عـن المراجعــة الدينيــة نتحــدث..
أحمد الشرقاوي
الصراع الدائر اليوم في المنطقة والذي يتخذ من “الحرب على الإرهاب” عنوانا عاما، هو الأخطر من حيث التداعيات الكارثية، لما له من انعكاسات نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية تؤثر بشكل مباشر على الإنسان كقيمة، والمجتمع كتنظيم، والدولة ككيان، والأمة كمنظومة..
وبالتالي، لم يعد الحديث عن “الإرهاب” مجرد أطروحة نظرية أكاديمية وسجال فكري ثقافي وسياسي، بل تحول إلى موضوع يتداوله العامة على امتداد الوطن العربي والإسلامي، لارتباطه الوثيق بالدين وسؤال “الهوية”..
لكن المعضلة، تكمن في أن الشعوب العربية في معظمها، لا تملك رؤية واضحة للمستقبل، ولا تعرف كيف تواجه الهجمة الشرسة الجديدة التي تستهدف دينها وقيمها الحضارية، بعد أن فقد مصطلح “السخط المقدس” الذي يستوجب الرفض والمقاومة وجوده ومعناه في قاموسها الجمعي المشترك، واكتفت بلعب دور المتفرج العاجز في انتظار اكتمال فصول الكارثة لتتم حكمة الله القائلة: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) الشورى: 30.
ويأتي هذا الخطر العظيم الداهم، الذي يهدد القيم بالانحلال، والدولة بالزوال، والوطن بالتقسيم، والمجتمع بالتفكك والتشظي، بسبب الأطماع الأمريكية والأطلسية الإستعمارية القديمة الجديدة في المنطقة من جهة، ولتأمين أمن “إسرائيل” من جهة أخرى، من مدخل تخريب العقيدة الدينية لقتل روح المقاومة في الأمة ودفعها للاستسلام.
الحملة العسكرية الحالية، تعيد إلى الذاكرة حملات الحروب الصليبية القديمة، لكن بحلة جديدة وأسلوب مغاير، يعتمد هذه المرة حروب الجيل الرابع الذكية بديلا عن الحملات العسكرية التقليدية، والتي تدور بالوساطة من خلال الاستثمار في ما أصبح يعرف بـ”الضد النوعي” أو “إسلام ضد الإسلام”، ما يجعل هذا النوع من الحروب القذرة تأخذ أبعادا سياسية وفكرية وإعلامية وأمنية وعسكرية مركبة تضيع معها البوصلة..
وما نستطيع استنتاجه بالتحليل بالمناسبة، هو أنه ما كان لهذه المؤامرة الغربية أن تنجح، كما لا نخجل أن نسميها، لولا توفر عاملين: الأول، الغزو الثقافي الكاسح الذي مهدت له العولمة بمفهومها الليبرالي المتوحش، والذي كان العرب أولى ضحاياه لهشاشة بنيتهم الفكرية والدينية معا.. والثاني، تواطؤ مشيخات الخليج المنافقة والأنظمة العميلة الدائرة في الفلك الصهيو – أمريكي في حربهم على الإسلام والمسلمين، خصوصا السعودية التي عملت خلال عقود على تحضير الأرضية المناسبة للتفجير، من خلال نشر الفكر الوهابي التكفيري باسم “سنة السلف الصالح”، لتكون نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن إسلام القرآن السمح الجميل، وبذلك توفرت البيئة المناسبة للتغيير المطلوب، أما الباقي فتحصيل حاصل وتفاصيل يؤرخها الواقع بشكل يومي مؤلم وصادم تفرزه تطورات الأحداث في الميادين..
بدليل، أن هذا الزحف غير المسبوق للعولمة المتوحشة الذي ساهمت فيه وسائل الإعلام وثورة المعلومات السيالة بسرعة الضوء على مدار الساعة، أحدث زلزالا كبيرا على مستوى الفهم، وخلق شرخا عموديا عميقا على مستوى الوعي، ففجر ما يمكن أن نسميه بـ”الإحساس بالأزمة”..
