوره الثاني. وفي الطور الثاني هذا يبدأ تكون الاصطلاحات الصوفية والشطحات.
أما الطور الثالث فيستمر حتى نهاية القرن السابع وأواسط القرن الثامن، وهو العصر الذهبي في الأدب الصوفي، غني في شعره، غني في فلسفته، شعره من أغنى ضروب الشعر وأرقاها، وهو سلس واضح وإن غمض أحيانا.
هذا، وقد تطور الأدب الصوفي نثرا وشعرا، وبلغ الشعر الصوفي ذروته مع ابن العربي وابن الفارض في الشعر العربي، وجلال الدين الرومي في الشعر الفارسي.
ولم يظهر الشعر الصوفي إلا بعد شعر الزهد والوعظ الذي اشتهر فيه كثيرا أبو العتاهية ، و قد ظهر الشعر الصوفي كذلك بعد شعر المديح النبوي وانتشار التنسك والورع والتقوى بين صفوف العلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين كإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، وداود الطائي، ورابعة العدوية، والفضيل بن عياض، وشقيق البلخي، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخي ،وعمرو بن عبيد، والمهتدي. ويعني هذا أن الشعر الصوفي ظهر في البداية عند كبار الزهاد والنساك، ثم" أخذت معالمه تتضح في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فذو النون (ت245هــ) واضع أسس التصوف، ورأس الفرقة لأن الكل أخذ عنه وانتسب إليه، وهو أول من فسر إشارات الصوفية وتكلم في هذا الطريق.
ولم ينته القرن الثالث الهجري حتى أصبح الشعر الصوفي شعرا متميزا يحمل بين طياته منهجا كاملا للتصوف، وأما الذين جاؤوا بعدهم فإنهم تميزوا بالإفاضة والتفسير.
ويقول الدكتور شوقي ضيف في هذا السياق:" ومنذ أواخر القرن الثالث الهجري تلقانا ظاهرة جديدة في بيئات الصوفية، فقد كان السابقون منهم لاينظمون الشعر بل يكتفون بإنشاد ماحفظوه من أشعار المحبين وهم في أثناء ذلك يتواجدون وجدا لايشبهه وجد، أما منذ أبي الحسين النوري المتوفى سنة 295هـ فإن صوفيين كثيرين ينظمون الشعر معبرين به عن التياع قلوبهم في الحب آملين في الشهود مستعطفين متضرعين، مصورين كيف يستأثر حبهم لربهم بأفئدتهم استئثارا مطلقا، نذكر منهم سحنون أبا الحسين الخواص المتوفى سنة 303، وأبا علي الروذباري المتوفى سنة 322 ، والشبلي دلف بن جحدر المتوفى سنة 334 وجميعهم من تلامذة الجنيد.
وواضح أن العصر العباسي الثاني لم يكد ينتهي حتى تأصلت في التصوف فكرة المعرفة الإلهية ومحبة الله كما تأصلت فكرة أن الصوفية أولياء الله ،
وقد ترتب عن هذا أن اشتهر كثير من الصوفية في العصر العباسي كالسري السقطي الذي يعد أول من تكلم في لسان التوحيد وحقائق الأحوال ، وهو أيضا أول من تكلم في المقامات والأحوال قبل ذي النون المصري4، وسهل بن عبد الله التستري، والجنيد، والحسين بن منصور المشهور باسم الحلاج، والحسن بن بشر، ويحيى بن معاذ، وأبي سعيد الخراز، وحمدون القصار النيسابوري، والمحاسبي، وابن العربي ، وابن الفارض، والشريف الرضي، والنفري صاحب كتابي:" المواقف" و" المخاطبات".
الأدب الصوفي الحديث:
إذا كان الكثير من المتصوفة هم الذين كتبوا الأشعار الصوفية في محبة الله وفنائه في الشعر العربي القديم، ففي العصر الحديث نجد الشعراء هم الذين دبجوا تجارب صوفية في قصائد ذاتية وجدانية كما في القصائد الرومانسية عند عبد الكريم بن ثابت في مصنفه الشعري :" ديوان الحرية" الذي قدم فيه الشاعر رحلات صوفية وجدانية يقوم بها الشاعر السالك المسافر بتعراجه في السماء ، وهو في حالة سكر وانتشاء، ولا يعود إلى وعيه إلا مع فترة الصحو ويقظة اللقاء والوصال.
الشعر الصوفي المعاصر:
مع انطلاق الشعر العربي المعاصر أو ما يسمى بشعر التفعيلة منذ منتصف القرن العشرين، بدأ الشعراء يشغلون التراث في شعرهم على غرار تجربة إليوت في ديوانه "أرض اليباب" ، حينما اتكأ على الموروث الأسطوري لنعي الحضارة الغربية وإعلان إفلاسها.
