لكي تكون قوة... ولكي تكون عربية
معن بشّور
أعلن الأمين العام المساعد «لجامعة الدول العربية» السيد أحمد بن حلي أن القمة العربية «الناقصة» بتغييب سورية، والتي ستنعقد في مصر أواخر هذا الشهر، ستناقش مسألة تشكيل قوة عربية مشتركة لصون الأمن القومي العربي، وستكون في أولويات اجتماع القمة.
طبعاً لن نفتح سجل تعاطي القمم العربية، وجامعة الدول العربية، مع قضايا الأمن القومي العربي منذ نكبة فلسطين حتى اليوم، فهو سجل حافل بانتهاكات الجامعة للمواثيق والمعاهدات التي قامت عليها، خصوصاً معاهدة الدفاع العربي المشترك، بل هو سجل يقوم على معادلة بسيطة «الصمت، وأحياناً التواطؤ» إذا تعرّض بلد عربي لعدوان خارجي أو احتلال أجنبي، كما هي حال فلسطين ولبنان والعراق، من جهة، ومن جهة ثانية على «التورّط» بالمال والسلاح والتحريض واستدعاء التدخل العسكري الأجنبي في حال نشوب أزمة داخلية كما كانت الحال في ليبيا أولاً ثم في سورية في شكل خاص.
ومع ذلك، سنناقش هذه الفكرة «الجيدة» في عنوانها، والخطيرة في توجهها من باب توفير الشروط والضمانات الضرورية التي تجعلها فكرة في خدمة الأمة بدلاً من أن تتحوّل إلى مشروع في خدمة أعدائها.
أول هذه الشروط – الضمانات هو أنّ مقياس سلامة أي تشكيل عربي، عسكرياً كان أو سياسياً أو ديبلوماسياً أو اقتصادياً، يكمن في تحديد الأولويات الحاكمة لأهدافه وتوجهاته، وتحديداً في صوغ عقيدة واضحة لهذه القوة تحدّد العدو والصديق كما تفعل الجيوش عادة.
فلا أولوية في الوقت الراهن أمام الأمة العربية تعلو على أولوية الصراع مع المشروع الصهيوني – الاستعماري الذي لم تكن فلسطين ساحة احتلاله وإرهابه وجرائمه المستمرة وحسب، بل باتت المنطقة كلها هدفاً لهيمنته ومخططاته للتفتيت ولتفجير كلّ العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية من المحيط إلى الخليج.
إنّ إعادة الاعتبار لأولوية الصراع مع هذا المشروع، ولمركزية القضية الفلسطينية ليس من شأنها الدفاع عن فلسطين وشعبها وحريتها ومقدساتها فحسب، بل من شأنها أيضاً إعادة لمّ الشمل العربي بعد عقود من واقع بدأ بالتجزئة والانقسام ليصل إلى واقع ينزلق بسرعة إلى مهاوي التفتيت والتقسيم.
ولعلّ في ذكرى يوم الأرض 30 آذار ، والتي يتزامن حلولها مع انعقاد القمم العربية منذ سنوات، ما يُذكّر المجتمعين في القمة المقبلة، بفلسطين الأرض والحقوق والنضال من أجل تحريرها.
وثاني هذه الشروط – الضمانات يقوم على أنّ الأمن القومي العربي لا يُصان أصلاً في غياب ركن أساسي من أركانه متمثلاً بسورية التي كانت دولة مؤسّسة في جامعة الدول العربية والذي تحمّل جيشها وشعبها منذ حرب 1948 عبئاً رئيسياً، ولا يزال في مواجهة المشروع الصهيوني. كما يتحمّل اليوم عبئاً محورياً في مواجهة حالات الغلوّ والتطرف والتوحّش التي تنتشر في العديد من دول المنطقة.
لقد اختلّ الأمن القومي العربي في أواخر السبعينات بسبب غياب مصر أو تغييبها بفعل اتفاقيات «كامب ديفيد» التي استهدفت إخراج مصر من الصراع العربي – الصهيوني وإدخال الأمة كلها في حروب وصراعات جانبية شهدنا فصولاً منها في أكثر من قطر عربي من مشرق الوطن الكبير إلى مغربه.
