سُمي بـ (شارع العرايس) او (شارع الحسناوات) الذي ارتبط بحكايات الحب والزواج عند البغداديين.
إنه (شارع النهر) الذي تكاد غالبية نساء بغداد المتزوجات يجزمن على أن ملابس أعراسهن وتجهيزاتها نقلن إلى عش الزوجية من هذا الشارع ، قبل أن يأفل نجمه أبان فترة الحصار الاقتصادي، ثم الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وما تبعه من عمليات إستهداف منظمة بالسيارات المفخخة لأسواق بغداد العريقة كالشورجة وشارع المتنبي وغيرهما.
منذ أربعينيات القرن الماضي ، و(شارع النهر) يحتضن قصص الحب والعشق التي تتوج غالباً بعقد زواج تتم كتابته وتوثيقه في المحكمة الشرعية التي كانت تتوسط الشارع.
ويصف عمار ناجي ، صاحب محل ، شارع النهر بأنه كان (منظومة حب متكاملة) حسب تعبيره ، تبدأ بقصة حب بين شابات وشباب يرتادون هذا الشارع ، ثم تتطور بعض تلك القصص إلى الخطوبة فالزواج.
وبين أول القصة ونهايتها السعيدة، والكلام لا يزال لعمار، يجد الحبيبان كل مستلزمات عشهما الذهبي إبتداءً من الملابس النسائية والفرش والماكياج والعطور والمصوغات الذهبية التي تسمى (النيشان)، وإنتهاء ً بكلمة الموافقة على الزواج التي ينطقها الحبيبان أمام قاضي المحكمة الشرعية وسط (شارع النهر) !
يمتد تأريخ شارع النهر إلى العصر العباسي حيث يرتبط بسوق الخفافين الذي بني في ذات الفترة التي بنيت فيها المدرسة المستنصرية قبل أكثر من 1100 عام.
وكان شارع النهر يمتد على كورنيش دجلة لهذا سمي بـ (شارع النهر) في حين أن إسمه الرسمي المسجل في أمانة بغداد هو (شارع المستنصر)، ويوازيه من جهة الشرق وعلى مسافة قريبة أقدم شوارع بغداد وهو شارع الرشيد.
في خمسينيات القرن الماضي كان (شارع النهر) مزدحماً في كل المواسم ، صاخباً يلفه ضجيج الحياة ، لكن هذا الضجيج لا يمنع سماع (موسيقى) ضحكات السيدات اللائي يرتدنه في كل ساعات النهار ويلبي بفرح وسرور كل احتياجاتهن في كل مراحل حياتهفقد كان الشارع يشتهر بالمقاهي النسائية المخصصة للاستراحة بعد عناء التجوال في السوق والتبضع والتي كانت تقدم لزبائنها القهوة والمرطبات.
وعرفن.
كانت محاله عامرة أيضا بكل إحتياجات الأطفال مع إستراحة خاصة للصغار ومحال إستراحة للسيدات اللواتي أتعبتهن (الفرجة) على كل ألوان الملابس وتنوع الحاجات وبريق الأسوار في محال الصاغة.
عن (شارع النهر) حركته النشطة المتواصلة منذ الصباح وحتى ساعات الليل ، حيث كان يزدحم بالعائلات الآتية من كل مكان للتبضع ولا سيما مع إقتراب مواسم الأعياد.
يقول توفيق إبراهيم ، صاحب محل اكسسوارات ،: كان (شارع النهر) ملتقى للعائلات البغدادية التي تجد فيه ضالتها من البضائع النسائية المختلفة ومستلزمات الأعراس ، ومن المؤسف أن يفقد الشارع ملامحه التأريخية وحيويته التي عرف بها منذ عشرات السنين ، خلال الفترة الماضية بعدما تراجعت أنشطته ولم يتبق منه سوى ذكريات ماضيه الجميلة.
في مدخل الشارع من جهة جسر الأحرار نجد محال صاغة المجوهرات والحلي الذهبية والفضية وبعض محال الأنتيكات المجاورة لبناية غرفة تجارة بغداد التي تأسست عام 1926 ، تليها مجموعة من الخانات القديمة ـ تحولت إلى محال تجارية ـ وهي خان دله وخان الباجه جي وخان الخضيري وخان النملة وخان النبكة وخان العادلية وخان الدفتردار .
ويضم الشارع عدداً من الجوامع العريقة وأبرزها (جامع الباجه جي) وجامع (التكية الخالدية) وجامع (العادلية الكبير) و(جامع الخفافين) الذي يعد من أقدم الجوامع في بغداد ويعود تاريخه إلى نهايات الخلافة العباسية.
