رغم مضي عشرة أعوام على مجزرة مخيم جنين في شهر نيسان من عام 2002 إلا أن تفاصيلها لم تسقط من ذاكرة شهدوها, و من تجرعوا ويلاتها من آلام الفقدان والحرمان من الأبناء والخلان.
سكان مخيم جنين, الذين يتجاوز عددهم ما يقارب 15 ألف نسمة في مساحة 2 كيلو متر مربع يسترجعون في كل عام في شهر نيسان, ذكرى المجزرة البشعة التي راح ضحيتها 63 شهيدا والمئات من الجرحى, والآلاف من المعتقلين ما بين 15 – 50 عاما منهم من حكم عليه بالسجن ومنهم من أفرج عنه بعد أيام أو شهور, عدا الدمار الذي شهده المخيم آنذاك وهدم أكثر من 500 منزل, ومنشات عامة واستهداف البنية التحتية من كهرباء وماء وصرف صحي واعتداء على حقوق الإنسان, ضاربة إسرائيل في ذلك الوقت كل القوانين الدولية والإنسانية عرض الحائط, أما القتلى من الجانب الإسرائيلي وبحسب الاعترافات الرسمية فكانوا 32 قتيلا فضلا عن عشرات الجرحى منهم.
معركة غير متكافئة:
كانت معركة مخيم جنين غير متكافئة, فقد كانت سلطات الاحتلال تستخدم احدث التكنولوجيا القتالية في معركتها من دبابات وطائرات ومروحيات, والمقاومة تتصدى لهم بالأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة المحلية الصنع والأجساد المفخخة الاستشهادية.
"مجزرة جنين", هو اسم أطلق على عملية التوغل التي قام بها الجيش في جنين في الفترة من تاريخ 3 إلى 12 نيسان 2002 واستمرت نحو عشرة أيام تقريبا وربما أكثر بقليل, حيث أشارت رواية الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت وقوع معركة شديدة في جنين, مما اضطر جنود الجيش إلى القتال بين المنازل, بينما أشارت مصادر في السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات دولية أخرى, أن قوات الاحتلال أثناء إدارتها للعملية في مخيم اللاجئين, قامت بارتكاب أعمال القتل العشوائي واستخدام الدروع البشرية والاستخدام غير المناسب للقوة, وعمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب, ومنع العلاج الطبي والمساعدة الطبية ودخول الصحفيين إلى المخيم.
لقد كانت هذه العملية ضمن عملية الاجتياح الشاملة للضفة الغربية, عقب تنفيذ عملية تفجير في فندق في مدينة نتانيا, وتنفيذ عملية اقتحام إحدى المستوطنات بالقرب من مدينة نابلس, منفذها من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
هدف الاجتياح:
وقد هدفت عملية الاجتياح القضاء على المجموعات الفلسطينية المسلحة التي كانت تقاوم الاحتلال, وكانت جنين والبلدة القديمة في نابلس مسرحا لأشرس المعارك التي دارت خلال الاجتياح, حيث قرر مجموعه من المقاتلين الفلسطينيين محاربة القوات الإسرائيلية حتى الموت, الأمر الذي أدى إلى وقوع خسائر طفيفة في صفوف القوات الإسرائيلية مقابل المئات من الجرحى والشهداء الفلسطينيين, ومن ثم قامت باجتياح مخيم جنين والقضاء على المجموعات المقاتلة, حيث تم قتل واعتقال العدد الكبير منهم, كما قامت القوات الإسرائيلية بعمليات تنكيل وقتل بحق السكان حسب المصادر الفلسطينية, ومعظم المصادر الإخبارية العالمية المحايدة والجمعيات الدولة الأخرى, أدى إلى سقوط المئات, فيما حملت إسرائيل المقاتلين الفلسطينيين مسؤولية تعريض حياة المدنيين للخطر.
كما أن هناك أفلاما سينمائية ووثائقية أعدت, لتوثيق أحداث المجزرة وإيصالها للعالم, مثل فيلم "جنين غراد" وفيلم "جنين جنين" للمخرج محمود البكري والمسلسل السوري "الاجتياح".
