بَيني وصمتِ الحزنِ أُغنيةٌ أُردِّدها على سريرٍ قاسٍ تفوحُ منه رائحةُ الدَّواءِ..
هناك.. على سريرٍ آخرَ امرأَةٌ قُطعتْ رِجلُها وفاحتْ منها رائحةُ أَنينِ قلبٍ يتعذَّبُ..
أَقدامُ الممرِّضاتِ تهسهسُ في تجاذبٍ روتينيٍّ يدبُّ على أَجفاني الثَّقيلةِ بالأَحلام وبنعاسٍ مشوَّشٍ قاتمٍ، فترتجفُ مرعوبةً..
حطَّتْ على كتفِي فراشةٌ بيضاءُ والفجرُ يتهيَّأُ للبزوغِ، وبابتسامةٍ حنونةٍ ناولَتني حبَّةَ الدَّواءِ وكوبَ ماءٍ..
بصمتٍ عادتْ أَدراجَها وأَسدلتِ السَّتائرَ، أَمَّا أَنا فغفوتُ على صوتِها الشَّجيِّ تترنَّمُ بنشيدٍ دافئٍ..
الطَّبيبُ يريدكِ في غرفةِ المكتبِ..
أَنا؟
نعم.. تَعالي..
دقَّاتُ قَلبي تسارعتْ.. سرتُ بخطىً بطيئةٍ.. تزاحمتِ الهواجسُ برأْسي ثقيلةً:
هلِ اكتشفَ أَنَّ مرضِي عضالٌ؟ إِذاً لماذا يُريدني في هذا الصَّباحِ الباكرِ؟ هل قَلبي متعبٌ فلمْ يَعدْ قادراً على ضخِّ الحياةِ في جسدِي النَّحيلِ؟
وضعتِ الممرِّضةُ كوباً من الشَّاي أَمامي وانصرفتْ..
لمْ ينظرْ إِليَّ.. قالَ وهو يحدِّقُ بملفٍّ أَمامَه:
عليكِ عملُ صورٍ بجهازِ الرَّنينِ المغناطيسيِّ لنطمئنَّ على صدركِ.
هل أَنا مصابةٌ بداءِ السُّلِّ سيِّدي؟
ابتسمَ ابتسامةً صفراءَ كالمرضِ.. أَزعجهُ استنتاجِي.. قطَّبَ جبينَه المتعبَ وأَجابَ:
لا.. أَنتِ فقطْ تُعانينَ من التهابٍ حادٍّ في الرِّئةِ نتيجةَ تعرُّضكِ لبردٍ شديدٍ..
تعجَّبتُ.. بردٌ شديدٌ في الصَّيفِ!
لا.. قلتُ هامسةً: هو بردٌ شديدٌ في الرُّوحِ، ووطنٍ مجروحٍ..
وما شأْنُ جرحِ الوطنِ بالتهابِ الرِّئةِ؟
هو تواصلٌ لالتهابِ رئةِ الوطنِ..
ابتسمَ الطَّبيبُ وقالَ:
بعدَ التَّصويرِ سنعرفُ إِذا كانَ سيُشفى الوطنُ وتشفينَ أَنتِ.
قالَها بلهجةِ هزئٍ ومضَى..
هل ظهرتِ النَّتيجةُ؟
سأَلتُ تلكَ الفراشةَ البيضاءَ الممتلئةَ عاطفةً ورحمةً.. صمتتْ..
أَعدتُ السُّؤَالَ:
هل ظهرتِ النَّتيجةُ؟
أَجابتني بصوتٍ كأَنه دقَّاتُ السَّاعةِ رتابةً وبرودةً:
لا أَدري..
ترَكتني وقرعُ حذائِها يُهَالُ على رأْسي..
هزَّ الطَّبيبُ رأْسَه موافقاً، وعادتْ فراشَتي البيضاءُ وإِشعاعُ فرحٍ يملأُ عينَيْها، ووجهِي الأَصفرُ يرجُوها أَن تتكلَّمَ..
غمرَتني وقالتْ:
سلامتكِ.. الصُّورُ أَثبتتْ أَنكِ سليمةٌ ومعافاةٌ مائةً بالمائة.. الالتهابُ يمكنُ علاجُه ببساطةٍ، وستعودينَ إِلى البيتِ قريباً..
