سمية عسقلاني تصارع الحياة بصوت أنثوي حرّ
كما لو أنها لوحدِها،تأتي الشاعرة د. سمية عسقلاني الى منطقة الشعر قادمة من لحظة زمنية بعيدة جدا،يعود الشعر فيها الى منابعه الأولى،حيث الصوت ولِدَ عاريا حراً،لا تكبله القواعد،ليتجلى فيه الصوت الانساني ــ الانثوي ــ بكل حساسيته ورقته،في لحظة محسوسة بالنبض.لحظة،مازالت ــ كما هي ــ على نداوتها قبل أن تكون مرئية،دون أن تكبلها أعباء واحمال ثقيلة تكدست على أصوات شعراء أخرين .وهذا ماتشير إليه عسقلاني في جملتها الأولى قبل أن ندخل عالمها الشعري:
انتبهوا
هنا عشبة لم تجف
وشعاعٌ يثقب غيمة .
الشعر يعكس تجربة الشاعر وذاتيته ازاء العالم الموضوعي،ويأتي النص محاولة من الشاعر لايقاظ الوعي في ــ ذات ــ تجربته الشعورية،بعد أن كانت الذات قد خاضت إرهاصات تلك اللحظة،والشاعرة هنا،تمارس فعل الاكتشاف، لتعيد مرة أخرى اكتشاف الاشياء التي خَبَرتها،وبنفس الوقت هي تعيش لحظة الاحساس بدهشة الحياة ساعة تتشكل بتفاصيل صغيرة تمرُّ أمامها،فتستدعيها بذاكرتها الشعرية مُحيلة إيّاها الى معانٍ أخرى جديدة،وإنْ ليس هنالك من شبه مابين الدلالات،وبذلك هي تسعى إلى أن تفصحَ طاقةُ الشعر عن نفسها،بإعادة الروح الى طاقته العضوية/ الفطرية،كما يسميها هربرت ريد في كتابه المعنون طبيعة الشعر:"حين تتوافر للعمل الفني قوانينه الفطرية الخاصة به،وينبثق عن روحه الابداعي الحقيقي ويدمج في كلِّ واحد حيّ البنية والمحتوى،فالشكل الناتج مِن ثمَّ يمكن أن يوصف بأنه عضوي ". هذا المنحى الذي تتحرك فيه الشاعرة لايتعارض مع الفعالية القصدية التي يتجوهر فيها عمل الشاعر طالما هو مدرك تماما أن:كينونته الاسلوبية التي يتطلع بها ومن خلالها أنْ تكون خارج التصنيفات النقدية الجاهزة والمتداولة .
كآبة ديسمبر ٍ
تتدحرج فوق النوافذ
وكان الزجاج يعكس صورة مشوشة
إنه القرنفل
متعدد اللون مثلي
هو الآن يغلق براعمه
في انتظار الشمس "
نصوص عسقلاني تحمل بين تجليات صورها،بما تحمله من سلاسة وتدفق وشفافية تأملات عميقة في تفاصيل حياتية لم نعد قادرين ونحن في فوضى الحياة واحزانها أن نحسن اكتشافها،لاننا قد اصبحنا فجأة حزانى على غير عهدتنا،نسير باجساد ميتة لانبض فيها،لكثرة ما اتخمها الحزن فاحالها الى سلّة مهملات تُلقى فيها مشاعرنا كما تُلقى السجائر في المنفضة،إلاَّ أن عسقلاني تعيد صياغة الاشياء المستهلكة ــ فلسفيا ــ من جديد كما لوأنها ترنو أن تعيدها الى دورتها الاولى.
سأتخلى عن حزني
هكذا ببساطة
سألقي به في مطفأة السجائر أو سلة المهملات
لن التفت إليه حين يرجوني لالتقطه ثانية
سأدير ظهري لدموعه المنهمرة
وأنا أنظر في ساعتي .
الشاعرة عسقلاني تأتي جملها محمولة عبر صور حسية كثيفة في دلالاتها،وفي مجمل بنيتها الشعرية تعكس في سياقها العام ــ صوتا أنثويا ــ خاص بها،لن نجد بين مفرداته صدى لأصوات اخرى قد تأتي متسللة إليه من نفس المكان الذي تقف فيه الشاعرة داخل مشهد شعري عربي عادة ما تفصح معظم اصواته عن مشتركات عضوية لايستطيع الشاعر العربي الفكاك منها طالما كان مفهموم الشعر لديه بما هو شائع ومتداول ــ افقيا وعموديا ــ مرهونا بماهو سياسي / اجتماعي .