حكايات تروى:
في كل بيت في مخيم جنين حكاية تروى ما شاهدته في مجزرة مخيم جنين, وفي كل حارة تروي قصتها مع الهدم وانتشال جثث الشهداء المحروقة والمقطعة والمدفونة تحت ركام المنازل المهدمة, وفي كل زاوية من المخيم رواية تتناقلها الأجيال عما قامت به المقاومة في تصديها للاحتلال.
مراسل معا في محافظة جنين, حاول قدر الإمكان خلال جولة قام بها في مخيم جنين وقابل بعض المواطنين الذين عاشوا فترة مجزرة المخيم, وتحدثوا معه عن بعض تفاصيلها التي مازالت عالقة في أذهانهم, مؤكدين أنهم سيروونها لأبنائهم وأحفادهم الذين بدورهم سيروونها إلى الأجيال الأخرى, لتبقى ذكرى المجزرة حية في قلوبهم وأذهانهم.
الصمود رغم المخاطر:
أم علي عويس تروي قصة صمودها في منزلها في الوقت الذي استطاع فيه جيش الاحتلال أن يزحف قليلا باتجاه المخيم, حيث كانت تقطن في منزل مكون من أربع طوابق أعلى مبنى في المخيم, وقالت " عندما تم محاصرة المخيم من كافة الجهات وبدأ الناس يتركون منازلهم, بقيت أنا وبناتي وأحفادي وأبناء جيراني الذين احتضنتهم بعد أن خرج آباؤهم للمقاومة في المنزل".
وأضافت " في اليوم الرابع من الاجتياح, اشتدت الحرب بين المقاومة والاحتلال وكنت اسمع الأعيرة النارية في كل مكان والتي أصابت أجزاء كبيرة من منزلي, وصوت الطائرات المروحية وزمجرة الدبابات ورغم ذلك بقيت صامدة ومن معي في المنزل".
وتابعت تقول "في اليوم السادس من الاجتياح سمعت أصوات الهواتف اللاسلكية الخاص بالجنود, وعلمت أن الجيش في محيط المنزل ودقائق حتى طرقوا الباب ليدخل أكثر من خمسين جنديا مع عتادهم, موجهين أسلحتهم نحوي ومن في المنزل ليحرضوني على الخروج من المنزل, ورفضت ذلك, وعند إصراري على الصمود في منزلي هددني الضابط بقتل ابن أختي عبد الكريم ذات الأعوام الستة, بتوجيه المسدس على رأسه لأهاجمه بينما الجنود بدورهم ضربوني حتى جاء احدهم وضربني بقاع المسدس على راسي ".
وقالت "أجبرت على الخروج بعدها, والذي كسر إصراري على البقاء في المنزل هم الأطفال خوفا عليهم, لأتوجه إلى المنزل المجاور وكان فارغا من أهله المهم أن أكون قريبا من منزلي".
وأضافت " خلال وجودي في المنزل المجاور انقطع الطعام والماء, وما كان يهمني ويقلقني أكثر هو انقطاع الحليب عن الأطفال, غامرت وخرجت بحثا عن الحليب أسدد رمق جوع الصغار, ويصدني الجيش على مدخل المنزل ويجبرني على الرجوع تحت تهديد السلاح, حاولت الخروج من الجهة الأخرى بين المنزل عبر الثقوب التي أحدثتها القذائف الإسرائيلية والجرافات, لأصل إلى دكان صغير خال من أصحابه وبابه مخلوع واخذ ما يكفيني من الطعام والحليب".