وحين اتخذت جامعة الدول العربية بإيعاز أميركي وتمويل نفطي قرارها بإخراج الدولة السورية من الجامعة ومؤسّساتها، كان ذلك القرار إخلالاً خطيراً ليس بالأمن الوطني لبلد كان دائماً في طليعة المدافعين عن أمن كلّ أشقائه وسياداتهم الوطنية فحسب، بل كان إخلالاً خطيراً بالأمن القومي العربي برمّته، وبالأمن والاستقرار في العالم كله، إذ تناثرت شظايا الغلوّ الطائفي والتطرف الدموي والتوحش التدميري لتعمّ دولاً قريبة وبعيدة وعواصم عالمية في الغرب والشرق معاً.
فأيّ حديث عن قوة عربية مشتركة لا تكون فلسطين غايتها، وسورية في القلب منها، يثير أكثر من علامة استفهام ويطرح إمكانية تحويل القوة إلى أداة لاستدراج الأمة كلها إلى حرب أهلية عربية وإسلامية شاملة خصوصاً مع تصاعد الدعوات التي تريد استبدال الصراع مع مغتصبي الأرض والمقدسات إلى صراع مع دول الجوار التي لعبت ولا تزال دوراً في دعم مقاومة الاحتلال والعدوان. على رغم ما يمكن أن نسجل من ملاحظات واعتراضات على بعض أدائها وممارساتها.
أما الشرط الثالث فيكمن في حسم العلاقة بين هذه القوة العربية المشتركة وبين قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، أياً تكن التباينات والحساسيات التي طغت وتطغى على سطح العلاقة بين هذه القوى وبين مكوّنات القوة المشتركة المزمع إنشاؤها.
لقد مكنت معادلة بسيطة صاغتها التجربة اللبنانية، وأعطت نتائج باهرة على رغم كلّ ما أحاط بها من تشنجات، وهي معادلة «الشعب والجيش والمقاومة»، في توفير توازن رادع مع العدو الصهيوني، وفي توفير الأمن والاستقرار في بلد لم تتوقف «تل أبيب» عن شنّ الحروب عليه لسنوات طويلة قبل إرساء قواعد هذه المعادلة.
فما الذي يمنع أن تقوم معادلة عربية أيضاً على قاعدة «الشعب والجيش والمقاومة» على امتداد الأمة كلها، لا سيما في دول الطوق، التي بات واضحاً أنّ المقاومة فيها مستهدفة، وكذلك الجيوش، وصولاً إلى الشعب نفسه.
صحيح أن قيام مثل هذه المعادلة تتطلب مراجعة جريئة، وشجاعة من كلّ المعنيين بها، أنظمة ومنظمات، ويتطلب حواراً صريحاً وشفافاً بينها، يتجاوز الأخطاء والخطايا التي لم ينج منها أحد، وأنّ كلفة هذه المراجعة، مهما كانت عالية تبقى أقلّ بكثير من كلفة تصعيد الصراع بين أطراف هذه المعادلة.
قد يكون في هذه الشروط الكثير من الخيال، وربما الأوهام، لا سيما إذا أدركنا حجم نفوذ القوى والجهات المحلية والإقليمية والدولية المعادلة لمثل هذه المعادلات، ولكن مواجهة المخاطر الكبرى التي تحيق بالأمة كلها، وبكلّ قطر من أقطارها، تستوجب تلبية هذه الشروط التي نرى فيها ضمانات لأمننا القومي العربي لا مجرّد شروط.
حينها فقط يمكن الحديث عن «قوة عربية» توحد ولا تفرّق، تصون ولا تبدّد، تشدّ أزر الصديق، وتردّ كيد العدو، كما قال يوماً جمال عبد الناصر في إعلان الجمهورية العربية المتحدة في مثل هذه الأيام من عام 1958.
من هنا يتطلع أبناء الأمة إلى مصر، وهي صاحبة فكرة إنشاء هذه القوة، بكثير من الأمل بأن تلبّي الشروط، وتوفر الضمانات، التي تجعل منها قوة فعلاً وعربية فعلاً
المصدر.