بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله
هدف علم الكلام الجديد وخلاصته:
أـ محاولة شرح وتبيين المفاهيم الاعتقادية بالصورة المناسبة ، القادرة على احتواء واستيعاب المضمون إلى أبعد الحدود ، ونقله بأمانةٍ ودقَّةٍ . وبالتالي تحجيم وتقليص الأخطاء والاشتباهات ، التي يمكن أن يسبِّبها سوء أو قصور الخطاب والعرض الكلامي . ويأتي هنا دور تحديد المصطلح السليم الذي يبعد عن حدوث التداخلات والاختلاطات ؛ بحيث يعكس بوضوحٍ ما يُريد أن يحكي عنه بأقلّ قدر ممكن من الانفلاش والتضيُّق.
ب ـ محاولة إثبات المفاهيم الاعتقادية وإقامة الأدلة والبراهين عليها ، من خلال توظيف مختلف أنواع الإثبات المنطقية والمعتبرة ؛ قياساً واستقراءاً و.. على المستوى العقلي ، أو النصّي ، أو التاريخي ، أو التجريبي ، أو غير ذلك.
ج ـ محاولة ردِّ ودفع الإشكالات والشبهات الموجَّهة إلى المعتقدات الدينية والمذهبية[1]
موضوعات الكلام الجديد:
لم يجرِ في علم الكلام الجديد تأسيس موضوعاتٍ لم يكن لها سابق بحثٍ وحضورٍ في الساحة الفكرية الإسلامية دائماً ؛ بمعنى أنَّ أصحاب الاقتراح لم يقوموا بتأسيس مجموعةٍ من القضايا والمباحث الكلامية التي ليس لها سابق وجودٍ ، وإنَّما نظَّموا مسائل علم الكلام الجديد على أساس عملية تجميعٍ لأبرز الموضوعات التي ظهرت أمام المفكِّرين المسلمين في الآونة الأخيرة ، ومسَّت المسائل الفكرية والعقائدية الجذرية ، من دون أن تكون محصورةً بعلمٍ معيَّنٍ كعلم الفقه ، أو الأصول مثلاً ؛ بحيث تكون مسألةً أصوليةً أو فقهيةً بطبيعتها . وهذا الأمر يُؤدِّي بطبيعته ـ إذا لم تجرِ عملية تحديدٍ مُسبَّقٍ لموضوع هذا العلم ومداه ودائرته ـ إلى حدوث خلطٍ مضموني في هذا العلم ، وهذا خللٌ أساسي جدّاً ؛ لأنَّ تحويل علم الكلام إلى علمٍ تجميعي لمسائل متفرِّقة ، وهموم مختلفة ، يُصيِّره على مرِّ الأيّام خليطاً متناقضاً من موضوعات واهتمامات لا رابط في ما بينها ، وهذا ما قد يُؤدِّي على المدى البعيد إلى افتقاده المنهج الواضح الموحَّد ، وكذلك التناسق المنطقي المتناغم.
وعلى أيِّ حال ، فإنَّ أبرز النماذج المطروحة في مجال نشاط الكلام الجديد ، هي ـ وبشكلٍ مُفهرسٍ وسريعٍـ كالتالي:
(1) قد تتداخل بعض هذه الأبحاث وتنفرز أبحاث نقطة واحدة ، كما أنَّنا تجاهلنا هنا الفرز الموجود عند البعض بين مسائل علم الكلام الجديد ومسائل علم فلسفة الدين.
1ـ نطاق الدين ومجاله: هل الدين محدود في دائرة الفرديات والأخلاقيات ، أم أنَّه يمتد ليشمل النواحي السياسية والاقتصادية و... وحتى الطِّبية وأمثالها؟ وما هي تأثيرات الجواب عن ذلك على الفهم الديني ككل؟ ويقع هنا ، في الحقيقة ، ملتقى مجموعةٍ من النظريات ، أبرزها نظرية "انتظارات وتوقُّعات البشر من الدين" ، كما تُدرس هنا وبعمقٍ نظرية شمول الدين لكلّ وقائع الحياة وما هو شكل هذا الشمول ، كما وتأتي هنا نظريةً أخيرةٌ عُرفت بنظرية "الدين بالحد الأعلى ، والدين بالحد الأدنى" ، أو ما يتعلَّق بنظريةٍ جديدةٍ أخرى تُسمَّى بنظرية "تكامل التجربة النبوية" ، والتي طرحها الدكتور "عبد الكريم سروش" في إيران.
