عبد الكريم الحسيني
كل شعوب العالم لها عادات وتقاليد في افراحها واحزانها والمسلمون بنقسمون حسب بلدانهم وحسب عقائدهم وعاداتهم ويمتاز العراقيون بمسحة حزن مؤلمه في كل فعالياتهم وحتى اغانيهم يشوبها لحن حزين ولباسهم يميل الا الاسود ولديهم مناسبات الحزن اكثر بكثير من مناسبات الفرح ولذك امتاز المجتمع العراقي بانه مجتمع حزين يشتاق الى البكاء والى الحزن بالرغم من انه مجتمع حي يحتاج الى ان ينفس عنه حزنه بالنكات والضحك والظرافه واللطافه ..
هذه الصفات والتي عليها المجتمع العراقي ولدت مجموعات تمتهن فعاليالت تؤدي مايناسب الحزن والبكاء على مدار السنه وتوزعوا على الاعمال كل حسب امكاناته وحاجته فمنهم من يقرأ الحزن على الناس بصوت حزين ان كان رجل او امرأه ويسمى ( الملا ) والمراه تسمى ( الملايه ) او العداده ومنهم من يكون مسؤول عن الطبخ والطعام والشراب واخرين عن ترتيبات المجلس والفرش واخرين عن جمع الواردات الماليه من المشاركين واخرين عن الكهرباء وتجهيزات الصوت وغيرها . وهذه الفعاليات تشمل المواكب الحسينيه والعزاءات الشخصيه و العداده هي موضوع مقالتنا ..
واللفظه لاتقتصر على شعائر الحزن فقط بل كانت تشمل التعليم الابتدائي ( الملا ) وتشمل نصائح دينيه ولكن وظيفة القراءه في المناسبات الحزينه التصقت بالملا والملايه او القارىء او العداده وهي عملية انشاد لحادثه واستدرار الحزن من قلوب المستمعين بكلمات وقصص مصاغه بنغم حزين وباسلوب محبب .
في تقاليد وميراث جميع الشعوب هنالك (ندابات) لرثاء الموتى.
لكن (الملاية) العراقية تتميز عن باقي الندابات بأن دورها(ديني) وليس اجتماعي فقط. حيث ان الميزة الاساسية لوظيفة (الملاية) انها متخصصة بالندب والرثاء على الشهيد الامام الحسين(ع) وباقي شهداء واقعة كربلاء او على فقيد من عامة الناس . اي ان وظيفتها اساسا (دينية) بالاضافة الى وظيفتيها الاجتماعية والثقافية ، لأنها تتقن القراءة والكتابة لكي تتمكن من قراءة (قصة المقتل) وما يتعلق بها من اشعار واقوال، بالاضافة الى انها تلعب دورا اجتماعيا متميزا ومحترما ( شبه مقدس) بين نساء الحارة.
تنقل لنا كتب التارخ إن أول ناع دخل (المدينة المنورة)، عن استشهاد سيدنا (الحسين بن علي بن أبي طالب)(ع)، هو (بشر بن حذلم ) و قد نقل نبأ مقتل الحسين(ع) إلى من تبقى من أهله وأهل مدينته، بأبيات شعرية شهيرة يقول فيها:
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها --- قتل الحسين فأدمعي مدرار
الجسم منه بكربلاء مضرج --- والرأس منه على القناة يدار
إلا إن الواقع إن يشير إلى إن مراثي الحزن كانت قد بدأت حتى قبل احتزاز رأس الحسين ( ع ) بأرض كربلاء، واستمرت دائرة الحزن مع العاده المعروفة لرفع الرؤوس على أسنة الرماح اثناء الحروب وبعد الانتصارات ..
يبدو ان وظيفة(الملايه) لها ارتباط مباشر بالندابات الدينيات في العراق القديم اللواتي كن متخصصات بالبكاء على (تموز) (اله الذكورة والخصب)، بعد موته في كل عام في اول شهر تموز، خلال العشرة ايام الاولى منه(لا حظ التشابه الغريب مع عاشوراء!!)، حيث يغيب في العالم السفلي، مع انتشار الحرارة والجفاف في ربوع النهرين. ويعود هذا الاله من جديد في اول الربيع في شهر نيسان (نيشانو)الذي يصادف في (21 آذار) أي يوم المنقلب الربيعي، حيث يعتبر اليوم الاول من السنة الجديدة حسب التقويم العراقي القديم. وقد انتقل هذا العيد الربيعي العراقي الى باقي شعوب المنطقة، وقد تبناه الايرانيون بعد احتلالهم لـ(بابل) في القرن السادس قبل الميلاد واطلقلوا عليه تسمية(نيروز) اي (اليوم الجديد) وهي ترجمة مقاربة لتسميته العراقية القديمة(حجتو) اي يوم الحج والتجديد.
