إثبات الخطأ في العمليات الجراحية
من المقرر قضاءً وفقهاً ( ) أن التزام الطبيب تجاه المريض ، يعتبر التزاماً ببذل العناية ، وهذا يعني أن الطبيب لا يكون مسؤولاً عن نتيجة العلاج ولكن عليه بذل العناية اللازمة بهدف شفاء المريض، وذلك بإتباع الوسائل العلمية في علاجه أو عند إجراء العمليات الجراحية ، وقد أكدت ذلك المادة (18) من قانون مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان العماني الرقم ( 22 ) لسنة 1996، حيث نصت على ذلك بالقول : " لا يكون الطبيب المعالج مسؤولاً عن نتيجة العلاج بشرط أن يكون قد بذل العناية اللازمة واستعمل جميع الوسائل المهيأة له لتشخيص حالة المريض وإعطائه العلاج الصحيح " .
وإذا أخل الطبيب بذلك ، ولم يبذل العناية المطلوبة عند علاج المريض ، فإن ذلك يشكل خطأ طبي من جانبه يرتب مسئوليته ( ) ، سواء كانت عقدية أم تقصيريه ( ) . وقد نصت على ذلك المادة ( 19 ) من نفس القانون المذكور بالقول : " يتحمل الطبيب مسؤولية عمله والأضرار الناتجة عنه في الحالات الأتيه : ب- إذا وقع منه إهمال , أو تقصير، أو لم يبذل العناية اللازمة " .
وبناء على ذلك يتطلب من الطبيب الجراح بذل العناية اللازمة عند إجراء العملية الجراحية للمريض وعليه إتباع الأصول العلمية الثابتة عند إجرائها، فإذا أخل بذلك يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تصيب المريض .
وإلى جانب ذلك، هناك حالات يكون فيها التزام الطبيب التزاما بتحقيق نتيجة ، حيث يكون فيها الطبيب ملزماً بسلامة المريض من خطر حوادث قد تقع للمريض أثناء قيامه بالعمل الطبي .
وسوف نتولى في هذا المبحث دراسة إثبات خطأ الطبيب الجراح في الالتزامات التي يكون مضمونها بذل عناية وفي الالتزامات الأخرى التي يكون فيها ملزما بتحقيق نتيجة، وذلك في مطلبين على التوالي .
المطلب الأول
إثبات الخطأ في الالتزام ببذل عناية
يلزم من الطبيب الجراح عند إجراء العملية الجراحية للمريض أن يبذل في ذلك جهود صادقة ، ويجب أن تتفق هذه الجهود مع الأصول العلمية المتعارف عليها في مهنته . فإذا لم يبذل الطبيب العناية اللازمة عند إجراء العملية الجراحية ، يتحمل المسؤولية عن الأضرار الناتجة عن ذلك( ) ، ولتحديد مسؤولية الطبيب في هذه الحالة ، فإن عبء إثبات خطأه يقع على عاتق المريض( ) ، سواء كانت مسؤولية الطبيب تجاه المريض عقدية أم تقصيريه( ) ، ذلك لأن التزام الطبيب الجراح تجاه المريض هو التزام ببذل عناية ، ومضمون هذا الالتزام لا يختلف سواء وجد بين المريض والطبيب عقد أم لا ، لذلك يتوجب على المريض إثبات وجود التزام على عاتق الطبيب بعلاجه إما بناء على وجود عقد بينهما أو طبقاً لأنظمة وتعليمات المستشفى الموجود فيه( ) .
كما عليه أن يثبت عدم بذل الطبيب الجراح العناية اللازمة عند إجراء العملية الجراحية وذلك بإقامة الدليل على وجود إهمال أو خروج من جانب الطبيب عن الأصول العلمية المتعارف عليها في ميدان مهنة الطب ، والتي لا يقدم عليها طبيب أخر بمستواه فيما لو وجد بنفس ظروفه( ).