شاهدة على اغتيال أبو جندل:
وتطرقت أم علي لقصة اغتيال أبو جندل بدم بارد خلال وجودها في الدكان, وتقول " سمعت صوت جنود الاحتلال بالقرب من الدكان, راقبتهم عبر ثقب أحدثه الرصاص, وارى عددا كبيرا من الجنود ودورياتهم ومعهم معتقل مكبل اليدين ومعصوب العينين, يلبس الزي العسكري الذي يرتديه المقاومون الفلسطينيون, وإذ به القائد ابوجندل قائد العمليات في صفوف المقاومة, يقومون بضربه ودفعه عنوة إلى الأمام ويجلسوه على ركام منزل مهدم, ويوجهون مسدسا نحو رأسه ويطلقون رصاصتين فقط لا أكثر, ويغادرون المكان يقهقهون, وقد تركوه في نفس المكان مكبل اليدين ومعصوب العينين".
وأضافت, " لم استطع تحمل ما رأيت, وركضت نحو المنزل لاحتضن الصغار والحقد يملأ قلبي على قتل أبو جندل, أب لثمانية أطفال في ذلك الوقت, واخبر رجال المقاومة أن أبو جندل استشهد فلم يصدقوا الرواية إلا بعد يومين, توجهت وإياهم إلى مكان استشهاده ومازال مكبلا ومعصوبا ورصاصتان اخترقتا لحيته وجبينه, والدماء ما زالت تنزف من وجهه".
جثث وركام:
وروت أم علي ما شاهدته من دمار وجثث الشهداء المدفونة تحت الركام, وأجزاء من لحومهم وجثث محروقة وقالت " عند انسحاب الجيش من إحدى أحياء المخيم خرجت وبعض العائلات بحثا عن جثث الشهداء, رأيت جثة الشهيد محمد النورسي نصف جسده تحت الركام يمسك بسلاحه الكلاشنكوف وهو احد المدافعين عن المخيم, وشاهدت جثة الشهيد طه الزبيدي محترقة على باب احد المنازل, والعديد العديد من الجثث المفحمة والمقطعة ".
وأضافت " لن أنسى الشهيد جمال الصباغ, التي داسته جنازير الدبابات, فخلال جولتنا للبحث عن الجثث وإخراجها ووضعها في أكياس, رأيت جثة جمال, ولأنه ضخم وضعت بطانية على جسده وتركناه مكانه حتى يأتي يوم لدفنه, وعند عودتي بعد يومين أتفقد جثمانه إذ سويت بالأرض وأجزاء جسمه الداخلية مبعثرة هنا وهناك, والعلامة على أنها جسده البطانية التي غطيت بها".
مقاومة موحدة:
وتروي أم علي عويس قصتها يوم كانت تتعاون مع نساء الحي, في إمداد المقاومين بالطعام وقالت " صمود المخيم كان أسطورة, وذلك بفضل حنكة وقوة وإرادة المقاتلين, الذين توزعوا في كل زاوية ونجحوا في نصب الكمائن للجنود".
وأضافت " كانوا يدا واحدة لا يفرقهم أي شيء, وصوتهم وحلمهم واحد, وشاهدتهم دوما وجوههم تفيض نورا ويرددون صيحات الله اكبر في كل غارة, لقد كانوا أبطالا, وعندما يحاصرنا الجنود ويهددون حياتنا يهاجمونهم ويعرضون حياتهم للخطر وينقذوننا".
وأشارت " رغم التضحيات والهدم فالنصر كان حليفنا, لان المقاومين كانوا معدودين وأسلحتهم قليلة مقابل التكنولوجيا القتالية مع الاحتلال, ولو وجدت قدرات القتال عند المقاومة ربع ما لدى الاحتلال فلن يستطيعوا اقتحام المخيم", مؤكدة أن الجيش تكبد خسائر كبيرة حيث شاهدت سيارات الإسعاف الإسرائيلية وناقلات الجنود التي كانت تنشل جثث قتلاهم وجرحاهم, وبقع الدم في منزلها ومنزل جيرانها الذين احتلها الجنود اكبر دليل".
