قهر الاقتصاد(سوريا أنموذجا)
د. عدنان سليمان
يقهرنا الاقتصاد مرتين متتاليتين: مرة حين يأخذنا عبيدا لقوانينه وآلياته وضرورة عدم المساس بقدرته على اتزانه وتوازنه، ومرة أخرى بإدارته الحكومية، حين تنحاز لتلك الفوبيا الاقتصادية، في عدم قدرتها على التدخل في غير مصلحة الأسواق. وبذلك ينتصر علينا جميعاً كل من: «ادم سميث، وفريدريك هايك، وميلتون فريدمان، وجيفري ساكس»، أباطرة الليبرالية وأسواقها المنتصرة على الدوام، فتهزمنا الأسواق والأسعار والاحتكار ومافيا المحروقات والمواد الغذائية والحرب والخطف والنهب لمقدراتنا، وهكذا يذهب عبثا كل الجهد البشري والفكري الإنساني لكل من: «ماركس، وجون مينارد كينز، وكارل بولاني»، وكل تراثهم في محاولة إثبات ضرورة تطويع الأسواق للمنطق الاجتماعي والإنساني، واثبات أن توازن الأسواق وقدسيتها ليست أكثر من فانتازيا تافهة، حيث لا بدّ من تدخل الحكومات لتطويع الأسواق وترويض الأسعار ومكافحة التضخم وتأمين الوظائف وزيادة الإنفاق الحكومي لتشجيع الاستثمار والإنتاج وإنعاش الدخل والطلب.
وتتجلى هزيمتنا الحضارية وعجزنا المدعوم حكوميا، في عدم تصديقها لنا أن «مقولة العرض يخلق الطلب الموازي له» قد انهزمت منذ أكثر من قرن، أمام الأزمات والتضخم والبطالة والفقر والاحتكار وتجار الأزمات والفساد، كل ذلك لأن الأسواق تنتصر هنا لهؤلاء، لرؤوس أموالهم وثرواتهم وفسادهم واحتكارهم وترثي هزيمة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، فنساق جميعنا عبيدا للأسواق.
فكل الأشياء لها سعرها الاحتكاري، إذ ليس من منافسة أو عدالة في الأسواق الاحتكارية والناقصة والمبتورة، وليس خارجا عن المألوف أن تأخذنا الأسواق عبيدا وطوابير وحشودا غير أدمية أمام الكازيات والأفران وتوزيع الغاز، وأمام ثقوب جيوبنا للدخل التي تأكل 80% منه منذ أن ارتفع سلم الأسعار بين خمسة إلى عشرة أضعاف.
هل نصدق نحن أننا لا نزال نحيا أو ندب أو نتنفس، ولمّا نسقط بعد في زحمة أو لجّة تدافع، على ليتر بنزين أو جرة غاز، كيف ذلك، وكل أعضاء الحكومة الاقتصاديين لم يسمعوا «بكتاب عقيدة الصدمة لنعومي كلاين»، لكنهم يسترشدون به حرفيا، حيث يبقى الوقت المثالي لإحداث صدمة معيشية جراء تحرير كامل الأسعار والهروب من التزامات الدعم الحكومي، هو ذلك الوقت حين تغدق الكارثة، وينهزم الجميع، فتمرّ المصائب والهزات والقهر الاقتصادي مرورا عابرا لا يكاد تتحسسه جلودنا المتفسخة أو المتآكلة، أو ذواتنا التي تضمحل أمام جبروت الأسواق والأسعار والاحتكار، إيذاناً بشروع عودتنا المظفرة إلى بدائيتنا وغرائزنا. هي الحرب -الحدث أو الأزمة الطاحنة، وهي العقوبات، وهو نقص الإيرادات الحكومية، وليس من مكابر أو مشكّك، ولكن، لماذا يتوّج أمراء وتجار ومافيا الأسواق أبطال مرحلة هزيمتنا وانكسارنا ووجعنا أمام كل مرثيات العجز والإهمال والنسيان واللامبالاة!