وهذا يعني أنه لا يكفي في هذه الحالة لمساءلة الطبيب الجراح إثبات المريض لخطأ الطبيب بعدم بذل العناية المطلوبة ، وإنما يتوجب من المريض إثبات وجود التزام على عاتق الطبيب لعلاجه وإصابته بضرر أثناء تنفيذ هذا الالتزام ، إذ لا يجوز إفتزاض خطأ الطبيب الجراح لمجرد إصابة المريض بضرر أثناء إجراء العملية الجراحية ، وإنما يتوجب إثبات صدور خطأ من جانب الطبيب الجراح( ) ، كعدم إجراء فحصه قبل العملية الجراحية أو عدم إتباع الأصول العلمية المستقرة عند إجراء العملية الجراحية أو عدم متابعته بعد إجراء العملية الجراحية ، وللطبيب الجراح حتى في حالة إصابة المريض بضرر أثناء أو بعد إجراء العملية الجراحية ، أن ينفي عنه المسؤولية ، إذ أثبت أنه بذل العناية اللازمة أثناء إجراء العملية الجراحية .
المطلب الثاني
إثبات الخطأ في الالتزام بتحقيق نتيجة
هناك حالات يكون فيها التزم الطبيب الجراح تجاه المريض التزاماً بتحقيق نتيجة( ) ، ومن هذه الحالات حالة قيام الطبيب بعمل محدد أو ضمان سلامة المريض من الأضرار غير تلك التي قد تنتج عند إجراء العملية الجراحية ، فيكون الطبيب فيها ملزماً بسلامة المريض من الحوادث التي قد يتعرض لها خارج نطاق العملية الجراحية( ). ومن هذه الحالات عمليات نقل الدم والتحاليل الطبية وكذلك تركيب الأجهزة الصناعية والأسنان . وقد استقر الفقه والقضاء على اعتبار التزام الطبيب تجاه المريض في مثل هذه الحالات التزاماً بتحقيق نتيجة ، حيث يكون فيها الطبيب مسؤولاً عن تحقيق النتيجة المطلوبة.
فعمليات نقل الدم تعتبر من الحالات التي يلتزم فيها الطبيب بتحقيق نتيجة ، فإذا احتاج المريض إلى نقل الدم إليه بسبب العملية الجراحية ، فيتوجب أن يكون هذا الدم مطابق لفصيلة دمه ، كما يجب أن يكون خالياً من الأمراض والتزام الطبيب في هذه الحالة محدد بتقديم دم يتناسب مع فصيلة دم المريض وسليماً من الأمراض ، ويكون مخلاً بالتزامه هذا إذا نقل إلى المريض دماً غير مناسب ، كما لو كان يختلف عن فصيلة دمه ، كما يكون الطبيب أيضاً مسؤولاً تجاه المريض ، لو كان هذا الدم ملوثاً ، وفي هذه الأحوال يكون الطبيب مسؤولاً عن الضرر الذي يصيب المريض ، وتترتب مسؤولية الطبيب ولو لم يكن هو الذي أجرى تحليل دم المريض للتعرف على فصيلته بل قام بذلك طبيب أخر ، ذلك لأنه ملزم تجاه مريضه بتقديم دم سليم يتفق مع فصيلته ، إلا أنه يستطيع أن يتخلص من المسؤولية ، إذا استطاع إثبات السبب الأجنبي الذي لا ينسب إليه( ) .
وكذلك يكون الطبيب الجراح ملزماً بتحقيق نتيجة ، إذا استخدم آلات وأجهزة أثناء إجراء العملية الجراحية ، وهذه النتيجة هي عدم حدوث ضرر للمريض عند استخدام الآلات والأجهزة أثناء إجراء العملية له( ) ، حيث يكون مسؤولاً عن الأضرار التي تصيب المريض ، إذا كانت بسبب وجود عيب أو عطل في هذه الآلات والأجهزة ، لأنه يقع على الطبيب الجراح ، أثناء إجراء العملية الجراحية للمريض ، استعمال آلات وأجهزة صالحة لا تصيب المريض بأضرار، وهناك حالات اشرنا لبعضها سابقاً ، قضت فيها المحاكم بمسؤولية الطبيب عن الأضرار والوفاة التي حصلت للمريض بسبب انفجار الأجهزة الطبية أو نتيجة خروج لهيب من المشرط الكهربائي ، أو احتراق جلد المريض نتيجة وجود خلل في أجهزة الأشعة( ) .
ومن التطبيقات القضائية الأخرى ، ما قضي بمساءلة الطبيب عن كسر حقنة الدواء في عضلات المريض ، وكذلك مساءلة طبيب الأسنان عن تمزق لسان المريض وتلف أغشية فمه بسبب ناتج عن الأجهزة المستخدمة في علاج المريض( ) . إلا أن الطبيب قد يستطيع التخلص من المسؤولية إذا استطاع أن يعزو ذلك إلى السبب الأجنبي .