بمعنى، أن الناس كانت تعرف “نظريا” أنها تعيش في أزمة سببها تكالب رجال الدين والمثقفين مع الأنظمة المستبدة الفاسدة، لكنها كانت تهرب من مواجهتها وتعتبرها من مجال المسكوت عنه، وتفضل العيش في ظلها بوجهين، وجه لله بالليل ووجه تتعايش به مع النظام في النهار.. وكان المثقف ينأى بنفسه عن التفكير فيها والإقدام بشجاعة على فك مفاصلها وصبر أغوار تفاصيلها لمعرفة السبب والمسبب فيها خوفا من أن يصطدم مع المؤسسة السياسية والدينية معا، فيستباح دمه أو يغيب وراء الشمس..
لكن المستجد الذي أيقض الوعي اليوم لدى الناس هو الإحساس بتداعيات هذه الأزمة على حياتهم، نظرا للفرق القائم بين العلم بالشيء الذي هو من مجال العقل، والإحساس به الذي هو من مجال القلب، ودفع بالسدج المتحمسين عاطفيا إلى ردة فعل غاضبة، وهم يعتقدون عن جهل أن ما من سبيل للدفاع عن الدين إلا بالعنف الدموي، انتقاما من الأنظمة “الكافرة” والمجتمعات “الجاهلة” على حد سواء، ليتحول الصراع من الدفاع عن الدين إلى تخريبه في سباق ضد العقل والزمن لتدمير الذات.
ومرد ذلك كما هو معلوم، أن العولمة حين حلت بديارنا، وجدت غالبية شعوبنا تعيش زمنا لاهوتيا مظلما يشدها إلى الماضي السحيق، فيما القلة القليلة كانت تصارع من أجل العيش في الحاضر رافضة هذا الواقع المفروض من فوق، لكنها ظلت عاجزة عن أن تفكر في سيناريوهات المستقبل، لأنه غيب محرم التفكير فيه وفق المأثور المستبد بعقول الناس، وبالتالي، فالحديث عنه مرفوض في مجتمعات يقودها كالنعاج تحالف الساسة ورجال الدين على نهج التجربة الكنسية في عصور الظلام، وإن بأسلوب مراوغ مخادع، يدعى أن لا كهنوت في الإسلام من دون أن يقبل بوضع دور فقهاء السلاطين وكل ما ينتجونه من معنى على طاولة النقد والتشريح بأدوات العقل، عملا بمقولة ابن رشد الشهيرة: “إذا تعارضت مقتضيات النص مع مقتضيات العقل فيجب الأخذ بمقتضيات العقل”..
هذا علما أنه يستحيل أن يحدث التعارض الذي تحدث عنه ابن رشد حين يتعلق الأمر بنصوص القرآن، بل يحدث التعارض فقط في مجال المأثور أو ما يعرف بـ”السنــة”، خصوصا في ما له علاقة بالتشريع الذي هو من مجال العقل، ولا نتحدث هنا عن العرفان الذي هو من مجال القلب الذي لا يدركه العقل وتعجز اللغة القاصرة في التعبير عنه، حيث لا يعرف إلا بالفيض الإشراقي من خلال قذف النور في الروع، وهذا هو مستوى الإحسان في الإسلام الذي لا يبلغه إلا قلة قليلة جدا من العارفين بالله، والذين بدورهم يرفضون البوح بأسراره الخفية ويفضلون التزام التقية مخافة بطش الجهال..
هذا الوضع المختل فجر ما أصبح يعرف اليوم بأزمة الهوية، ومن تداعياتها أزمة الدين ولا نتحدث عن القومية العربية التي ماتت وتحولت عظامها إلى رفات.. خصوصا لجهة إعادة إنتاج المعنى الذي لا يتعارض مع العقل ويعطي للنص بعدا يتساوق مع الواقع المعاش فلا يلغيه، ويصالح المسلم مع نفسه ومع الآخر، سواء على مستوى المفاهيم أو القيم أو الخيارات أو المواقف أو قواعد التصرف أوأسلوب المواجهة، انطلاقا مما نعتقد أنها ثوابت تشكل هويتنا الجامعة، ومبادئ نؤمن بها ونتشبث بالدفاع عنها، وقيم تمثل كينونتنا الإنسانية وسر وجودنا لخوض تجربتنا الأرضية والتي على أساسها يتحدد مستقبلنا في الدنيا ومصيرنا يوم المعاد..