مع العلم, أن أم علي لها ابنتان اعتقلتا, وهما آية وكان عمرها آنذاك 16 عاما اعتقلت عام 2004 وحكم عليها بالسجن سنتين, والثانية أماني متزوجة ولها ولدان اعتقلت لمدة تسعه أشهر للضغط على زوجها المعتقل والمحكوم عليه مؤبدين وخمسين عاما, بالإضافة إلى ابنها علي الذي اعتقل لمدة سنة ونصف وهو مصاب, وابنها طارق الذي ما زال قيد الاعتقال منذ تاريخ 9-9-2008.
استهداف طواقم الإسعاف:
بينما محمد زيدان يروي قصة تطوعه في الهلال الأحمر الفلسطيني في ذلك الوقت, ويقول " كان الجيش يحاصرنا في كل مكان, ويمنعنا من الخروج من المستشفى لإنقاذ الجرحى وانتشال الشهداء إلا بالتنسيق مع الصليب الأحمر الدولي, بالإضافة إلى منعنا من دخول مخيم جنين مع طواقم الصحافة والمصورين لتغطية مجازرهم البشعة".
ويروي قصة خروجه مع خمس سيارات الإسعاف, التي كانت تجبر على الخروج مع بعضها البعض لإنقاذ مصاب استشهد فيما بعد, حيث قال" جاءتنا معلومة ان مصابا على الدوار الرئيسي وسط مدينة جنين, لتخرج سيارات الإسعاف دون تنسيق مع الصليب الأحمر, وعند وصولنا للمكان وكانت دبابة قريبة منا هممت ومتطوعه أخرى لأخذ الجريح, وعند تمكننا من اخذه أطلقت الدبابة النار علينا, رغم أننا نلبس زي الإسعاف وإشارة الهلال واضحة للملأ, وعند إصرارنا لإنقاذ الشاب أطلقت الدبابة النار على الشاب المصاب وقتلته لنركب السيارة بعدها ونهرب ".
وأضاف " بعد أمتار, التقينا بدبابة أخرى وكانت معنا سيارة الدفاع المدني, وأطلقت الدبابة النار علينا وتصاب سيارة الدفاع المدني وتتعطل, بعدها استطعنا الهروب حتى وصلنا إلى مقر بلدية جنين القريبة من المكان, ونمكث فيها حتى فضيت المنطقة من الدبابة ونسلك الطرق الفرعية ونصل إلى مستشفى جنين الحكومي بسلام".
وتابع حديثه وقال " بعد ساعة من وصولنا, جاءنا إنذار من الجيش بعدم الخروج نهائيا إلا بالتنسيق وإلا سنتعرض للموت ".
تهمة باطلة:
وروى زيدان قصة اعتقاله حيث قال "خرجت مع إحدى سيارات الإسعاف في مهمة طبية بعد التنسيق, لنلتقي بحاجز عسكري على دوار الحصان القريب من المخيم, وأجبرونا على النزول والتفتيش الدقيق, وسمح لطاقم الإسعاف بالمغادرة وبقيت أنا رهن الاعتقال ويضعوني في منزل مجاور حولوه إلى ثكنة عسكرية ".
وأضاف " في ذلك اليوم وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل, بعدما تعرضت للضرب والتنكيل والتحقيق سمعت صوت الجنود وهو يصرخون, وعلمت من كلامهم لأني أتقن اللغة العبرية أن ضابطا وجنديا أصيبا وحالتهما خطيرة, وحاولوا الاتصال بالقيادة لنقلهما إلى العيادة الطبية الميدانية في أحراش السعادة القريبة من المخيم, والتي حولوها إلى قاعدة عسكرية ومستشفى طبي ميداني ومركز تحقيق واعتقال, إلا أن سيارات الإسعاف الاسرائيلية لم تستطع الوصول لشدة المقاومة في المنطقة ".
وتابع قوله " سمعت الجريحان قد تلفظا أنفاسهما الأخيرة, ويأتي ضابط آخر ويكشف عن عيني موجها كشاف النور نحو القتيلين, وإذ بالضابط الذي اعتقلني والجندي الذي ضربني, واتهمني الجيش بقتلهما بحجة أن جماعتي المسلحة عندما علموا باعتقالي ووجودي في المنزل قتلوهما".