سأَلتُها:
والوطنُ هل سيُشفى إِذا شفيتُ؟
سؤالٌ سطحيٌّ طفوليٌّ لا يتناسبُ مع ثقافتِي ومعرفتِي..
صمتتْ، ولكنَّ الوجهَ الملائكيَّ تأَلَّق كالبدرِ.. ترَكتني وذهبتْ.. نوبةُ سعالٍ حادَّةٍ انتابَتني.. لا زالتْ رئةُ الوطنِ تنزفُ التهاباً.. هكذا قالَ مذيعُ إِحدى القنواتِ..
ما شأْنُ رئَتي برئةِ الوطنِ؟ الحمدُ لله رئَتي لا خوفٌ عليها، والالتهابُ من النَّوع الذي يَشفى ولا مضاعَفات لهُ..
قالَ مذيعُ محطَّةٍ أُخرى:
الوطنُ بخيرٍ، وبوادرُ الأَزمةِ في طريقِها إِلى الزَّوالِ..
صرخَ مذيعٌ آخرُ مقهوراً مشتكياً من (العصاباتِ المسلَّحةِ!) الَّتي تعبثُ بأَمانِ وأَمنِ الوطنِ..
قالتْ مذيعةُ إِحدى القنواتِ وهي تمطُّ شفتَيها وتتحدَّثُ عن ظلمِ النِّظامِ..
اشتدَّ الوجعُ، وانتابَتْني نوبةٌ من السُّعالِ الحادِّ، فأَقفلتُ جميعَ المحطَّاتِ..
أَخذتُ رُوحي إِلى وسادةِ الحلمِ وغفوتُ..
رجالٌ ونساءٌ بأَثواب ملوَّنةٍ، باليةٍ، فخمةٍ، مهندمةٍ.. عطرٌ باريسيٌّ منعشٌ ورائحةُ عرقٍ وطينٍ.. وجوهٌ ووجوهٌ.. صراخٌ وحوارٌ وصمتُ كلامٍ:
يا أَهلي وسادتي وبني قومي..
رفعتُ صَوتي وقلتُ:
تَعالوا نذهبْ مع المنطقِ ضدَّ الإِرهاب والتَّشهيرِ.. ومع النَّزاهةِ والاستقامةِ ضدَّ التَّلفيقِ والافتراءِ.. مع إِعطاءِ الفرصةِ لكلِّ طرفٍ ليقولَ بحرِّيةٍ ما يريدُ دونَ خوفٍ أَو رياءٍ.. مع بناءِ المدارسِ والمسارحِ..
ارتفعَ صَوتي:
اهدِموا السُّجونَ.. أَطعموا الفقيرَ..
تعالتِ الأَصواتُ مهدِّدةً متوعِّدةً.. لم أَعدْ أَفهمُ ما أَقولُ.. احتجَّ المحتجُّونَ وصفَّقَ المؤيِّدونَ..
يدٌ حانيةٌ تُوقظني:
ما بكِ كنتِ ترتجفينَ وتهلوسينَ؟! يا إِلهي حرارتكِ مرتفعةٌ.. لا هذهِ رئةُ الوطنِ.. أَفيقي.. هزَّتني من يدِي..
نظرتْ بحنانٍ.. ما أَشدَّ تعلُّقكِ بالوطنِ.. كانَ كابوساً..
طأْطأْتُ رأْسي حتَّى لا تَرى دمعةً جالتْ بعينِي، وقلتُ:
لا حولَ ولا قوَّةَ إِلا بالله..
وضعتْ يدَها على وجهِي بلطفٍ وحقنتْ وريدِي بمصلٍ مضادٍّ للالتهاباتِ..
غداً ستغادرينَ.. لا يوجدُ عندكِ ما يستوجبُ البقاءَ فأَنتِ بأَلفِ خيرٍ..
قلتُ بسرِّي:
هذا الطَّبيبُ الماهرُ استأَصلَ المرضَ من رئَتي الملتهبةِ..
ردَّد صدَى صَوتي:
هل سيعرفونَ كيفَ يستأْصلونَ المرضَ من التهابِ رئةِ الوطنِ؟ تُرى هل الحاكمُ في بلادِنا طبيبٌ ماهرٌ؟
25/7/2011فعلا كتبت هذا النص في المشفى//تحياتي//أملي القضماني