فعندما نقول مثلا، أنه تم أزمة على مستوى الوعي والإدراك تعيشها الأمة اليوم، وأن من تداعياتها ما نعيشه في أوطاننا من دمار وخراب ودماء وحزن ودموع، فهذا يعني أننا أمة مفعول بها ولا تملك القدرة على الفعل والتأثير، والحل في هذه الحالة لا يكمن في لعب دور الضحية والاكتفاء بتحميل الآخر مسؤولية ما يحصل لنا، بل الحل يبدأ من الفهم أولا، والفهم لا يحصل إلا من خلال مراجعة نظام المعنى عبر التفكيك والتحليل وإعادة التركيب لصياغة مفاهيم جديدة على أسس عقلانية بعيدة عن الإديولوجيات الطوباوية والشعارات المثالية التي لا تعني ما تقول.
وحتى لا ندخل في متاهات تفكيك الخطاب لأن الأمثلة أكثر من أن يسعها هذا المقال المقتضب، نكتفي هنا من باب التوضيح، بإلقاء الضوء على بعض المفاهيم السائدة التي نعتبرها من الدين والدين منها براء، لنفهم أين الخلل، لعلنا نساهم قدر المستطاع في تبديد الشكوك، من خلال كشف بعض من أوجه التضليل التي بلغت حد الإستغباء..
هناك اليوم إجماع في الشارع العربي على أن مسؤولية ما تعيشه الأمة من ظلم وجهل وفقر وتخلف يتحملها الحكام، وهذا صحيح، لكن نسبيا فقط، لأن السؤال الذي يجب أن يطرح في هذا المقام هو التالي: – هل بوسع الحاكم العربي أن يسير بسرعة أكبر من سرعة شعبه نحو الحداثة من دون أن يصطدم بالمؤسسة الدينية التي يستمد منها شرعية حكمه؟..
ولتوضيح ذلك نقول، الحاكم العربي الذي يرث السلطة والثروة عن سلفه لا يمكنه أن يبسط الأمن والسلم في مملكته من دون قمع شعبه، لأن (الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) ، وهذا دليل على أن الناس تخاف من الحاكم أكثر من خوفها من الله، ونحن نتحدث هنا عن عصر الخلافة الراشدة بعد وفاة الرسول الأعظم (صلعم) بوقت قصير جدا، ونستنتج بالعقل والمنطق من هذا المعطى التاريخي الهام، أن الذي لا يخاف الله يكون إيمانه ضعيف، وبالتالي، فهل كان إيمان الناس في صدر الإسلام أقوى من إيمانهم اليوم؟.. أم أن الأمر بالمحصلة يتعلق بإيمان الجهال ، كما وأن عقلية القبيلة زمن قريش تؤكد ذلك وفق ما يقول التاريخ..
الجواب عن هذا السؤال يفتح مباشرة على سؤال ثاني ظل من مجال المحرم طرحه، ومفاده: – هل كان الناس زمن الخلافة الراشدة، والقرآن لما يكتمل جمعه بعد، كانوا يفهمون الدين أحسن مما فهمه الذين أتوا من بعدهم، خصوصا في عصر الأنوار الإسلامية حيث تطورت الفلسفة والمعرفة الدينية معا، أو في العصر الحديث حيث ازدهرت المعارف وتقدمت مناهج البحث العلمي بشكل كبير؟..
والأمر لا يختلف اليوم عن الأمس البعيد، لكن، من يتحمل مسؤولية تجهيل الناس؟.. الحاكم أم الفقهاء أن هما معا؟.. أم أن الأمر يتعلق بمسؤولية الإنسان عن ما كسبت يداه كما يقول تعالى، وهو ما يفهم منه أن المسؤولية شخصية لا يتحملها أحد نيابة عن أحد، أي أن “كل شاة تعلق من كوارعها” بلغة العامة.
وإذا كان عديد الفقهاء وعلى رأسهم ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب على سبيل المثال لا الحصر، قد أوصوا الحكام بأن لا يعلموا شعوبهم حتى لا يثوروا عليهم، وكانوا يقولون للناس: (كونوا أميين كنبيكم)، ويسوقون لهم مقولات من قبيل (عليكم بالسمع والطاعة)، و (أطيعوا أولي الأمر منكم)، ويكفرون التفكير، ويحرمون الفلسفة لأنها تؤدي إلى الإلحاد وفق زعمهم، ويقولون “القول ما قلناه، فمن خالفه يستتاب أو يقتل”، وغيرها كثير… فكيف نلوم اليوم جماعة كـ”بوكو حرام” مثلا، والتي تعني حرفيا (التعليم حرام)؟.. فالتسمية لم تأتي من فراغ، بل من موروث ديني أصله رجال دين ينتمون لسلف لم يكن كله صالحا.