اللعب بالأعصاب:
وقال " في ساعات الصباح الباكر وعند الساعة السادسة, أخرجني الجنود من المنزل وأجبروني على الانبطاح أرضا على الشارع, ويسألني الضابط عن اختيار الموت اما بالرصاص او بأي طريقة اخرى, فتركت له الخيار ليقول لي اريد قتلك على مزاجي, فأعطى إشارة لدبابة بالاقتراب والمرور على جسدي وكنت اشعر بخوف كبير, لتتوقف الدبابة على بعد سنتيمترات من رأسي وتطلق قذائفها, وأصاب بفقدان السمع لدقائق وبعدها نقلوني إلى مركز التحقيق في أحراش السعادة, وتعرضت للتعذيب والشبح والضرب وسكب المياه الباردة على جسدي العاري في جو بارد, ونقلوني بعدها إلى مركز سالم العسكري لأمكث في زنزانة لمدة 52 يوما, وبعدها إلى المحكمة لأحكم بالسجن سبع سنوات قضيت منها ثلاث سنوات ويفرج عني في صفقة المبادرة الإسرائيلية ".
معاق تحت الردم:
أبو خالد ذو السبعين من عمره يسرد لنا حكاية ابنه الشهيد جمال الفايد المعاق, الذي استشهد تحت الركام بهدم المنزل عليه, وقال " عند بداية الاجتياح صمدت في بيتي ليوم واحد, لاستيقظ في صباح اليوم الثاني على صوت الجرافة تهدم جدار المنزل, واخرج إليها لإعلامهم بوجود عائلتي المكونة من 11 نفرا داخل المنزل, بينهم جمال وكان عمره 33 عاما المعاق حركيا وعقليا".
وأضاف, "أجبرونا على الخروج وقلت لهم أن يعطوني مهلة لإخراج ابني المعاق, وخاصة أنني بقيت لوحدي وأولادي الشباب تم اعتقالهم فور خروجنا من المنزل, وطلبوا مني تأمين مكان للنساء وبعدها أعود لأخذ ابني المعاق".
وتابع " خلال سيرنا بين الركام صادفتنا قوة عسكرية, واعتقلتنا ووضعتنا أمام باب منزل حولوه لثكنة عسكرية كدرع بشري لمنع المقاومة من إطلاق النار عليهم, وحجزونا حتى ساعات متأخرة من الليل ليطلقوا سراحنا بعدها, ونعيش فترة خروجنا من عندهم لحظات خطيرة ملؤها الخوف من جنود يطلقون النار علينا ومن رجال المقاومة, فقد كان الظلام دامس مما سبب في افتراق زوجتي وعددا من أبنائي عني وابني الذي بقي معي, وخلال سيري سمعت صوت أناس داخل منزل, لأبيت تلك الليلة عندهم, بينما عائلتي التي افترقت عني استطاعت أن تدبر نفسها عند أناس آخرين تبيت عندهم ".
وقال " في اليوم الثاني مع اشراقة فجر جديد, توجهت إلى منزلي لإنقاذ ابني المعاق ولكن المنزل قد سوي بالأرض فوق ابني, والدبابات والجرافات سارت على جسده النحيل, وكرسيه المتحرك محطما بجانب جثمانه المقطع, والذي مازال موجودا في بيتي كعلامة على حقد الاحتلال وعنجهيته, الذي لم يميز بين الصغير والكبير والمعاق".
وأشار إلى انه قدم شكوى بعد الاجتياح على الجيش للمحكمة العليا الإسرائيلية, ويفشل في القضية بعدما كذب عليه المحامي من إسرائيل, وجعله يوقع على عريضة مكتوبة باللغة العبرية, وعلمت فيما بعد مفادها التنازل عن القضية لان ابنه مات في حرب راح ضحيتها من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي".