واقتداء بإليوت، غدا الشعراء العرب المعاصرون يوظفون التراث الأسطوري والتاريخي واستخدام الأقنعة الدينية والفنية والأدبية والصوفية، وتشغيل الرموز المكانية والطبيعية واللغوية من أجل خلق قصيدة الرؤيا والانزياح التي تتجاوز طرائق الاجترار والامتصاص والاستنساخ في التعامل مع التراث إلى طريقة الحوار والتناص قصد خلق تعددية صوتية تحيل على المعرفة الخلفية للكاتب ومرجعياته الثقافية وسمو حسه الشعري، وجمعه بين المتعة والفائدة في شعره.
هذا، وإن استعارة" الشخصيات الصوفية مثلت ظاهرة واضحة في الشعر المعاصر، وقد اختار شعراؤنا المعاصرون شخصيات عديدة من أهل التصوف واجهوا بها قارئ قصائدهم، واتخذوا منها قناعا يتحدثون به ومن ورائه عن مشاغلهم ومعاناتهم ومواقفهم. وليس ذلك فحسب، بل نجد الشاعر المعاصر أحيانا يندمج في الشخصية الصوفية ويحل فيها حلولا صوفيا. ويتحد بأبعادها بفعل تشابه أحواله بأحوالها.
ومن الشعراء الذي وظفوا الخطاب الصوفي نذكر: بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وخليل حاوي ومحمد عفيفي مطر ومحمد محمد الشهاوي وأحمد الطريبق أحمد ومحمد السرغيني وحسن الأمراني ومحمد بنعمارة وعبد الكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام ومحمد علي الرباوي وآخرين.
وقد استعار هؤلاء الشعراء مجموعة من الشخصيات الصوفية كشخصية النفري عند أدونيس، وشخصية السهروردي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي عند عبد الوهاب البياتي، وشخصية الحلاج عند صلاح عبد الصبور في قصيدته الدرامية" مأساة الحلاج"، وعبد الوهاب البياتي في قصيدة بعنوان" عذابات الحلاج"، وأدونيس في قصيدة تحت عنوان" مرثية الحلاج"، وشخصية إبراهيم بن أدهم عند الشاعر التونسي محيي الدين خريف، وشخصية رابعة العدوية عند نازك الملائكة في قصيدتها" الهجرة إلى الله".
ويمتاز الشعر الصوفي المعاصر باستعمال التناص بكثرة فضلا عن الاستشهاد بالمستنسخات والمقتبسات والشذرات العرفانية. كما يشغل الشعراء المعاصرون في قصائدهم ودواوينهم الشعرية خطاب الانزياح الصوفي و الرموز الإحالية والعبارات الموحية الرشيقة. وهناك من الشعراء من سقط في خاصية الإبهام والغموض خاصة الشاعر الحداثي أدونيس الذي حول كتاباته الشعرية إلى طلاسم من الصعب تفكيكها و فهمها وتأويلها . وهناك من أحسن توظيف التناص الصوفي في سياقه الشعري الملائم إبداعيا، وهناك من وظف العبارات العرفانية والمفاهيم الصوفية دون أن يعيش التجربة أو يستكنهها بشكل جيد؛ مما أوقع نصوص الكثير منهم في التصنع الزائد والتمحل الشعري.
خاتمــــة:
ويتضح لنا مما سبق ، أن المتصوفة والشعراء على حد سواء استعملوا الكتابة الشعرية للتعبير عن تجاربهم العرفانية وأحوالهم الذوقية ومجاهداتهم النفسية ومقاماتهم الباطنية.
هذا، وقد ترابط الشعر مع التصوف منذ مرحلة مبكرة لينتعش الشعر الصوفي مع القرن الثالث من العصر العباسي. وقد سبق هذا الشعر ما يسمى بشعر الزهد وشعر المديح النبوي اللذين سبقا الشعر الصوفي منذ فترة مبكرة. وقد آثرنا أن يكون موضوعنا منصبا على الشعر الصوفي مرجئين الكتابة النثرية إلى دراسة لاحقة إن شاء الله.
وعليه، فقد بينا أن الشعر الصوفي عرف عدة أطوار في القديم والحديث، ففي القديم ارتبط التصوف بشعر الزهد وشعر المتصوفة السنيين، لينتقل بعد ذلك إلى شعر المتصوفة الغلاة أو المتصوفة الفلاسفة.
وإذا كان الشعر الصوفي في القديم من نظم المتصوفة ، فإن الشعر الصوفي في العصر الحديث والمعاصر من نسج الشعراء المبدعين الذين صاغوا قصائد صوفية في إطار تجارب كلية أو جزئية أو في شكل استشهادات تناصية موحية أو في شكل مستنسخات تناصية وظيفية وغير وظيفية.