الفوضوية الفكرية:
يشعر كل واحد منا بأهمية الحياة التي يعيشها الى جنب ذلك يدرك ان ذاته تتمحور لجهتين المادة والمعنى ، وهو بين الامرين يسبح بجسده وافكاره، جسده يطلب منه نظاماً حتى يتكامل او يستمر نموه ومن ثم يضعف شيئاً فشيئاً ، فنحن نعلم ان الجسد لحم وعظم واشياء توابع اخرى، وهذا يعني ان تركيبه وفق نظام دقيق جداً ، لذلك فانه يحتاج الى كميات من الماء والطعام وكذلك المحافظة عليه من الخدش والضرب والطعن فنعلم بضرورة المحافظة على الجسد بنظامه وتركيبه لان اي خلل يحدث فيه يعني ذلك انه يحدث مرضاً نبقى نعاني منه الا ان يزول.
اما الفكر فله نظام خاص لكنه لا يحتاج الى الماء والطعام، بل بحاجة الى النور، فهل نذهب كل يوم الى الشمس كي يستمد منها النور والضوء؟
لسنا بحاجة الى الشمس انما نحن بحاجة الى العلم والمعرفة ، نريد ان نذهب الى الكتاب وندخل في ساحته الجميلة فان الفكر يحتاج الى نظام وعمد هذا النظام هو العلم وضد هذا العمد والركن الجهل، وحتى تصبح العملية سهلة ويسيرة تحتاج الى ادوات تتشكل منها، وبعبارة أخرى ان طرد كل ما يسبب الخلل في الفكر يعد خطوة ناجحة ومتقدمة ولكن الطرد لوحده لا يثمر اي شيء الا اذا وضعنا الادوات النافعة مكان تلك التي طردناها ، فان الفكر اذا اصيب بمرض الفوضوية والتخبطية والعشوائية، فانه يمرض كما يحصل للجسم، وقد لا يشعر بهذا المرض أغلب الناس.
فان الالم الذي يحدثه الفكر معنوي ايضاً فيحتاج الى شخص يتجرد عن المادة ولو لدقائق ويتفطن الى حاله، سيجد ان آلامه مؤذية جداً وهي بحق كفيلة ان تجعله في مصاف المعذبين دنيوياً، هذا اذا لم تختلط مع وسوسة النفس والضغوطات الخارجية والمحيطية والا فان طريق هؤلاء سيكون اليأس من الحياة ومن ثم الانتحار يكون هو المتنفس والوسيلة الاخيرة لدى هؤلاء.
سوف يهرب الكثير من هذا الكلام ويتجه نحو الكاتب بسؤال: كيف نبني فكرنا ولا نجعلها في فوضوية تؤدي بنا الى الانتحار الفكري واليأس من الحياة؟
1ـ التفكر الجدي للخلاص من تبعات الفوضوية الفكرية، فان الجدية طريق أهل النجاح والمعرفة وبدونها لا تدخل الموضوع ولا تناقش فيه ، تتعب نفسك دون فائدة مرجوة.
2ـ معرفة منهج التفكير الصحيح والسليم حتى يتسنى لنا اتباعه والعيش معه بصورة نأمن معها عدم الوقوع في الخطأ، كما يقولون ان المنطق عاصم للذهن من الوقوع في الخطأ، لأنه يعطي للمفكر قواعد سليمة صحيحة اذا وضعت الافكار فيها تزنها من جهة الصواب وعدمه ولهذا سماه آخرون بميزان العلوم ، كمثل اثينا به والا هنالك قواعد اعم واشمل من المنطق المعروف في الاوساط العلمية.
3ـ ترك التخبطات التي تؤدي الى ضعف واضمحلال التفكير ، الكثير يقع بمثل هذه المطبات نتيجة القراءة غير الصحيحة، الافكار التي يطرحها بعض المفكرين والكتاب قد لا يستوعبها القارئ او يفهما فهماً مغلوطاً وبالتالي تؤثر سلباً على البنية التفكيرية لديه.
ان خطورة الفوضوية الفكرية تنبع من عدم الاهتمام بمصير الانسان فكرياً وعقدياً وان اسلم طريق للتخلص من المشاكل الفكرية ذلك الالتزام العقدي الصحيح المتبع بعد وضوح الادلة، من هذا المنطلق ننظر لسيرة العظماء كيف تعاملوا مع الحقائق والابعاد الفكرية ، فالأنبياء وضعوا القواعد الرصينة لبناء الفكر الانساني لكن اقوامهم لم يتبعوا تلك القواعد والقوانين فحصل فشلهم وضلالهم في الارض ، وقد اصبحت المسألة الفكرية وقضايا العلم من أعقد المسائل أخص بها نظرية المعرفة فلو نراجع كلمات الاعلام من شتى المدارس والمذاهب والديانات والاصول لوجدناها مختلفة تماماً غير ان العالم المسلم له ثوابت ينطلق منه حسب المرتكزات التي يتكئ عليها فالفقيه والمتكلم والفيلسوف كل واحد منهم له رؤيته الخاصة ودليله في الموضوع، وهذا لا يعني ان الخلاف في اصل القضية التي تكون مدار البحث وانما في الفهم والاستنباط.
سيطرت الفوضوية الفكرية على ارجاع واسعة من ارضنا هذه ، وسادت في ازمان واوقات طويلة حتى اعتادت الناس عليها واصبحت جزء من حياتهم، وقد اوعزوا ذلك لعدة الاسباب قد تشرق وتغرب بنا، ويعتبر بعضهم ان الثورة الصناعية بداية انكسار الفوضى في العالم بينما يرجح آخر ظهور الحركات التنويرية والتجديدية هي من أسهمت في نزع الفوضوية من واقع الناس، غير ان هذا الكلام يبقى مجرد الفاظ قد تحكي واقعاً وقد لا تحكي، والمتأمل يجد ان التقدم العلمي والتطور الملحوظ في العالم أدى الى نتائج مهمة على مستوى هذا الصعيد، هذا كله ان قلنا ان الفوضوية الفكرية التي يقصدونها هي من نقصدها بهذا المقال، بل ثمة قصد اردناه هنا يختلف تماماً عن ذلك الذي عنوه، فان فوضوية الفكر تعني تلخبط اوراق فكر الانسان وحسابته ومعادلاته تجاه المجتمع والعلم والكون، واضف اليها ما يشابه هذه الاشياء، فان هذه المشكلة لم يتخلص منها الانسان المعاصر ولا اعتقد انه يمكن يتخلص منها جذرياً، لكنه يستطيع ان يخفف حدتها شيئاً فشيئاً ، فقد تتسرب من فكره الى سلوك وحالات نفسية وغيرها من الاثار السلبية، هذا اذا لم يكن الشخص مثلجاً من اصله لا تعصف به اي فوضى سواء كانت فكرية او سياسية او اقتصادية وما شاكلها.