وبعد تقاطع (شارع النهر) مع شارع السموأل يأتي سوق دانيال الذي سمي بهذا الأسم نسبة إلى أول من باع به وهو يهودي عراقي يدعى دانيال، وهذا السوق متخصص ببيع لوازم الخياطة كافة وإلى جانبه سوق لبيع الأقمشة النسائية والرجالية.
وبالإتجاه نحو المدرسة المستنصرية عند نهاية (شارع النهر) هناك (سوق الخفافين) الذي أنشئ قبل 800 عام واشتهر بمهنة (الريافة) وصناعة العباءات الرجالية والعقال العربي وغيرها من الملابس الشعبية ، وهو الطرف الأخير من الشارع حيث يوجد مسجد وعدد من المقاهي حملت الاسم نفسه.
ويجمع أغلب اصحاب المحال على أن (شارع النهر) بدأ يفقد زبائنه منذ تسعينيات القرن الماضي بسبب الحصار الاقتصادي ، إذ أخذت هذه الفترة من طراوة ومخملية هذا الشارع شيئاً فشيئاً.
عانى (شارع النهر) التراجع الاقتصادي خلال الفترة المذكورة حينما بدأ العراق يعاني وطأة حصار اقتصادي لتتحول محاله إلى مخازن للمواد والسلع المختلفة، ويفقد وظيفته تحت قسوة الحياة الاقتصادية.
ودفعت تلك الموجة الحادة من الكساد والركود، أصحاب المحال التجارية التي تشتهر بتسويق وبيع الملابس النسائية ، الى تغيير حرفهم والتحول الى حرف أخرى لا تدخل في إهتمام المرأة العراقية حتى هجرته تماماً.
ويستذكر عدد من أصحاب المحال القدماء أن شارع النهر كان سوقاً مزدهراً مشرقاً خلال سبعينيات القرن الماضي واستمر هذا الوضع حتى خلال الثمانينيات على الرغم من أجواء الحرب العراقية ـ الايرانية، لكن النساء كن مقبلات بشكل كبير على شراء الذهب والمجوهرات، لأن دخل الفرد كان جيداً.
وبنبرة تشوبها الحسرة على الأيام الخوالي، يقول رياض حسن ، 52 عاماً ـ صاحب محل أقمشة : " كانت النساء يرتدن شارع النهر أكثر من الرجال، وكن سافرات ويتحلين بأجمل الأزياء والموديلات الحديثة ، وكان الرجال وخصوصا الشباب يأتون للمتعة برؤيتهن فيبدو الشارع ضاجاً بالحياة وتلفه أجواء الحب التي يشعر بها المرء بسهولة !
أما اليوم ، فإن (شارع النهر) يبدو وكأنه يحاول النهوض من كبوته ويصارع من أجل البقاء مستعينا بوضع أمني مستقر نسبياً، وقدرة شرائية جيدة خصوصاً بين (الموظفات) اللواتي هجرن هذا السوق خلال سنواته العجاف الماضية.
فقد بدأت الحياة تدب في الشارع مجدداً، وإن كانت بطريقة محدودة ، وأصبح رواده الآن من الرجال والنساء معاً .
ويية ، لكن هذه لاحظ الآن أن العائلات بدأت تتشجع وتزور الشارع وتتجول في أسواقه ومحاله بعدما هجرته خلال السنوات الماضية بسبب الحوادث الأمنالحركة تقتصر على أوقات محدودة من الصباح وحتى ساعات الظهيرة حين يبدأ أصحاب المحال بغلق أبوابها خوفا من أعمال العنف أو السرقة.
وقد أخذت المحال التجارية تفتح أبوابها من جديد بسبب التحسن في الأمن وعودة أكثر أصحاب المحال التجارية إلى بلدهم بعد أن كانوا خارجه بسبب ما عاناه في السابق من ظروف أمنية صعبة وتعرض هذه المنطقة للكثير من التفجيرات.
وعلى الرغم من أن أكثر المحال التي ما زالت أبوابها مفتوحة في شارع النهر هي محال البيع بالجملة والتي تعتمد في تصريف بضاعتها على أصحاب المحال في الأسواق الصغيرة المنتشرة في بغداد وعلى تجار المحافظات، إلا أن محال البيع بالمفرد انحسرت وقلت في الشارع بسبب قلة الزبائن وخصوصا النساء في الفترة السابقة بسبب الأحداث الأمنية.
وتبقى للتبضع في شارع النهر، نكهة خاصة بالنسبة للمرأة البغدادية، فهذا الشارع ينتظر إجراءات حازمة من أمانة بغداد خصوصاً لتنظيمه وإخلائه من الطارئين عليه من مهن أخرى وتعيد تأهيله كما تم تأهيل شارع المتنبي الذي (انتظر) سيارة مفخخة كي يلتفت الى حاله المسؤولون!.
المصدر: مجلة الموروث ، العدد التاسع والاربعون ، آذار 2012