2ـ اللغة الدينية: وهل هي لغة رمزية ، أسطورية ، واقعية ، قصصية ، بيانية؟... هل ترجع القضايا الدينية إلى مضمونٍ ، أم أنَّها بلا معنى كما يقول الوضعيُّون؟ هل هي لغة إنشائية ، أم إخبارية حقيقية ، أم مجازية؟ هل للدين لغةٌ خاصَّةٌ به؟ كيف يمكن تقييم التوصيفات البشرية للدين ، ولا سيَّما للباري تعالى؟...
3ـ النزعة الدينية: ما هي أسباب ظهور التديُّن؟ الخوف ، أو الجهل ، أو الطبقية ، أو... ، تحليل نظريات: ماركس ، وسبنسر ، ودوركمايم ، وفرويد . هل البشر بحاجةٍ إلى الدين؟ وهل هو فطري؟ وما معنى وحقيقة الفطرة؟ هل الفطرة أمرٌ آخر غير البديهيَّات القبلية التي قرَّرها علم المنطق أم أنَّها ليست
سوى هذه القبليات الواضحة عقلياً؟ وبالتالي هل يمكن الاعتماد بصورةٍ مستقلَّةٍ على الفطرة في قبال الأدلّة والمعايير العلمية الأخرى ، أم لا؟...
4ـ التجربة الدينية: ما هي حقيقة المشاعر والأحاسيس الدينية؟ وما هي عناصرها وميِّزاتها؟ وهل هناك فرق بين التجربة الدينية والأخلاقية؟ ما هو ميزان ضبط صدقيَّة التجربة الدينية؟ العلاقة بين التجربة الدينية والروحية والعرفانية؟...
5ـ عقلانية الدين: هل إثبات القضايا الدينية يكون بشكلٍ عقلاني أو شهودي؟ وهنا تُطرح نظريَّات الكانطيين في ما يرتبط بالعقل العملي ، والإثبات الأخلاقي للدين ، كما وتُقرأ المدارس الروحية والعرفانية لدى الأديان كافَّة أيضاً... الرابطة بين الدين والعقلانية؟ التعقُّل والتعبُّد في الدين ومساحاتهما وعلاقاتهما؟...
6ـ معنى الدين وحقيقته: ما هو تعريف الدين؟ وما هو الحد الفاصل بين الديني وغير الديني؟ وأساساً هل للدين تعريف محدَّد؟ وعلى تقدير ذاك ، فهل هو ذو خصيصة معرفية ، أم عاطفية ، أم عملية ، أم غير ذلك؟...
7ـ الجوهر والعرض في الدين: ما هو ذلك الذي يُمثِّل العنصر الذاتي في الدين؟ وما هو ذاك الذي يُمثِّل العنصر العرضي؟ كيف نُرتِّب سلسلة الدينيَّات من حيث الأهمية والرتبة؟ ومن أين نبدأ؟... الأخلاق ، القانون ، العقيدة ، أم ماذا؟
8 ـ القاسم الديني المشترك: مميِّزات وقواسم الأديان والمذاهب ، ما هي الحدود الواضحة والشفّافة بينها؟ هل يرجع الكل إلى منظومةٍ واحدةٍ أم لا؟ ما هو موقف الأديان من بعضها البعض؟ ما هي المقوُّمات الحقيقية ـ أخلاقياً ومعرفياً وميدانيَّاً ـ للحوار الديني والمذهبي؟ ما هي حقيقة هذا الحوار؟ وهل الحوار هو السبيل أم التصادم؟ وأين تكمن مظاهر من قبيل التكفير ، واللعن ، والسُّباب من هذه القضية؟...