هذا في حين أن الأمر القرآني الذي ورد في أول آية من أول سورة نزلت من القرآن الكريم “اقرأ”، لم يترك عذرا ولا مخرجا لمن لا يقرأ.. فأين نذهب من هنا؟..
وللتوضيح نقول، إن الله تعالى لم يقل لرسوله الكريم “اكتب”، بل قال له “اقرأ”، وذلك لسبب وجيه، وهو أن القرآن ليس كتابا جديدا مختلفا عن الكتب التي سبقته وتم تزويرها وتحريفها وتحويرها باسم “السنة”، بل هو ذات الكتاب الذي يتضمن نفس التعاليم التي وردت في صحف إبراهيم وألواح موسى وإنجيل عيسى عليهم السلام جميعا، لكنه نسخة منقحة وخالية من شوائب الأحاديث النبوية التي أقحمها أحبار اليهود والكهنة لأسباب سياسية بهدف السيطرة على الناس.. ولهذا سمي بـ”القرآن”..
والقرآن ليست كلمة مشتقة من “قرأت” بمعنى “تلوت”، وإلا لأصبح كل ما يقرئ قرآنا، لكنه إسم علم مثل التوراة والإنجيل (لسان العرب لابن منظور، مادة قرأ: 3/42)، وهو للإشارة إلى نفس المفهوم الذي كان يقول به العرب قديما بمعنى “الجمع”، مثل (قرأت الماء في الحوض: أي جمعته).
وسمي “قرآن” لأنه جمع للآيات والسور بعضها إلى بعض، لكونه جمع ثمرات الكتب والرسالات السابقة له، وهو أمر منطقي يقبله العقل ويسلم به القلب لأنه يتعلق بنفس الدين السماوي الذي ارتضاه تعالى لعباده كافة منذ بدأ الخليقة وإلى أن تبدل السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض، أي “الإسلام”، وبهذا المعنى، وكل من يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وبهذا المعنى أكد تعالى أن كل الأنبياء والرسل والأمم السابقة كانوا مسلمين كما سماهم تعالى في قرآنه، من نوح إلى محمد مرورا بإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم كثير مما نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا، ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرسول مجمد (صلعم) لم يأتي بدين جديد اسمه “الإسلام”، بدليل أن حتى ملكة سبأ وامرأة فرعون والسحرة زمن موسى وغيرهم كانوا مسلمين بشهادة القرآن، ومن يقول بتعدد الديانات بدل الرسالات، فهو يستمد فهمه من نصوص الفقهاء لا من آيات القرآن.
وهذا دليل على أن “الأمي” وفق تعريف القرآن الكريم لا يعني الذي لا يعرف القراءة والكتابة كما يقول المأثور، بل هو من لا كتاب له، لأنه إذا كان القرآن يشرح بعضه بعضا كما قال الرسول الأعظم (صلعم)، فقد وردت هذه المفردة بهذا المعنى تحديدا في قوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) الأعراف: 175، بمعنى أن ما بعث به محمد (صلعم) ليس كتابا جديدا، ولا دينا جديدا، ولا يلغي ما جاء به الرسل قبله، بل هو نفس ما ورد في الكتب السابقة. ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (ذلك بانهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران: 75، وقوله كذلك: (والذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته) الجمعة: 2. والأميين هم من لا كتاب لهم كما هو متفق عليه، مع الإشارة إلى أن المفردة القرآنية لا تحتمل أكثر من معنى لما تتسم بها لغة القرآن من دقة تليق بجلاله تعالى.
ولهذا السبب كان اليهود يتهمون محمد (صلعم) بكتابة القرآن نقلا عن التوراة والإنجيل، ولو كان الرسول أميا بالمعنى الذي ذهب إليه الفقهاء لكان اتهامهم له ضربا من العبث، ومرد ذلك، أن القرآن لم ينقل ما ورد في التوراة والإنجيل، لأنه هو التوراة والإنجيل كما يؤكد تعالى في أكثر من آية، والفرق الوحيد بينه وبين هذه الكتب السماوية، هو أن القرآن نسخة محررة من عبث التزوير الذي مارسه تجار الدين من مدخل السنة والحديث، حتى صار موسى وعيسى عليهما السلام يتحدثون على لسان رجال الدين بعد موتهم بزمن طويل، وهذا ما حصل مع النبي محمد (صلعم) أيضا، في تكرار متعمد لسنة اليهود والنصارى.
