حقيقة نسْف التاريخ
وليد زيتوني
أصبح تزوير التاريخ، مفهوماً قديماً، بل استبدل بغيره، منذ إطلاق «فوكوياما» كتابه «نهاية التاريخ». لم يكن خروج هذا المصطلح عابراً ووحيداً وسفراً وحيداً، إذ ترافق مع «صراع الحضارات» لصموئيل هنتنغتون، في لحظة تتويج الولايات المتحدة إمبراطورية وحيدة متفرّدة التصرّف بمقدّرات العالم. والكتابان يكمّلان بعضهما بعضاً في سياق نسف التاريخ، وهدم الحضارة، وتقويض القيم الإنسانية السامية، في سبيل الترويج لمنظومة النهب الأميركية، وهيمنة حيتان السوق.
الكتابان، لا يقعان في أبواب التحليل والتوقع، بقدر ما يشملان توجهات عمل لمشروع، رسمت تفاصيله بعناية فائقة في دوائر الاستخبارات الأميركية، ووضعت موضع التنفيذ على إثر الفيلم الهوليوودي الطويل، في الحادي عشر من أيلول 2001. تماماً كما يحدث الآن مع الملهمين «المتوقعين» المحدثين الذين يخرجون على شاشات التلفزة المحلية والإقليمية، مزوّدين بالتوجيهات اللازمة لحرف الرأي العام عن مسار الأحداث الحقيقية، وتحضيره لأحداث مقبلة تعمل هذه الدوائر على تنفيذها.
إنّ ما نشهده الآن في العراق، من تدمير للمواقع الحضارية واللقى والآثار، ليس إلا الوجه المفضوح لما قامت به الولايات المتحدة الأميركية أثناء غزوها العراق عام 2003 بشكل مستور، واستكمالاً له. ولعلّ تصريحات المسؤولين الأميركيين في الأيام القليلة الماضية ووضع اللوم على القيادة «الإسرائيلية» بالتحريض على غزو العراق، يضعان المسألة في خانة أخرى ويظهران بالفعل مدى تأثير اللوبي الصهيوني في الإدارة الأميركية من جهة، ويبينان الأهداف الحقيقية الكامنة وراء هذا الغزو، إضافة إلى الأهداف الأميركية المباشرة من جهة أخرى.
إنّ ما يقوم به «داعش» الآن يؤكد بما لا يقبل الشك، أنه إنتاج المخابرات المشتركة «الإسرائيلية» ـ الأميركية. وهو ابن شرعي لتزاوج مشروع الانتقام من القائد الآشوري نبوخذ نصر لسبيه اليهود إلى بابل، مع مشروع «نابكو» الأميركي لجرّ البترول ونهبه من بلاد الرافدين والأمة السورية بشكل عام. و»نابكو» كاسم مأخوذ من موسيقى «فيردي» الإيطالي ويرمز بشكل واضح إلى عملية السبي المعروفة. والسبي الذي يقوم به «داعش» الآن هو أحد أشكال الانتقام اليهودي في هذه المرحلة التاريخية والمفترض أن يكون محرّماً دولياً استناداً لمعاهدات حقوق الإنسان.
لا شك، أنّ الصهيوني حاقد على التاريخ الحقيقي، التاريخ غير المزوّر والمحوّر، وهو غير التاريخ المدوّن في كتبه الدينية والدنيوية المسروقة بدورها من الأساطير السورية القديمة. وبخاصة تلك المتعلقة بالبنتاتيك الأسفار الخمسة وعلى وجه التعيين سفرا الخروج والتكوين المأخوذان من جلجامش وإيناموليش.
ثمانون عاماً من التنقيبات في أرض فلسطين، لم تظهر أيّاً من الحقائق الاركيولوجية التي يدّعونها، على رغم وجود مئات بل آلاف المواقع الأثرية التي تبيّن حضارات وعهود ما قبل اليهودية وحضارات وعهود ما بعدها. وبالتالي ما تشكله هذه الآثار هي صفعة حقيقية للادّعاءات الكاذبة لليهودية الصهيونية. فتهديم المواقع الأثرية وسحق مكوّناتها الحجرية والفنية والحضارية يهدف إلى إلغاء ما هو موجود فعلاً لمصلحة ما يجب أن يكون بحسب الفهم الصهيوني للتاريخ الفارغ من الأدلة والإثباتات الاركيولوجية. إنّ ربط الأحداث الحالية والأهداف الصهيونية يزيل أيّ مجال للشك في أنّ المطلوب تدمير كلّ حضارتنا بعد أن تمّ تدمير الإنسان بإدخال المصطلحات والقيم الغريبة، وبعد سلب ثرواتنا واقتصادنا، وتحويله إلى عامل لخدمة مصالح الإمبراطورية الأميركية المسيطر عليها من قبل الصهيونية العالمية.
إن الحفاظ على التاريخ يتطلب منا الوحدة لا الانقسام، يتطلب منا قتال هذا التنين وأدواته أينما وجدت.
الشهداء حبر التاريخ، والصفحات الجديدة تنتظر مدوّنيها.