الكل مستهدف:
في المجزرة لم يفرق جنود الاحتلال بين طفل أو مقاوم أو امرأة أو شيخ عجوز, الكل كان مستهدفا أرادوا أن يمحوا المخيم عن وجه البسيطة بمن فيهم من سكان وبيوت, طالما كانت لأصحابها حصنا منيعا من برد الشتاء وحر الصيف, أم فلسطينية فقدت فلذة كبدها أمام ناظريها لم تملك إلا الدموع وصرخات للجنود, بأن يرحموا طفولته البريئة ويسمحوا لها بإنقاذه من الموت المحقق, إلا أنهم لم يستجيبوا فكانت الشهادة صفته منذ اللحظة الأولى لاجتياح المخيم.
أم الطفل محمود عمر الحواشين الذي لم يتجاوز عمره وقت رحيله التاسعة من ربيع عمره, لم تتفتح أزهاره بعد, قالت "أنها لم تملك إنقاذ ابنها عندما اصطادته رصاصات جنود الاحتلال", تصمت قليلا تبلل صورة له حملتها بين كفيها بالدموع ثم تتابع " كانت قوات الاحتلال قد حاصرت الحارة التي نقطن فيها, واعتلت أعلى البنايات فيها وقامت بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي على كل ساكن يلوح بالحركة".
وأضافت " أمطرتنا رصاصات الاحتلال الغادرة, فاخترقت إحداها جسد طفلي لم يكن مسلحا أو يحمل حتى حجرا, حاول الاختباء في حضني إلا أن المحاولة أفشلتها الرصاصة, قمت باحتوائه وإقصائه بعيدا عن زخات الرصاص إلا أن محاولتي فشلت, شهدته يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو على حضني, والمأساة تكمن في أن الجنود أغدقونا بالرصاص حتى أجبرونا على ترك جثة فلذة كبدي ومن ثم هدموا المنزل عليه".
لم تملك هنا إلا المزيد من الدموع على تحطم جسد طفلها تحت أنقاض المنزل, وراحت ثانيا تضم صورته البريئة إلى صدرها, عله يشعر باحتضانها له بعد مرور ست سنوات على استشهاده.
ردم البيوت على أصحابها:
المنازل واجهت مصيرها كقاطنيها أضحت تماما كعلب الكبريت الفارغة, التي ما أن ضغطت عليها بأخمص يديك حتى انهارت, ليختلط ركامها بأشلاء أصحابها شهداء وجرحى, والدة الشهيدين شادي ونضال النوباني أشارت بحسرة في القلب ودمعه محرقة في العين, إنها لم تتمكن مطلقا من رؤية محيا شهدائها, فقد تواروا خلف الثرى مع مجموعه من الشهداء, بل علمت بأنهم قضوا نحبهم أثناء استبسالهم في المقاومة ضد الاحتلال.
لم يكن القتل فقط هو الوسيلة الأولى والأخيرة في المجزرة, التي اقل ما يقال عنها إنها جريمة حرب وكارثة إنسانية عاش تفاصيلها وتبعاتها أهل المخيم, حيث أفاد أبو محمد احد الشهود لمراسلنا أن قوات الاحتلال عمدت إلى تدمير كل مظاهر الحياة في المخيم, كما عمدت أيضا إلى إخفاء تفاصيل دقيقة عن جريمتها, بدفن أشلاء الشهداء وجثثهم تحت الحجارة كي لا يعرف الرقم الحقيقي لأعداد الشهداء .
وأضاف أن جنود الاحتلال عمدوا إلى النيل من كرامة الإنسان الفلسطيني, فأثناء الاعتقال أجبرت الشبان على خلع ملابسهم أمام نسائهم وذويهم, وجعلتهم يمرون على مكان اعتقالهم عراة لافتا إلى أنهم قاموا بتدنيس دور العبادة والمدارس, واخفوا كل ذلك إلا أن عدسات المصورين الأجانب والمراسلين الصحفيين أظهرته بتفاصيله الدقيقة لتدلل على حجم الكارثة في المخيم .