والواقع إن شخصية الملاية تستجمع قدرات ومواهب شتى لأداء مهمتها الصعبة، فلا بد ابتداء أن تتمتع بشخصية قوية قادرة على التأثير، شخصية يكتنفها شيء من الهالة الاجتماعية تمنحها مكانة اعتبارية بين بنات جنسها، وتقربها من نموذج النواح الأول وإن بقدر ما، يجعل الدور الذي تؤديه مقنعاً وهي بهذا تجمع بين القدرة على تشخيص الحدث التاريخي الذي تتحدث عنه، والحضور في اللحظة المناسبه الذي يستدعيه الوقوف بين حشد من النساء الباحثات عن تفريغ المكبوت الاجتماعي والتاريخي الطويل والمتكثف، كما تستدعي مهتنها أو مهمتها الدينية إن شئت، أن تتمتع بصوت من طبقة معينة يجيد الأداء والأسلوب في التناغم مع أهات وأنات الكورس المتلقي، وضبطه لتأدية نشيد الدمع , وينطبق ذلك على قراء العزاءات والمقتل الذين انتقلت اليهم الطريقه من الملايه واصبحت مرافقه لهم في هذه المناسبات .
تقوم ألنساء في العراق بإقامة مجالس تعزية خاصه بهن،في حالات الوفات والعزاء بالميت و وايضا في شهر محرم. وغالباً ماتقام ((ألقراية)) أو ( قراية ألنسوان) او عزا النسوان في بيوت ألعوائل صاحبة المصاب وفي محرم في بيوت العوائل والوجهاء او ذات المكانه الدينيه ـ ألأجتماعيه العاليه، وتستمر في العزائات العاديه بين 3 – 7 ايام اما في محرم فأن القراية لمدة عشرة أيام،تتبعها اخرى في اربعينية الامام الحسين (ع ) وتقام غالباً في صحن الدار أو غرفة الضيوف ( ألديوان) حيث تجتمع ألنساء وهن ملبدات بالسواد و مسرحات الشعور، مكونات دائره أو عدة دوائر، بحسب عددهن، وتتصدرهن((ألملاية)) وهي التي تقرأ التعزيه وتنشد ألمراثي ألحزينه او ألتي تصور مأساة كربلاء وماحلَ بأهل البيت من ظلم وجور وسبي وتشريد، وتطعم حديثها بقصائد شعريه شعبية ترثي بها ألإمام ألحسين بألحان شجيه. وبعد مرور نصف ساعه تقريباً تدخل (( ألملاية)) وسط دائرة ألجالسين من النساء وتأخذ بالنواح وإنشاد مراثي حزينه من ألشعر ألشعبي بلحن جنائزي شجي يثير العواطف ويؤجج ألأحزان ويفجر ألدموع في المآقي، حيث تتعالى ألأصوات وألآهات والعويل مع اللطم على ألصدور بحركات إيقاعيه رتيبه وهن يصرخنَ بحراره ((أحوَ.. أحوَ..)) ثم ((ياحسين...ياحسين...))، تعبيراً عن حزنهن ومواساتهن للأمام ألحسين. وتشارك مجموعه صغيره من ألنساء (( ألملاية)) في ترديد ألبيت ألأخير من كل قصيدة، أو ألمقطع ألأخير من كل ((أبوذية)). ومن ألمعتاد أن تَصِعد (( ألملاية)) بعد ذلك من حرارة ألموقف حين ترفع صوتها عالياً وتقوم إلى جانب ذلك، بحركات وإيماءات ولطم صدرها ووجهها بيديها لتثير أحزانهم وشجونهم وتدفعهم أكثر للتوجع والنحيب. ويصل ألحماس إلى ذروتهُ حين تصل ألنساء إلى حاله من (( ألتوحد)) و (( الوجد)) حيث يأخذن بالتحرك نحو ألأمام مرة وإلى ألخلف مرة أخرى في حركة إيقاعيه على ضربات ألأيدي على ألصدور. وفي عزاء الرجال الشخصي تقرأ المواليد والفراكيات والاشعار والمديح ..
والمثل البغدادي المشهور
( عداده وماتلها ولد )
كاردينيا