أمّي التيِ لم أجلسْ على حجرها منذُ عشرينَ سنَة, أمسكت اليوم برأسي ودستهُ عنوةً هناك, كأنهاَ كانت تريدُني أن أعودَ طفلتها, أو ربما أرادت أن تشعر بأنها أعادت الزمن إلى الوراء, وأنّ عمرهاَ قد انزلق من أعالي الـ 45 إلى سهول الـ 19 عاماً, فقط !
كانت طفلةً أمي حينَ أنجبَتْني,
طفلةً بريئَة, بيضاء, مكتملةَ الأسنان, بهية الصوت, وفيِ قسوتها لذةٌ لا تقاوَم, تجعلني أتعمدُ إغضابهاَ كيْ تعاقبَني وأبقىَ أمام الباب الخارجي للبيت أنتظرُ عودةَ أبي كيْ يلعبَ دور الوسيط بيني وبينها.
ياااه !
ماَ أقساكَ يا زَمَن, و سوطك الجلديّ دائمًا يتذوقُ طعمَ قلوبناَ,
فضرباتك ليست على الجلد وحسب, بل أعمق ... أعمق بكثييير !
أمي التيِ أبكيهاَ سرًّا دونَ أن تدري, والتيِ لازالت إلى الآن تشك في أن سببَ بكائي رجلٌ ماَ.
ولكني أقسمُ لهاَ أنّي لا أحبّ أحدًا, وبأن بكائي ليسَ لأجل أي رجُل.
أمي التيِ أتيتُها في خجل حين كانت تطبخ ذات يوم لأقولَ لها :
"ثمةَ شخصٌ أحبه !"
لم تصفعنيِ كما وجبَ عليهاَ أن تفعل مع أني بعدَ تلك الكلماتِ القليلة التي قلتُها أدرتُ طوعًا خدي الأيمن كيْ يستقبل الصفعةَ التيِ لم تأتِ أبدًا.
وبعدَ أن بلعَت ريقها الذيِ أراهنُ أنهُ كان أمرَّ من الحنظل, سألتني :
"من هو؟"
أجبتُها باختصار, وكان واضحًا من نبرة صوتي أني لم أكُن سعيدةً بهذا الحب لسببٍ ما.
وبعد أن أنهيتُ سردَ مواصفاته القليلة أدرتُ خدي الآخر .... دون أن تأتي تلك الصفعة "الرحيمة".
يا أمي لو تعلمين لمَ أخبرتكِ بهذا الكلام !
لو تعلمين أن ذلك الشخص لم يكُن يعنيني,
بل كل ما حاولتُ فعله هو أن أُعيدَ أماميِ صورتكِ القديمة,
أن أراكِ أمي التيِ تتركنيِ خلفَ الباب كي أنتظر عودة أبي.
أن أراكِ أمي التيِ ترفعُ عصا المكنسة إلى الأعلى كيْ تجلدَ بهاَ ظهري.
أن أراك أمي التي تخافُ علي ... فخوفكِ علي يا أمي يحميني, جدا يحميني, كثيرًا يحميني !
أن أراكِ أمي التي ... تعتل همي ...
فهموميِ كثيرة مُذ ألبسني الزمنُ ثوب فتاة عشرينية وأطلقني في الهواء كطيرٍ ذبيح لا يدري أ يسقطُ أرضًا لتنهشهُ الديدان أم يرتفع لتلتقطهُ الصقور.
حينَ تحسستُ حرارةَ حجركِ اليوم, بللتُهُ دون أن أقصد ببكاءٍ لن تفهميه.
وتوقعتُ أن تسأليني ما إذا كان هذا البكاء على شخص أحبه.
بتُّ أخافُ عليكِ اليوم يا أمي,
وأخشَى أن أصحُو يومًا فأعثرَ على عجوز هرمة بلا أسنان, وبلا شعر ... وبلا صوتٍ يسألني : "أين ستذهبين؟" أخشَى أن أمرض يا أمي فلا تأتيني يدك الدافئة لتملأَ جبيني بالسلام ...
أخشىَ أن أموت يا أمي فلا تكونين اليد التيِ تغسلُ جسديِ ثم تلفني بالكفن كما كانت تلفني قديمًا بالقماط حين كنتُ بطولِ يدك !
ياااه ....
ما أقساكَ يا زمن !