9 ـ مناهج المعرفة الدينية: هل منهج المعرفة في الدين هو عقلي تركيبي ، تفكيكي ، نقلي ، تجريبي ، سلوكي ، شهودي ، أم أنَّ هناك تلفيقاً ما؟ ما هي طبيعة هذا التلفيق وكيف هو؟ ما هي حدود كل منهجٍ ونطاقه؟ هل علاقة الدين بمنطقٍ ما ، ومنهج تفكيرٍ ما ، علاقة خالدة؟[2]
10ـ هل النبوة موهبة إلهية أو نبوغ اجتماعي؟ إنّ النبوّة عند الإلهيّين موهبة إلهية يهبها سبحانه إلى صالحي عباده وأفضلهم، ويجهّزهم بالآيات والبيّنات ليقيموا الناس بالقسط والعدل ويهدوهم إلى الصراط السويّ على أصعدة مختلفة.
نعم هناك من لم يؤمن بالنبوّة يفسرها بالنبوغ الاجتماعي، وأنّ الأنبياء دعاة ومفكّرون لهم من النجدة والفكر ما يميّزهم عن غيرهم، ولأجل إقناع الناس وإلفات نظرهم إلى خطابهم نسبوها إلى السماء وما وراء الطبيعة وإلى اللّه ليكون أوقع في النفوس. وهذا النوع من التفسير للنبوة رمي للأنبياء بالكذب، وأيّ افتراء أكبر من أن نصف عمالقة الإصلاح وأتقياء المجتمع بالفرية والكذب ولو لغاية الإصلاح!!
إنّ الأنبياء قد ضحّوا بأنفسهم ونفائسهم في طريق إصلاح المجتمع، أفهل يصحّ وصف هؤلاء بالكذب والدجل؟ وما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يدرسوا حقيقة النبوّة وشروطها وواقع الوحي وحدوده.
11ـ خلود الشريعة وبقاؤها هل الشريعة السماوية تصلح لأن تُسْعد المجتمع الإنساني عبر القرون وترتقي به إلى أرفع المستويات؟ أو أنّ تعاليم الأنبياء تعاليم زمنية وإصلاحات وقتية تنتفع بها بعض المجتمعات في فترة حياة النبي أو بعدها بمدّة يسيرة؟
إنّ السائل خلط بين ما هو ثابت في الشريعة و ما هو متغيّر فيها، فانّ الأُصول المبتنية على الفطرة الإنسانية ثابتة لا تتغير ولا تتبدّل لثبات فطرتها.
نعم هناك مقرّرات في الشريعة تتبدّل وتتغيّر حسب تغيّر الظروف والحضارات، فالسائل لم يفرّق بين القوانين والمقرّرات، فالثابت هو الأوّل والمتغيّر هو الثاني، ومثال ذلك أنّ فريضة التعليم والتعلّم والكتابة من الأُصول الإسلامية التي لا تتغيّر، فالمسلم هنا مطالب بتحصيل العلم، وبذل أقصى الجهود في هذا المجال، وأمّا ما يتحقّق به هذا الأصل من الأدوات فهي تابعة للظروف والحضارة كما هو واضح، وقس على ذلك كلّ ما ورد في الشريعة من الأُصول الثابتة والمقررات.
وفي مجال آخر، يُعدّ الدفاع عن كيان الإسلام وحفظ الاستقلال، استناداً إلى قوله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطعْتُمْ مِنْ قُوَّة)(1) من الأُصول الثابتة، وأمّا كيفية الدفاع ونوع السلاح المستخدم وغير ذلك، فهي من الأُصول المتغيرة التي تخضع لمقتضيات الزمان[3]
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ
[1] ـ علم الكلام الجديد ضرورات النهضة: ص69.
[2] ـ علم الكلام الجديد ضرورات النهضة: ص94ـ100.
[3] ـ رسائل ومقالات: ج5،ص170ـ174.