هذا بالرغم من أن الله تعالى نبه عباده لهذا الخطر وقال لهم بصريح العبارة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: 3، وهي نفس الآية التي أصر الرسول الكريم (صلعم) أن يفتتح بها خطبة الوداع ليذكر المؤمنين بهذه الحقيقة الرائعة التي تقول، أن هذا الكتاب الذي جمعه الله تعالى (إن علينا جمعه)، وتكفل بحفظه (إنا له لحافظون)، وجعله تبيانا لكل شيئ (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل: 89، وأمرنا بقراءته وتدبره، هو كتاب جامع كامل مكتمل لا يحتاج لحديث يشرحه، وهو المعنى الذي تضمنته الآية 6 من سورة الجاثية لقوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)..
وهو الأمر الذي فهمه الرسول الكريم (صلعم) وامتثل لأمر ربه، ونهى أصحابه من كتابة أقواله، وقال لهم أن القرآن هو كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأنه لا يحتاج لسنة أو حديث لشرحه، لأن الله تعالى تكفل شخصيا ببيانه لعباده الذين يتتلمذون على يده في مدرسة الخشوع والتدبر الربانية بالعقل والقلب (ثم إن علينا بيانه) القيامة: 19، وقوله (أفلا يدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد 0: 24، وأن كل ما يزيد عن آيات القرآن يصبح حكما خارج عن شرع الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، وأن ليس من مهمة الرسول تفسيره، لأنه لو فعل ذلك لفقد القرآن إعجازه وتحول إلى نص مغلق لا يصلح لكل مكان وزمان، بل مهمة الرسول وفق ما يحمل هذا الاسم من معنى دقيق، هو إبلاغ رسالة ربه دون زيادة أو نقصان، وأن السنة الوحيدة القائمة في هذا الوجود هي سنة الله في الخلق لقوله تعالى (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الفتح: 23..
– فكيف إذا تعارضت سنة السلف مع سنة الله في الخلق؟.. هنا تحل الكارثة، وحينها لن يبعث الله فينا رسولا جديدا ليصحح هذا الانحراف بعد ان انتهت مهمة الرسل وانقطعت رسالات السماء، وبلغ الإنسان درجات من العلم والمعرفة ما يجعله قادرا على مراجعة أخطائه وتقويمها على ضوء هدي السماء ونور الله الذي وضعه تعالى بين أيدينا رحمة بنا، أي (القرآن)، وأمرنا أن نتمسك بحبله جميعا ولا نتفرق فيه بعد ما جاءنا من العلم بغيا بيننا كما فعل اليهود والنصارى قبلنا لقوله تعالى: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19.
أما الذين يتركون القرآن ويتبعون ما يقوله لهم فقهاء السلاطين، بدعوى الحاجة لمن يشرحه بديلا عن الله الذي تكفل شخصيا ببيانه من غير وسيط بينه وبين عباده، فسيتبرأ منهم الرسول (صلعم) يوم القيامة لقوله: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30.
من هنا تبدأ المراجعة الحقيقية للدين، أي من مصدره الأصلي الذي هو القرآن، لا من المأثور عن السلف باسم “السنة”، لأن السنة التي يتحدث عنها الله تعالى في كتابه لا تعني سنة الأنبياء، بل نص القرآن حصريا، الذي يمثل وحدة جميع السنن، لقوله تعالى (سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا، ولن تجد لسنتنا تحويلا) الإسراء: 77. وبالتالي، كل تغيير باسم سنة نبي أو رسول يخالف نص القرآن هو من سنة الفقهاء، ولا علاقة له بسنة الله في الخلق والحق.
ولهذا السبب تحديدا لم يكتب الرسول الكريم (ص) الحديث، وما كان له أن يفعل، لأن رسالته كان هدفها الأساس إلغاء كتب الحديث التي وضعها اليهود والنصارى باسم “السنة” ونسبوها لرسلهم زورا وبهتانا وفق ما يتساوق مع أهواء الحكام، فضاع الدين وتحول الناس من عباد خلقهم الله أحرارا ليعيشوا بكرامة، إلى عبيد يعيشون كالقطيع في ظل الإقطاع.. في ذل وإهانة.
وعلى سبيل الختم أقول..
