مارلين سلوم
رغم تحقيق أفلام الخيال العلمي إيرادات عالية، ونجاحها في جذب الجمهور من مختلف الأعمار والجنسيات حول العالم، إلا أن هذه النوعية تتراجع في لحظات الحسم الجادة أمام أفلام الواقع والقصص الإنسانية التي ترصد معاناة بشر عاشوا الحياة بحلوها ومرّها وناضلوا فتميزوا . هذه الأفلام تعلق في أذهان الناس، تعيش طويلاً، والأهم أنها تلفت لجان تحكيم المهرجانات الدولية، فتسحب الجوائز من تحت أفلام صنعها الخيال والبطولات الخارقة الوهمية، ولعلنا شاهدنا هذا العام أكبر انتصار للقصص الإنسانية، لقصص الكفاح والمعاناة النفسية والجسدية، من خلال فوز ثلاثة أعمال من هذه النوعية بأهم جوائز أوسكار 2015 .
"الرجل الطائر" Birdman، "نظرية كل شيء" Theory of everything، "ستيل أليس" Still Alice، ثلاثة أفلام تناولت أشكالاً مختلفة من معاناة أشخاص حقيقيين أو تلامس الحقيقة إلى حد التطابق التام . الأول ممثل عانى أزمة نفسية بسبب تراجع شهرته ورغبته في استعادة النجومية، والثاني قصة العالم البريطاني ستيفن هوكينغ المصاب بمرض ضمور العضلات والذي أحدث ثورة في العلم رغم مرضه، والثالثة "أليس" الأم المصابة بمرض "الزهايمر" في سن مبكر وهي من الحالات النادرة والتي تنتقل بالوراثة . حتى فيلم "سيلما"، تطرق إلى معاناة الشعب "الأسود" مع العنصرية في أمريكا . لكن إذا استثنينا هذا الأخير، نجد أنفسنا أمام ثلاثة أفلام تحكي أوجاعاً من أمراض مختلفة، وتستحق المشاهدة والتصفيق لها مطولاً .
قد نتساءل إذا ما كانت السينما العالمية بدأت تتجه نحو الواقعية أكثر من قبل، خصوصاً أنها انشغلت لبعض الوقت بتطور التقنيات فدخلنا معها العالم الافتراضي لاسيما مع تكنولوجيا الأبعاد الثلاثية والرباعية . . ورفاهية المقاعد والصالات الحديثة التي توفر الأجواء المناسبة لمشاهدة الأفلام بكل الحواس، فتأخذ المشاهدين إلى عمق الأحداث أحياناً، كأنهم في قلب الشاشة وشركاء في الأفلام، إضافة إلى المؤثرات الصوتية المصاحبة، وبعض الصالات تتوفر فيها المؤثرات الحسية في المقاعد نفسها فتنقل إحساس الحركة والذبذبات إلى المشاهدين . . وحسبنا أن فيلم "أفاتار" (إنتاج 2009) الرائع سيشكل ثورة في السينما ليسحب الجمهور إلى مزيد من الإبهار والخدع البصرية والصناعة الإلكترونية، فتتراجع أفلام الواقع التي تعتمد على مجهود الممثل، ومشاعره، وقلم الكاتب وبراعته في نقل القصص الحقيقية إلى الشاشة . . إلا أن كل ذلك يسقط دائماً أمام إبهار "إرادة الإنسان" وطموحه ومعاناته ونضاله في سبيل العيش أو الحب أو أي قضية ذات قيمة .
أوسكار 2015 انتصر لقضايا الإنسان، لأمراض يعانيها، وتعجز التكنولوجيا والتطور العلمي عن حلها . . أفلام عالجت قضايا لا علاج لها، تعتمد على الإرادة والكفاح والشجاعة والأمل من أجل الاستمرار ومواجهة الحياة والانتصار . لذا، يمكننا القول إن الإنسان مازال همّ الشاشة الأول، وأوجاعه وطموحاته تطغى على الخيال مهما تطور، بل إن النجاح يكمن في تطويع الخيال في سبيل خدمة المجتمع وإبراز الوجع الإنساني .