كذلك يعتبر التزام الطبيب تجاه المريض في تركيب الأعضاء الصناعية التزاماً بتحقيق نتيجة ، ومن أمثلة ذلك تركيب الأسنان والأطراف الصناعية ، وفي حكم صادر عن محكمة النقض الفرنسية ، اعتبرت فيه التزام طبيب الأسنان بتركيب الأسنان الصناعيه تجاه المريض التزاماً بتحقيق نتيجة ، فيما يتعلق بتصميمها وملائمتها للمريض وخلوها من الأمراض ، وعليه في هذه الحالة أن يركب لمريضه الأسنان الصناعية المناسبة له ، ويعتبر مخطأ إذا لم يفي بهذا الالتزام ( ) .
أما في الجراحة التجميليه التي تتطلب تداخل جراحي بقصد إزالة تشويه في جسم المريض قد يكون ظاهراً أو خفياً ، فقد تشدد القضاء مع الطبيب الجراح في هذه العمليات عند وجود خطأ أو إهمال من جانبه ، إلا أن القضاء لم يستقر على تحديد نوع التزام الطبيب الجراح في هذه العمليات ، وإن كانت هناك بعض القرارات التي ذهبت فيها المحاكم الفرنسية إلى تقريب هذا الالتزام من الالتزامات التي يسأل فيها الطبيب عن تحقيق نتيجة( ) ففي قضية تتعلق بجراحة تجميلية أدانت فيها محكمة باريس في 7 / 11 / 1972 الطبيب الجراح على الرغم من بذل الجهود واليقظة اللازمين في هذه العملية ، لأنه لم يقدم للمحكمة ما يبرر فشل العملية الجراحية عكس ما هو متوقع وما يحدث في مثل هذا النوع من العمليات الجراحية ( ) . كما أن القضاء المصري يتشدد أيضا مع الطبيب الجراح في العمليات الجراحية، ويظهر ذلك من القرارات التي صدرت عن محكمة النقض المصرية ، حيث تطلبت من الطبيب الجراح عناية أكثر في جراحة التجميل وإن كان كغيره من الأطباء لا يضمن نجاح العملية التي يجريها ، إلا أ ن العناية المطلوبة منه أكثر منها في أحوال الجراحة الأخرى ، اعتبارا بأن جراحة التجميل لا يقصد منها شفاء المريض من علة في جسمه وإنما إصلاح تشويه لا يعرض حياته لأي خطر( ) .
ولإثبات خطأ الطبيب الجراح في الحالات التي يكون فيها التزامه بتحقيق نتيجة ، يكفي من المريض إثبات وجود الضرر الذي أصابه من جراء تنفيذ الطبيب للعملية الجراحية ، وهذا كاف لعدم تحقق النتيجة المطلوبة ودون حاجة من جانب المريض لإثبات وجود خطأ من قبل الطبيب الجراح ، إذ أ ن وجود الضرر الذي يصيب المريض في هذه الحالات يكفي لمساءلة الطبيب الجراح ، ولا تزول عنه هذه المسؤولية ، إلا إذا أستطاع أن يرجع ذلك إلى السبب الأجنبي بأن يثبت أن الضرر الذي تعرض له المريض ناجم عن قوة قاهرة أو خطأ المريض نفسه أو خطأ الغير ، ولا يستطيع الطبيب في هذه الحالات أن يثبت أنه بذل العناية المطلوبة لتنفيذ التزامه لكي يعفي نفسه من هذه المسؤولية( ) .
وأيا كان نوع التزام الطبيب الجراح ، فلا بد من إثبات رابطة السببية عند مساءلة الطبيب الجراح عن خطأه ، بمعنى أن المريض عليه إثبات أن الضرر الذي أصابه كان ناجما عن خطأ الطبيب الجراح ، ولهذا فقد قضت محكمة النقض الفرنسية ، بأن مجرد نسيان الجراح قطعة من الشاش في مكان العملية ، لا يمكن القول بكونه هو السبب في كل الأضرار الناجمة عن الالتهابات التي تعرض لها المريض ، إلا إذا جرى إثبات أن ذلك كان قد أدى إلى هذه الالتهابات وسوء حالة المريض ( ) .