لو كنت أملك السلطة، لجمعت ثلة من العلماء المسلمين من كل الأقطار، وفي كل المجالات والاختصاصات، وعزلتهم في مكان بعيد وجميل يشبه الجنة بحدائق غناء، ومنعت عنهم كل الكتب ووسائل الاتصال، ووفرت لهم كل أسباب الراحة، ووضعت بين أيديهم القرآن فقط لا غير، وطلبت منهم أن يدرسوه في مدة لا تقل عن سنة، ثم يخرجون على الناس بما استخلصوه من فهم دقيق لكل المصطلحات، حينها، سيتكلم الناس لغة واحدة، وينطلقون من فهم مشترك لمعاني الكثير من الكلمات التي تستعمل في غير سياق ومناسبة، كالجهاد الذي لا يعني القتال بل المجاهدة وبدل الجهد، والقتال الذي لا يعني الاعتداء بل الدفاع حصرا، والشريعة التي تعني المقاصد الكبرى التي شرعها الله في قرآنه لا شريعة الفقهاء، والحلال والحرام وفق ما أمر به تعالى لا طبقا لما ورد في فتاوى تجار الدين، ومعنى الدين لأن لا وجود إلا لدينين فقط لا غير دين الله ودين الكافرون وفق ما رود في سورة (الكافرون)، وهو نفس الدين الذي سماه تعالى “الإسلام” من نوح صعودا إلى محمد هبوطا، والشورى التي لا تعني جمع من الفقهاء والنبلاء بل تهم كل المسلمين لإقترانها بفريضة الصلاة في الآية، وغيرها كثير مما لا يسع المجال لتوضيحه هنا..
نقول هذا لأن كل التفاسير التي بين أيدينا هي أعمال فردية، تبرز وجهة نظر الشخص الذي قام بها، بل ولا تمثل فهمه الخاص الذي يميزه عن غيره من المفسرين إلا في بعض الجوانب البسيطة والهامشية، وهي بذلك لا تطرح المعنى الدقيق الذي وضعه الله في كيمياء كلماته، وبالتالي، لا يمكن اعتبارها تفاسير علمية موضوعية، لأنها في مجملها عبارة عن نقل واجترار وتكرار لنفس مقولات السلف مع بعض الروتوشات البسيطة التي لا تضفي جديدا نوعيا في مجال المعرفة، بالرغم من وجود تناقضات صارخة في أحيان كثيرة بين النقل وما يطرحه العقل حول سؤال المعرفة، ومرد ذلك، يعود لاعتقاد العديد من المفسرين أن “من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”، في تناقض صارخ مع أمر الله تعالى الذي يحثنا على إعمال العقل والقلب في تدبر القرآن ويتحدانا أن نثبت أوجه الاختلاف بين آياته في ثنايا سوره.
.. حينها فقط، نستطيع أن نتخلص من الكم الهائل من التراث الذي تزخر به المكتبات الإسلامية حد التخمة، خصوصا تلك الكتب التي تعتمد العجائبي والغرائبي في التفسير، وسنة اليهود في التشريع، ونستطيع بعدها على مستوى البحوث الأكاديمية غربلة هذا التراث الذي يشدنا إلى الماضي فينسينا الحاضر ويحول بيننا وبين المستقبل على ضوء المفاهيم الجديدة والصحيحة التي سنحصل عليها، الأمر الذي سيساعدنا على التمييز بالعقل بين الصحيح والمدسوس في كتب الحديث، لنؤسس بعد ذلك لمنظومة فكرية وثقافية إسلامية متينة، تضمن للمسلم السعادة في الدنيا والخلاص في الآخرة..
حينها ستولد الأمة من جديد، ولن يبقى للمذاهب والطوائف والملل والنحل من سلطة على العقول.. وسيعود الإسلام جميلا كما بدأ في فجر الرسالة..
إنها ثورة فكرية بمناهج علمية حديثة على مسيرة الفقه ونتاج الفقهاء، والتي أصبحت أكثر من ضرورية.. لكن، هل سيقبل بمثل هذه المغامرة الخطيرة الساسة وفقهاء السلاطين؟..
هنا تكمن المعضلة، لأن لا أحد يرغب في التغيير الذي سيفقدهم شرعيتهم وسلطتهم وثروتهم لفائدة من يصفهم الفقهاء بالرعاع والدهماء والعامة وسواد الأمة، ويصفهم الله تعالى بالمستضعفين في الأرض.
المصدر