هي صدفة جمعت الأفلام الثلاثة في عام واحد لتتنافس على حب الجمهور أولاً، وإعجاب لجان تحكيم المهرجانات العالمية ثانياً، والفوز بالأوسكار ثالثاً . إنما إذا عدنا بالذاكرة إلى السنوات الماضية، نرى أن هذه النوعية من الأفلام "الإنسانية"، طغت وتفوقت غالباً، وبعضها أحدث ضجة ومازال الجمهور يحب مشاهدته ويستمتع في كل إعادة . من هذه الأفلام الفائزة بجوائز أوسكار مثلاً: "12 عاما من العبودية" الفائز العام الماضي 2014 عن أفضل نص وأفضل فيلم، واستحق ماثيو ماكونوهي جائزة أفضل ممثل عن دوره "الإنساني" أيضاً في فيلم "دالاس بايرز كلوب" لمريض بالإيدز، ومثله تفوقت كيت بلانشيت بدورها في فيلم "الياسمين الأزرق" . عام 2013 فاز فيلم "ارغو" لبن أفليك بجائزة أفضل فيلم، عن أزمة رهائن إيران في عام ،1979 ورغم كل الاعتراضات التي رافقت الفيلم حول أهدافه السياسية، إلا أنه لامس الواقع . عام 2012 حصد الفيلم الفرنسي الصامت "الفنان" The Artist ثلاث جوائز أوسكار، وحصلت ميريل ستريب على جائزة أفضل ممثلة للمرة الثالثة، عن دورها في فيلم "المرأة الحديدية" . كما حصل الفيلم الإيراني "انفصال" لمخرجه أصغر فرهادي على جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية . إنما من قال إن الأفلام التي تصدرت الواجهة بقوة هي التي تناولت قصصاً إنسانية واقعية فقط؟ هناك أفلام نالت جوائز قبل وصولها إلى أكاديمية الفنون في أمريكا، وحصدت الأوسكار أيضاً مثل "الصبا" Boyhood الذي فازت عنه باتريسيا أركيت كأفضل ممثلة مساعدة، وفيلم "لعبة المحاكاة" The Imitation Game الذي فاز بجائزة أفضل سيناريو مقتبس لغراهام مور .
وبغض النظر عن الأفلام التي نالت جوائز في مهرجانات عالمية مع أو بدون الأوسكار، فإن في السينما العالمية الكثير من الأعمال التي استندت إلى قصص حقيقية، وخصوصاً "سيرة حياة" أبطال من التاريخ أو عباقرة أو أفراد عاديين، ومستندة أيضاً إلى الكتب المنشورة عنهم، لتقدمهم في أفلام مؤثرة، تستحق المشاهدة، لأنها إنسانية، حقيقية، تقدم لنا جوانب ووجوهاً من الحياة، ونتعلم منها أحياناً دروساً في الإرادة، قوة الإيمان، الكفاح، والنجاح . . ولنا معها مواعيد كثيرة وجميلة كل عام، حبذا لو يستفيد منها الجمهور ليثري ثقافته ومعرفته وليبقى على تواصل مع "المشاعر الإنسانية" بدل الانجراف خلف أفلام العنف والقتل والفراغ الفكري .