من منكم سمع عن تاجر أو فاسد أو محتكر للقمة أو قوت السوريين وقد علق في ساحة المرجة (حتى أمام مجانية وتفاهة الموت)، أو حكم عليه بالسجن ولو بضع سنوات، كل الذين ركبوا الأزمة استهداف ديمومتها، نعمة عليهم، يسرحون ويحومون أمام ذواتنا المتثاقلة، التي تجرّ خيباتها بحثا عن نبض الحياة، لا أكثر. يحصل كل هذا الترويض والتدجين للفهم أن الحاجات الكمالية والاستثنائية في حياتنا: مثل الكهرباء والماء والغاز والبنزين والمازوت، هي حاجات ليست في المتناول، إلا بالقدر التسويقي لعرضها المحدود والمقنن والمحتكر ليحدد الطلب والسعر الذي يرغبه، لأنها نادرة والزحام عليها أكبر من عرضها، فتتقدم الأسواق والتجار والمحتكرين لفرض سعرها وتوزيعها وثقافتها ومنطقها، لتنتصر الأسواق وسلعها علينا كل يوم مئة، بل ألف مرة، أما وأن حكومات أخرى في أزمات أخرى مشابهة، وقد سمعت أو قرأت عن الفكر الاقتصادي، بأن الدولة تتدخل مؤسساتيا في الأسواق لتصنع الطلب الفعال من المجتمع أو الأفراد، مدفوعا بقوة شرائية من الدخول الفردية ومن الطلب الحكومي، مشفوعاً بزيادة الإنفاق العام، حيث ينشط الإنتاج والدخل فالطلب، وبالتالي يصبح العرض اللازم من السلع والخدمات في الأسواق مبررا لتلبية الطلب وزيادة الاستهلاك، حينها تنتصر الحكومات العاقلة اقتصاديا، لأفرادها ومجتمعها، وليس لأسواقها ومحتكريها، لأنها تنحاز لديمقراطية الأسواق وللعدالة الاجتماعية، وليس لندرة المواد ولهيب أسعارها ومقايضة أدمية ناسها بليتر مازوت أو جرة غاز، كل الحكومات في العالم التي حررت الأسعار وعوّمت الأسواق بما فيها سعر الصرف، كانت ترتعد من ردود الأفعال الاجتماعية، لذلك تذهب تدريجيا متثاقلة إلى ارتمائها في حضن الأسواق، ومغادرة حضن شعبها وناسها، ولم يسبق أن وجدت حكومة كانت عاجزة في أوج انتصار ليبرالية الأسواق (2000-2010)، لتعلن اليوم تحرير كل الأسعار للخدمات الأساسية، لأهم السلع والمواد، في خضّم أو لجّة عصف تاريخي، وإرهاب إقليمي ودولي، يأخذ حياة السوريين رهينة، مهجرين أو مشردين أو ضحايا عبّارات المحيطات أو الاغتيالات أو الانفجارات، والمفارقة التاريخية هنا أنها ليست مرغمة كليا لذلك، إلا ارتهانا للعجز في منطق إدارة الأزمة، الذي يلوذ جرياً عن أسهل الطرق، تلك التي لا تحتاج عصفاً فكرياً، أو تحملاً لمسؤولية، فلنترك الأسواق تحدد وتفرض أسعارها وقوانينها وعرضها وموادها واحتكارها كما ترغب.
من المفكرون الاقتصاديون الذين سوّغوا للحكومة أنه الوقت المناسب للتحرير؟ إن طالب سنة أولى اقتصاد يعرف جيداً أن شح الأسواق وندرة العرض والاحتكار سيفرض السعر المقابل أو المكافئ للطلب الكبير على تلك المواد، وحتى إن الأسعار المحررة ستبزّ نظائرها إقليميا وعالميا، فكيف يرتفع سعر ليتر البنزين ليصل إلى 140 ليرة، مقاربة نظيره العالمي والإقليمي، حينها كان برميل النفط قريب مئة دولار، اليوم وحين حُرر البنزين وانخفض سعر البرميل إلى اقل من 50 دولاراًعالمياً، يهبط سعر الليتر عالمياً إلى 50%، في لبنان انخفض بنسبة 60%، لكنه انخفض عندنا عشر ليرات وليس إلى 60 أو 80 ليرة سورية، كما يفترض بالسعر الحر المحرر من الدعم الحكومي والمقارن عالميا، ولكن السوق المبتورة والمشوهة والاحتكارية، والإدارة العاجزة اقتصادياً المتذاكية دائماً على فكر وثقافة الناس تبقي السعر عند 130 ليرة، ويبقى مفقودا في سوق احتكارية العرض ما يدفع بسعره الاحتكاري إلى أكثر من مئتي ليرة، ولا تزال الحكومة تردد أنها تدعم أسعار المحروقات، فهي إذا لم تتحرر من عبء الدعم وحسب، بل تثري على حسابنا، ولكن دون تكهاتنا، كما لو أنها تشتغل عند تجار المحروقات والأزمات والمحتكرين. ليست هذه الأسواق قدرنا الذي لا يردّ أو يخضع لعقلانية اقتصادية تستهدف العدالة الاجتماعية والرحمة الإنسانية، ليست الأسواق وآلياتها وأسعارها ومحتكروها ومفسدوها أقوى من ضرورة انتصار وعي الناس لتسخير الاقتصاد والأسواق لرغباتهم وحاجياتهم، غير ذلك يصبح كل ما اشتغل عليه «كينز وبولاني »، في فضح أكذوبة توازن الأسواق وتركها تصحح اختلالاتها وعدم التدخل الحكومي، يصبح كل ذلك التراث عبثا أو ترفا، ذلك الذي استفادت منه البشرية أسواقا وحكومات ودولا، وحتى تلك التي تقدس الأسواق، ولكن، حتى أولئك المعجبون بالليبرالية، المنضوون تحت رايتها، وهي تخوض حروبها لهزيمة الحكومات وإعلان الدولة الفاشلة والمهزومة أمام الرأسمال والأسواق، قد لا يجدوننا يوماً، وهم يحتفون بقول «كينز» الذي اشتغل على تنشيط وتفعيل الأسواق على المدى القصير، حين سئل عن فاعلية مقولاته على المدى الطويل، فأجاب على «المدى الطويل نكون قد متنا جميعاً».