هذا الفهم الفني للتجربة لايقتصر على الشعر الذي يكتب وفق المنظومة الكلاسيكية فقط،بل يتجاوزه الى بقية الاشكال والتجارب الشعرية التي ابتعدت في بنيتها الفنية عن منظومة البناء الكلاسيكي،مثل قصيدة التفعيلة،او قصيدة النثر،او النص المفتوح ..الخ من الاشكال،فتجدها هي الاخرى لاتستطيع إلا أن تُحرِّك مفرداتها داخل مناخات ماهو سياسي / اجتماعي،وكأن الشاعر بهذا الفَهم يعكس ازدواجيته،ذلك لأنه ظاهريا ونظريا يدَّعي التَّمرد والتجاوز في رؤيته الفنية عن كل ماله صلة بالمورث،لكنه في نفس الوقت لايستطيع أو في الأصح يخشى أن يُعبِّر عن هذا التمرد فنيا،أو الخلاص مما هو سياسي / اجتماعي في معظم مايكتبه من مفردات شعرية،وصولا الى التعبير عن ذاته الانسانية الخالصة،وعن فردانيته الانسانية، احساساً،وانطباعا،وصورا،وم فردات،وبذلك يبقى مناخه الشعري الذي يحلق فيه،هو نفس المناخ الذي ينتجه الشاعر الكلاسيكي،وليبقى الفرق قائما في إطار شكلاني فقط.وقِلَّة هُمْ اولئك الشعراء الذين يتصالحون مع ذواتهم الانسانية ــ كما هي عسقلاني ــ دون أن يعيروا أهمية فيما لو نُزِعتْ عنهم صفة الشرعية الفنية التي تعني أن: يتطابق النص ــ شكلا ومحتوى ــ مع المشتركات العضوية التي تحدد ملامح البيئة الاجتماعية /الثقافية في المنطقة العربية توافقا وتصالحا وانسجاماً.
من هنا يأتي سِرُّ جمالية الصورة الشعرية لدى عسقلاني،في انسلاخها عن ــ المشترك ــ مع ماهو مكتوب قبلها،ومايجاورها،في ذات اللحظة الزمنكانية التي يصدح فيه صوتها .
محيط ٌ من الصحراء
تبدو صفحتي
هوّةٌ تبتلعني
أحكم قبضتي على الحروف
لأخفي تخلخلا واضحا في بنائي الداخلي
أتسلل من قافية الملح
وأوازن الزبرجد
اتبع اتكاء الريح
على موجة تائهة
اتناثر ...
ييدو التلاقح الواعي مع طبيعة الشعر الاجنبي خارج المنطقة العربية ــ خاصة الشعر الاوربي ـــ واضح جدا في العالم الشعري الذي تتحرك فيه عسقلاني،فالمفردة لديها تحمل صفائها وبراءتها،وكأنها مفردة تدخل الى هذا العالم المتشنج ــ بمايبعثه من صخب ــ باستحياء انثوي جميل،يعكس فطرتها ونقاوتها ونأيها عن كل مايحيط بها من اصوات،وكأن الكلمات لديها تُستَعمل لأول مرَّة،ولم يقترب منها احد قبلها،مع انها قد انتُهكت،لكثرة مااستعملت في ماهو شائع من اشعار،إلاَّ أنَ عسقلاني تراها من زاوية غير مألوفة، لم تطرقها خطوات قبلها،مع انها مألوفة بنفس الوقت.
صخبٌ داخليٌ
يتصاعد مع دقة الحذاء على رصيفٍ متكسر
أقول لمن يحادثني :
أنا بخير .. بخير .. بخير
أرددها ثلاثا حتى أسمعها
لاأحب ظلي المتضائل في الظهيرة
أطيل النظر إلى أظافر قدمي
يعجبني هذا الطلاء
معانقة الأبيض للأرجواني
يمنح الحذاء الأسود خفة موجة .
تتزاحم الاسئلة الكبرى في ذاكرة الشاعرة،دون ان تنأى بها خبث الاسئلة الفلسفية بعيدا عن الشعر،الى ذهنية التراكيب اللغوية في الاسئلة،لتبقى مفرداتها تلامس الاشياء برفق وطراوة لاتستطيع أن تطأها اقدام الفلسفة،وهذا ما يجعل تفاعلنا حميميا مع مانقرأ ونحن نلامس القسمات .
ينبغي عليك أن تواجه ألمك بلا مخدر
أن تضعه في علبة حمراء اللون
الألم الأزرق بلون العلبة
عليك أن تطمئن على وجوده
انظر إليه
لن يتجاوز الأمر وخزة
تشعرك بالحياة
لاتتركه ممدا في علبته
تنساه أو تعتاده
أخرجه كل فترة
تأمل قسماته
امسح عليه بلا رفق
حتى لايصدأ
علقه في رقبتك
ليلمس صدرك
أو اربطه في قدميك
ليبطىء خطوك
عندئذ .. قد لاتسقط .
*(خارطة اللون .. قبعة السماء)هو الاصدار الشعري الثالث للشاعرة المصرية د. سمية عسقلاني،الصادر هذا العام 2015 عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في العاصمة المصرية القاهرة.بعد أن كانت قد اصدرت في وقت سابق مجموعتين شعريتين الأولى بعنوان(البوح بالمكنون)2012 والثانية بعنوان(وجه في دفتر الابدية)2013،ونصوص المجموعة جاءت مقسمة على ثمانية عناوين رئيسة: الزهرة،الشجرة،الجغرافيا،ا لقصيدة،اللون،التاريخ،الحب ،الزمن.