اللعب والخيال مظهران جوهريّان من مظاهر الإبداع
جورج كعدي
يرى العالِم الإنكليزيّ فرانسِسْ غالتون «أنّ المغالين في حماستهم والمفرطين في نشاطهم العقليّ لا بدّ من أن تكون أدمغتهم غالباً شديدة الاهتياج، غريبة الأطوار، ويُحتمل أن يتعرّضوا للجنون أحياناً، وربّما أصابهم انهيار تامّ … . وإذا كانت العبقريّة تعني شعوراً بالإلهام أو بتدافع أفكار من مصادر تبدو خارقة للطبيعة، أو إذا كانت تعني الرغبة المضطربة العارمة في تحقيق أيّ هدف محدّد، فإنّ ذلك يكون قريباً على نحو خطير من الأصوات التي يسمعها المجانين، ومن ميولهم إلى الهذيان، أو من نوبات المسّ الأحاديّ التي تصيبهم».
أمّا بروست فيقول: «إنّ عبقريّة الفنّان تشبه درجات الحرارة المرتفعة جداً والقادرة على تفكيك تجمّع الذرّات ثم جمعها مجدّداً في ترتيب مختلف تماماً ومطابق لنسق آخر». ويقول الروائيّ الإنكليزيّ صمويل بتلر: «تدلّ العبقريّة على التغيّر، والتغيّر هو الاشتياق إلى عالم آخر جديد، لذا يشكّ فيها العالم القديم. إنّها تُفسد النظام وتزعزع العادات والتقاليد، ولهذا السبب هي لاأخلاقيّة … إن الفطرة غير المألوفة في العبقريّة، والفطرة الطبيعيّة السليمة لدى عامّة الناس، هما مثل الزوج والزوجة في شجار دائم».
كانت العلاقة الوثيقة بين الانفعال والجنون فكرة من أفكار القرنين السابع عشر والثامن عشر. وأظهرت دراسات حديثة أن لدى الكتّاب معدّل أعلى من المرض العقليّ، كما لوحظت نسبة مرتفعة من الاضطراب العاطفيّ والقدرة الإبداعيّة حتى لدى أقارب الكتّاب من الدرجة الأولى. وارتباط القدرة الإبداعيّة بالاضطراب العاطفيّ خاصّة في الأدب يوحي أن تكوين المزاج الدوريّ قد يكون سمة قيّمة من الناحية الاجتماعيّة. وفي حين رأى غالتون، آنف الذكر، أنّ العبقرية هي شيء بيولوجيّ نابع من مصادر خارج الشخصيّة وتجاربها، رأى فرويد خلاف ذلك أنّ القوّة الأساسيّة المحرّكة للعمليّة الإبداعيّة كامنة داخل الفرد، معتبراً أنّ الجزء الجوهريّ من إبداعات العباقرة يأتيهم على شكل إلهام، نتيجة التفكير اللاشعوريّ. ونظر فرويد إلى الفنّان بكونه انطوائيّاً، من حيث المبدأ، وغير بعيد عن العصاب، فهو خاضع لقهر الحاجات الغريزيّة المزدادة قوّة، وهو يرغب في نيل الشرف والقوّة والثروة والشهرة وإعجاب النساء، بيد أنّه يفتقر إلى الوسائل التي تسعفه في إشباع تلك الحاجات الغرائز. ويمتلك الفنّان، بحسب فرويد، قدرة عظيمة على التسامي والتراخي، بدرجة معيّنة، في كبت صراعاته الانفعاليّة، وبخاصّة الإثارات الجنسيّة المفرطة، فيجد متنفّساً لها ويستخدمها في مجالات أخرى.
ما يهتمّ به التحليل النفسيّ هو في المقام الأوّل دراسة الدوافع النفسيّة، أي العوامل التي تدفع بالعباقرة رجالاً ونساءً إلى إنجاز أعمالهم. أيضاً في نظر فرويد، الخيال مستمدّ من اللعب، ويكفّ الأطفال تدريجيّاً عن اللعب بالأشياء الحقيقيّة إذ يبدلونها بالخيال وأحلام اليقظة. والكاتب، في رأي فرويد، يفعل الأمر عينه الذي يفعله الطفل أثناء اللعب، فيخلق عالماً من الخيال يأخذه على محمل الجدّ.
لا نظرة عقليّة خالصة إلى العالم إلاّ يلعب الخيال فيها دوراً. حتى الاكتشاف العلميّ يعتمد على استخدام الخيال، فلو لم تكن لدى آينشتاين قدرة على تخيّل الصورة التي يبدو فيها العالم للمراقب المسافر بسرعة تداني سرعة الضوء لما صاغ نظريّة النسبيّة. واللعب مظهر جوهريّ من مظاهر الإبداع على ما يرى مؤرّخ الحضارات الهولنديّ يوهان ويستينغا في كتابه «الإنسان لاعباً» Homo ludens ، وعرّف آينشتاين التفكير بأنّه «لعب إراديّ بالمفاهيم»، معترفاً بأنّ الصور في تفكيره هي سيطرة على الكلمات، كما اعتبر أن هذا التفكير ينطلق بلا وعي إلى حدّ لا يستهان به.
من أبلغ ما قيل في العباقرة ذوي حماسة الروح المتألّقة والجنون الرائع عنوان هذه السلسلة قول للكاتب الإيرلنديّ الساخر جوناثان سويفت: «عندما يظهر عبقريّ حقيقيّ في العالم يسعك أن تعرفه من هذه العلامة: تحالف الأغبياء جميعاً ضدّه»…