قرار الصمود والثبات:
أم رمزي تعود بالذاكرة قليلا وتقول في ذكرى المجزرة, "كاد الرصاص المنهمر يفتك بي وبعائلتي فقد اخترقت عدة رصاصات جدار المنزل حتى شعرت بالخطر الشديد, وبأنني وأبنائي أصبحنا في عداد الشهداء فسقطنا جميعا على الأرض, وأخذنا نزحف نحو المطبخ ونردد الشهادتين قد شعرنا بالموت يداهمنا في كل مكان".
وتمضي أم رمزي قائلة "كان قرار الجميع في المخيم الصمود والثبات, حتى بدأت عمليات الهدم وطردنا من المنازل في جو كان البرودة, حيث كان العشرات من الأطفال والشيوخ والنساء ينتفضون من شدة البرد, وبتنا نواجه القمع الإسرائيلي والموت البطيء خاصة مع تزايد حدة القصف الإسرائيلي".
وتصف أم رمزي تلك الأيام التي عاشتها بأنها الأقسى والأصعب في حياتها, وقالت " كنا نتحرك زحفا وننام على ارض المطبخ وتحت الكراسي والطاولات".
أما أم علي فقد أكدت أن منزلها انهار بعدما أصيب بقذيفة, عندما كانت بداخله مع زوجها وأشقائه وقالت "بدأنا بالصراخ ثم استطعنا النهوض من الركام, وحضر الجنود وأمرونا بإخلاء المكان بعد اعتقال زوجي وأشقائه".
وأضافت "لقد أجبروهم على خلع ملابسهم واقتادوهم إلى أحراش السعادة", مشيرة إلى أن جنود الاحتلال كانوا يتكلمون من خلال مكبرات الصوت باللغة العربية, ويؤكدون أنهم جيش أقوى من المقاومة .
أسطورة المقاومة:
المقاومة كانت قوية جدا, فرغم بساطة الأسلحة التي معهم إلا أن التكتيك والتخطيط والتواجد معا في خندق واحد دون التمييز بين تنظيم وآخر كما في هذه الأيام, خلقت عدة صور مختلفة لحالة الخوف والهلع التي عايشها جنود الاحتلال خلال دخولهم المعركة أو محاولتهم تصفية المقاومة .
ويصف المواطن جمال زايد كيف تحصن عدد من المقاومين في الشقة المجاورة لمنزله, قائلا " لا اصدق ما رأته عيناي فقد كانت المواجهة وكلما اشتد القصف ترتفع معنويات المقاتلين, الذي رفضوا الخضوع والاستسلام ولم يتمكن الاحتلال من مغادرة دباباتهم والتحرك مترا واحدا على أرجلهم, فالمقاومة كانت لهم بالمرصاد".
وأضاف " كانت الملائكة تقاتل معنا في المخيم, فقد حوصر الكثير من المقاومين ولكن فجأة ينفك الحصار ويتراجع الاحتلال, وقد شاهدت جنود الاحتلال يبكون ويشتمون ارئيل شارون".
بينما أبو علي يروي قصة بطولية قام بها رجال المقاومة وأشبال العبوات الناسفة, حيث قال " إن المقاتلين نصبوا كمينا لإحدى الدبابات في ساحة المخيم, وبعد وصولها لوسط الساحة شنوا هجوما عنيفا, ورغم إطلاق الجنود النار العشوائي حاصرها عشرات الأشبال بعشرات العبوات الناسفة تسقط حول الدبابة وفوقها, حتى عجز الجنود عن التقدم أو التراجع حتى بعد اشتعال مقدمة الدبابة, وبعد حضور الطائرات والمزيد من الدبابات تمكنت قوات الاحتلال من جر الدبابة بمساعدة عدة جرافات".
وفي موقع آخر, قالت أم رياض "أن الجنود بكوا بشدة بعد أن حوصروا بالعبوات, حيث استغلوا الليل وتسللوا لمنزلنا ونصبوا كمينا للمقاومة, ولكن سرعان ما انكشفت العملية وبدأت معركة قوية, فالعشرات من المقاومين والأشبال حاصروا الجنود داخل منزلنا وبعد خمس دقائق, بدأ الجنود بالبكاء وإجراء الاتصال بقيادتهم مطالبين بإخراجهم وإنقاذهم من الموت ".
