تختبئ خلف أسوار السجون حكايات عدة، لأشخاص قادتهم أقدارهم ونوازع الجريمة لمكان تُسلب فيه حريتهم، كنوع من العقاب جراء ما اقترفوه من أخطاء. ولما كان السجن (إصلاحاً) للمجرم، فان طاقات هذا المجرم وميوله تتغير خلف القضبان وفقا للطريقة التي تتعامل بها إدارة السجن مع المحكوم، فمنهم من يترجم شوقه لعائلته ببيت شعر يكتبه بقلم على الحائط، وآخرون يجدون من تحويل الحجارة الصماء إلى عمل فني، ليكون لسانا ينطق بما يريدون البوح به من ندم اقتراف الجريمة او اية مشاعر يكبتونها.
البدلة البنية
في سجن سوسي الفيدرالي بمحافظة السليمانية، وقفنا أمام بوابة السجن التي توزعت بين أطرافها أعمال فنية محترفة، لتكون هذه البوابة مدخلا للسؤال (هل هناك سجين يصنع الفن والجمال؟).
لم يتأخر الجواب.. فالبدلة البنية لـ(ج) المحكوم بالسجن المؤبد هي من أتت بالخبر اليقين، فهذا النزيل وبحسب ما ذكره، دخل السجن مكان ولده الذي قتل احد الأشخاص، بعد أن أدلى الأب باعتراف أمام القاضي بأنه هو من ارتكب الجرم، ليكون الاعتراف سيد الأدلة، وسببا لبقائه لما تبقى من حياته، مقابل حرية الابن.
يقول (ج) وهو في الستينات من العمر: جرى ما جرى ودخلت السجن، ومرت معي الأيام بين الزنازين، لأجد بعدها في موهبة النقش على الصخور وصنع الأعمال الفنية باستخدام الأحجار المتوفرة حول أسوار السجن، أنيسا يعوضني حلاوة الحرية. وأضاف: ساهمت إدارة السجن بتوفير المواد، لتتفتح قريحتي في الفن، وأحوّل الحجر إلى أعمال تشكيلية تزيّن السجن، وتمنحني بعض الأمل في الأيام المقبلة.
السجين (ج)، انتهى قبل أيام من نحت عمل فني يمثل لحظة قتل قابيل لأخيه هابيل، ويبدو أن أجواء السجن والوحدة التي يمر بها كانت سببا للمزيد من التفكير الايجابي، إذ قال: أردت تجسيد أول جريمة في البشرية بعمل تشكيلي لنتعلم منها.. نعم، نحن نقتل بعضنا بعضا، لكن إلى متى ستستمر الجريمة خارج أسوار السجن؟.
الشوق الى الحرية
في سجن آخر، وتحديدا في الناصرية، حيث يتم إيداع المحكومين بالجرائم الخفيفة، كتب احد السجناء باللغة الانكليزيةmy heart and my eyes to my mother وترجم سجين ثانٍ حبه لكرة القدم وأجواء الحرية في الملاعب بالقول (ان المشجعين يعشقون الريال ولا يعشقون البرشة)، فيما فاض حنين احد السجناء لأصدقائه فكتب (الصداقة جنة لمن يصادق بصدق) لتكون جدران غرف السجون ورقة كبيرة ينقش فيها السجناء ما يريدون الاعتراف به من رغبتهم في الحرية والندم على الجرائم.
واللافت في الأمر، إن إدارات السجون تمنح الحرية للسجناء في التعبير عما يريد البعض كتابته، وكأنها تلعب دور (قس الاعتراف) في سماع ما يريد المذنبون البوح به من أخطاء.
كتابات أخرى توزعت بين أكثر من سجن، وتجاوزت الجدران، لتخطها أيدي المحكومين على لوحات فنية محترفة باستخدام ريشة الرسم وقصب الخط العربي، لكن فحوى ما يُكتب لا يبتعد عن الشوق للحرية، والابتعاد عن جدران السجون، وكأن أفكار هؤلاء المحكومين انصبّت على هدف واحد، هو الندم على الجريمة.. واستعادة الحرية.. وعدم العودة إلى السجن مرة أخرى.
نتاجات فنية
المفتش العام لوزارة العدل أمين الاسدي، تحدث عن وجود إشارات ايجابية لدى الكثير من المحكومين وقدرتهم على صنع الجمال وترك بصمات في غفلة من شخصياتهم الجانحة نحو العنف والجريمة. وقال: وزارة العدل هي الجهة المسؤولة عن ادارة السجون في العراق، وحينما نتعامل ضمن واجباتنا الرسمية مع النزيل كانسان ونوفر له أدوات الإبداع، فانه سيبدع، وكل هذا لنتمكن من انتزاع الجوانب الايجابية في شخصيته لتطغى على سلوكه السلبي قبل الدخول إلى السجن.
وأضاف الاسدي: عامل الإصلاح يحتاج إلى مقومات عدة للتعامل مع المحكومين الذين دخلوا السجن جراء خطيئة ارتكبوها بحق الآخرين، ونقوم كوزارة مختصة بتوفير كل ما يحتاجه النزيل من ورش متخصصة ومواد أولية يستطيع من خلالها المحكوم توجيه سلوكه السلبي نحو إنتاج ايجابي ملموس، فأنا انظر الى عيون النزلاء خلال زياراتي الميدانية إلى السجون، وارى فيها الكثير من النشوة حينما يعرضون نتاجاتهم الفنية سواء اللوحات والتماثيل أو المجسمات، ولو لم تتوفر الأدوات لاستثمار وقتهم بالشكل الصحيح، لكان حديثهم عن الجرائم أو التخطيط للهروب والانتقام من المجتمع من جديد.
كتب وكتابات
ولفت الاسدي الى نوع من الافكار تمنع من خلالها تنشيط حالة الإجرام لدى المحكوم، وقال: وجهنا بعدم وضع الكتب البوليسية في مكتبات السجون، خصوصا روايات اجاثا كريستي، فهذه المطبوعات تتناغم مع أفكار بعض المجرمين المحكومين، لذا لا يجد أي سجين رواية بوليسية، إنما كتب تم انتقاؤها بعناية لتساهم في تحسين سلوك النزيل.
وبشأن الكتابات التي يقوم السجناء بتدوينها على جدران غرف السجن، والأعمال الفنية التي ينتجونها، لفت المسؤول في وزارة العدل إلى أن أي إنتاج فعلي للسجين هو انعكاس لمشاعره وترجمة لشخصيته الجديدة. وشدد بالقول: نستطيع بذكائنا استخراج الجمال من مجرمين عاثوا في الأرض إجراما، والمهم هو كيف نروض الشخصية الجانحة الخطرة ونجعل منها كائنا مبدعا.
بشير الاعرجي