ومع ذلك ، فالقضاء سار على إقامة قرينة لصالح المريض المضرور ، عند وجود خطأ من جانب الطبيب الجراح ، فأقام مسؤولية الطبيب إذا كان من شأن خطأ الطبيب إحداث مثل الأضرار التي يتعرض لها المريض( ) ، وعليه في هذه الحالة لكي يتخلص من المسؤولية نفى هذه القرينة ، فالقضاء بخصوص وجود علاقة السببيه بين خطأ الطبيب والضرر الذي يصيب المريض ، أصبح يقيم قرينة على توافر تلك العلاقة لمصلحة المريض ، وعلى الطبيب لكي يكون بمنأى عن هذه المسؤولية إثبات السبب الأجنبي .وعند وجود شكاوي تتعلق بالأخطاء الطبيبة ، عادة تحال مثل هذه الدعاوي من قبل الإدعاء العام في سلطنة عمان إلى اللجنة الفنية المختصة في وزارة الصحة ، وذلك بالاستناد إلى المادة ( 21 ) من قانون مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان لتحديد مسؤولية الطبيب عند ذلك ، قبل التحقيق معه من قبل الإدعاء العام ، فإذا تأكد للجنة المذكورة وجود خطأ أو إهمال من جانب الطبيب ، ففي هذه الحالة يقع على الإدعاء العام إجراء التحقيقات اللازمة لاتخاذ الموقف القانوني الذي تتطلبه العدالة وللإدعاء العام في هذه الحالة وجوب انتداب الخبراء وسماع الشهود ، فإذا أتضح من التحقيقات أن هناك خطأ طبي نتج عنه وفاة المريض ، أو أن هذا الخطأ أدى إلى تعطيل في أحد أعضاء جسم المريض أو وجود عاهة مستديمة ، ففي هذه الحالة تحال هذه القضايا إلى المحكمة المختصة للبت فيها( ) .
بالنظر لصعوبة إثبات خطأ الطبيب من جانب المريض ، فقد جرت العادة أن يستعين القاضي عند معرفة الأخطاء الطبية ، الاستعانة بأهل الخبرة من الأطباء المختصين بذلك( ) ، حيث يستطيع انتداب خبير أو أكثر للتحقق من الوقائع التي تتعلق بالأخطاء الطبية في العمليات الجراحية ، وللقاضي عند الاستعانة بأهل الخبرة في المسائل الطبية اللجوء إلى ذلك في المسائل الفنية التي تبرر ذلك ، لتكملة قناعته في الأمور التي يجهلها( ) ، والخبير في رأيه الذي يبديه للقاضي هو يساعد القضاء في الوصول إلى الحقيقة.
وعلى الخبير عند تقديم تقريره للقاضي أن يدعم رأيه في الأصول العلمية المتعارف عليها ، وعليه إذا كان الطبيب الجراح قد خرج في سلوكه عن ذلك بيان هذا الأمر في التقرير المقدم للقاضي .
ويعود للقاضي تقدير رأي الخبير في المسائل الطبية المعروفة عليه ، وهو غير ملزم بالتقيد بما أثبته الخبير ولا بالنتائج التي توصل إليها ، فله السلطة في تقدير سلوك الطبيب المهني ، فالقاضي غير ملزم بما يبديه الخبير أو الخبراء في المسائل الطبية ، إذا كانت تتعارض مع وقائع القضية المعروضة أمامه ، ومع ذلك فأن تقرير الخبير يعتبر من العناصر المهمة التي يستعين بها القاضي في تقرير خطأ الطبيب( ) ،إذ قد يأخذ بآراء الخبراء إذا كانت كافية للدلالة على خطأ الطبيب الجراح( ) وعلى القاضي عند تقدير خطأ الطبيب الجراح ، أن ينظر إلى واجبات الطبيب المهنية التي تتطلب منه إتباع الأصول العلمية المتعارف عليها في مجال مهنته ، كما يقع عليه مراعاة الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب الجراح عند تنفيذ العملية الجراحية ، فإذا أتضح له أن الطبيب الجراح كان قد خرج في مسلكه الطبي عما يجب أن يقوم به طبيب أخر في مستواه المهني فيما لو وجد في نفس ظروفه ، فأنه يكون بذلك قد أخطأ وتترتب مسؤوليته الطبية ، بمعنى أخر أنه يقع على القاضي عند معرفة خطأ الطبيب الجراح ، اللجوء إلى مقارنة سلوكه بسلوك طبيب أخر من نفس مستواه المهني فيما لو وجد في نفس ظروفه المحيطة به ، وعندها يجري الحكم على سلوك الطبيب الجراح .