وأضافت "أنهم كلما وقع انفجار وألقيت عبوة ناسفه, كان الجنود يهرولون لداخل المنزل مذعورين ويصرخون ويشتمون الذات الإلهية وموفاز وشارون, حتى أن احد الجنود ارتمى بين أطفالي ورفض الخروج حتى انسحب الجيش من المنزل".
بينما المواطن أبو فخري قال " إن العبوات الناسفة التي كانت تلقى على الجنود الذين احتلوا منزله أكدت له مدى هشاشة الجيش وضعفه, فبعد انفجار عدة عبوات أصيب الجنود بالانهيار التام, حتى أن احدهم سقط سلاحه منه خلال هربه للغرف الداخلية ولم يعد لأخذه إلا بعد توقف إلقاء العبوات الناسفة ".
وأضاف " أن العبوات الناسفة حطمت معنويات الجنود, وسمعهم يتحدثون عبر جهاز اللاسلكي بأن شارون أرسلهم للموت في المخيم, فالعبوات تنفجر فوقهم وأمامهم والموت يتربص بهم من كل جانب".
الأطفال لم ينسوا الجراح :
الطفل مصطفى الفايد 14 عاما يسرد لنا مأساة أسرته خلال مجزرة مخيم جنين, والتي انتهت بفقدان والده ويقول " عند اقتحام المخيم ووصول الجنود إلى المنطقة التي نقيم فيها في المخيم من ناحية الجبل, شرعوا باحتلال المنازل ونصب الكمائن بها لاصطياد رجال المقاومة ,وفي ظل القصف المتواصل أصبح كل شيء مهددا بالخطر والذي يحيط بنا من كل جانب, فنقلنا والدي إلى الغرف الداخلية ومكثنا فيها أسبوعا كاملا لا نرى وجه الشمس ولا نسمع سوى أزيز الطائرات وهدير الدبابات, وكنا لا نتوقف عن البكاء رغم محاولات والدي رفع معنوياتنا, وكان يقول لنا "ما تخافوش" ويضحك أمامنا, حتى أن الطائرات عندما تقصف والقذائف تصل الأرض كانت أمي تصرخ بالانبطاح على الأرض, لكن والدي كان يقول لنا "ما تردوش على أمكم" ويضحك وهو يتلوا القران".
وأضاف " بعد أيام صعاب وصل الجنود إلى منطقتنا, واقتحموا المنزل ليدخل عشرات الجنود إلى المنزل ويكسرون كل ما فيه وفتشوها بوحشية, واعتدوا على والدي بالضرب وأخذوه لساحة المنزل وسمعنا صوته وهو يصرخ من شدة الم الضرب, ليأخذوه معهم إلى أحراش السعادة".
وتابع حديثه " بعد ذلك انقطعت أخباره وبدأنا بالبحث عنه, فتارة يقولون انه في مستشفى العفولة وتارة يقولون انه في سجن عوفر, وأمضينا ثلاثة أشهر ونحن نبحث عن مصيره وكنت وأشقائي نبكي ليل نهار نريد أبانا, حتى ابلغنا الارتباط الفلسطيني أن والدي استشهد وانه في معهد أبو كبير الإسرائيلي, والتي كانت صدمة كبيرة علينا ولم نتمكن من وداعه ومشاهدة جثمانه بسبب ما تعرض له من تشويه".
كانت هذه بعض القصص, التي استطعنا رصدها عبر من شاهدوا وعاصروا مجزرة مخيم جنين فرغم السنوات الستة على وقوعها , إلا أنها ما زالت في ذاكرتهم وستبقى إلى أن يشاء الله, فقد أكد أهل المخيم ذلك ولسان حالهم يقول " سنظل شموعا تضيء الدرب لأرواح الشهداء وسننتصر لهم قريبا بإذن الله".