"لعبة المحاكاة" تقدير بعد فوات الأوان
"لعبة المحاكاة" فيلم بريطاني أمريكي، مأخوذ عن كتاب بعنوان "آلان تيرينغ الغامض" من تأليف أندرو هودغز . تدور الأحداث عن شخصية حقيقية لعبت دوراً مهماً في إنقاذ حياة الملايين من المدنيين والجنود خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يتم اكتشاف دوره وحقيقة ما قام به إلا بعد انتحاره . فعالم الرياضيات البريطانى الشهير آلان تيرينغ، نجح في ابتكار آلة خاصة تمكن بواسطتها من فك الشيفرة الألمانية المعقدة أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي حملت اسم "إنيغما"، لكن تيرينغ لم يشتهر في حياته بهذا الإنجاز العبقري الذي ساعد على إنقاذ أرواح الناس، وعلى انتصار بريطانيا والحلفاء، بل عرف بسبب محاكمته في أوائل الخمسينات بتهمة المثلية الجنسية، ما أدى إلى انتحاره، وبقي دوره في فك الشيفرة الألمانية "إنيغما" للأسف في إطار السرية التامة، ولم يتم الكشف عنه إلا بعد نصف قرن . وبسبب أهمية دور تيرينغ، قامت ملكة بريطانيا إليزابيث بالعفو عنه ولكن بعد فوات أوانه بسنين عدة .
"الصبا" نال جائزة وضاعت منه اثنتان
فيلم "الصبا" أو "بويهوود"، حمل الأوسكار للنجمة باتريسيا أركيت، لكن موضوعه وطريقة تصويره كانا يستحقان جائزة أيضاً . فالفيلم الذي كتبه وأخرجه ريتشارد لينكليتر، يعتبر تجربة سينمائية مميزة، ليست الأولى من نوعها ولكنها تبقى غريبة ونادرة في عالم السينما، حيث تم تصوير الفيلم بواقعية شديدة، بل بمصداقية عالية، حيث عمد المخرج إلى متابعة مراحل نمو وتطور كافة أبطاله من خلال تصويرهم على مراحل ما بين عامي 2002 و2013 . لينكليتر تابع مراحل في حياة بطله إيلار كولتران منذ أن كان صبياً في السادسة من عمره، وحتى بلوغه سن الحادية والعشرين . وكان المخرج يصور أيضاً من يقومان بدور الأم والأب في الوقت نفسه، ويبدو تطور الشخصيات طبيعياً ومنطقياً، ويلمحه المشاهد خلال الأحداث المتسلسلة بشكل طبيعي وسلس . الفيلم حصد جوائز عدة قبل وصوله إلى الأوسكار، والمهم هنا أنه تناول مراحل تطور صبي صغير وحتى بلوغه سن ال 21 عاماً، ويشرك المشاهدين بهذا التغير البيولوجي الطبيعي له ولأسرته، وتغير طريقة تفكيره ومتطلباته، كذلك علاقته بشقيقته ووالديهما . ولعل كريستينا استحقت الأوسكار لأدائها دور الأم الحائرة في تربية ولديها ومواجهة تطورات العصر والتكنولوجيا، خصوصاً الصراعات النفسية في سن المراهقة وكيفية تجاوز المرحلة ومشكلاتها، وبدت شديدة الصدق فيشعر المشاهد بأنها تمثله شخصياً .
ماذا عن أفلام الكرتون؟ كأن المرء يحب أن يرى معاناته ومعاناة بشر مثله من لحم ودم أمامه على الشاشة، ولذلك يميل أكثر إلى الأفلام الواقعية، وحكايات تبكيه من جهة، وتحثه على الأمل وعدم الاستسلام من جهة أخرى . لا يمكننا أن نستثني أفلام الكرتون وأفلام الصغار التي تميل أكثر إلى الخيال والضحك، لأن صناعها يغمسون أقلامهم بقصص تمس مشاعر الأطفال وتدخل إلى قلوبهم مباشرة، من خلال قصص إنسانية بالدرجة الأولى . ولولا هذه اللمسة التي تبدو شاعرية، لما نجح فيلم "مجمد" Frozen في جذب الكبار والصغار وما زال يحصد إعجابهم . ومثله أفلام كثيرة تقدمها السينما العالمية للأطفال، تتكئ أولاً على حبكة محكمة تعزف على وتر المشاعر، وتحث مشاهديها على التعاطف مع الأبطال والتحمس لهم، والتعلم منهم كيفية مواجهة معاناتهم ومشكلاتهم من أجل التغلب عليها والنجاح في تجاوزها .