إعداد/ بوحنية قوي
يتناول هذا التقرير قضية الدساتير الإفريقية التي ظهرت أول ما ظهرت مع استقلالات الدول الإفريقية، وكانت عبارة عن استنساخ مشوه للدساتير الغربية عمومًا والبريطانية والفرنسية خصوصًا.
وقد مرَّت صياغات الدساتير الإفريقية بمراحل، من أبرزها: مرحلة "الانقلابات المدسترة"؛ حيث حرصت المؤسسات العسكرية الإفريقية التي انقلبت على الحكم في بعض البلدان على التأثير على الحياة الدستورية في هذه القارة. حدث أكثر من مائة انقلاب عسكري في إفريقيا فحاولت الجيوش الإفريقية من خلال تلك الانقلابات أن تعطي لتدخلها في الحياة السياسية شرعية بتغيير الدساتير المعمول بها، وتم تعديل بعض الدساتير الإفريقية مرارًا وبشكل سافر من أجل إعطاء فرصة جديدة لرئيس انتهت مأموريته الدستورية وذلك في خرق سافر للوائح والنظم التشريعية المعمول بها. كما عرفت إفريقيا تجارب دستورية ناجحة كما هي الحال في جنوب إفريقيا. وتبقى الحالة الدستورية في إفريقيا وعلاقتها بالحياة السياسية وبنمط الحكم وبرؤية اللاعبين السياسيين في هذه القارة للدولة مواضيع غاية في الأهمية، تعكس بشكل واضع مسار بناء الدولة الحديثة في هذه القارة، ومدى جدية المشرِّع الإفريقي، وماهية تجربة الحكم في إفريقيا والآفاق التي تنتظر هذه الدول.بدأت عملية الدسترة -كتابة الدساتير- في إفريقيا منذ الحقب الاستعمارية، وتوجد شواهد على كتابة وثائق دستورية كانت تحكم إفريقيا الاستعمارية غير أنه يمكن الجزم بأن التاريخ الدستوري يولد مع ولادة الدولة الوطنية في مرحلة التحرر من ربقة المستعمر؛ لذلك يرى ريموند كاري دي مالبرغ أنه "يُحتسب ميلاد الدولة من الوقت عينه الذي تؤسس فيه أول دستور لها". (1)وبناء على ما سبق تجدر الإشارة إلى أن التأسيس لكتابة الدساتير في إفريقيا شهد ثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأولى التي بدأت من سنة 1960 إلى غاية 1965، أي: المرحلة الأولى للاستقلال تم اعتماد المنظومة القانونية الاستعمارية. وبدءًا من سنة 1965 إلى 1990 شهدت الدول تنصيب المؤسسات الدستورية وتبني خيارات سياسية وقانونية معينة، وابتداء من سنة 1990 بدأ الإعلان عن فشل الخيارات الدستورية والاقتصادية السابقة والشروع في صياغة دساتير جديدة تعددية تكرِّس مبادئ أولية في المواطنة وحقوق الإنسان. ومع انطلاقة سنة 2011 بدأت الانتفاضات الدستورية وبدأ الحراك المجتمعي الإفريقي ليعطي دفعًا جديدًا في إعادة النظر لإفريقيا الجديدة من منظور يتجاوز التصور السابق القائم على سلطة الانقلاب والتدخل السافر لمؤسسة الجيش في شؤون الحكم، وتبني نموذج يعطي المؤسسات السياسية في إفريقيا أبعادًا جديدة تحاول محاكاة النماذج الديمقراطية.ومع ذلك لا تزال إفريقيا بحاجة إلى ثورة دستورية تعيد النظر في منظومة حقوق الإنسان وتلغي مرحلة الانقلابات المدسترة، وتعيد المؤسسة العسكرية إلى مكانها القانوني الحقيقي المتمثل في المهمة الدفاعية لا أن تحولها إلى مؤسسة -فوق دستورية- تدوس على الهياكل السياسية والشرعيات وتمارس تسييس القضاء وتركب ظهور الثورات باسم إعادة الشرعية للشعب المنتفض!في الموروث القانوني البائد لدساتير إفريقيا ما بعد الاستعماريةإن قراءة تاريخية وقانونية للدساتير تجعلنا نسجل الملاحظات الجوهرية التالية: إن أغلب دساتير إفريقيا كانت نُسخًا مشوهة لدساتير الدول الاستعمارية وتحديدًا فرنسا وبريطانيا، وفيها يتضح تكريس النموذج الأوروبي واستمرار العمل ببعض القوانين خصوصًا الفرنسية منها، ويتضح في مضامينها قيود واردة على تكريس حقوق الإنسان وعدم فاعلية القاعدة القانونية وضعف الرقابة على دستورية القوانين وضعف منظومة القضاء؛ وهو ما جعل كثيرًا من المتخصصين يرون فيها أداة للدوس على القيم الديمقراطية الغربية على الرغم من كون هذه الدساتير عرفت في العقدين الأخيرين إضافات قانونية ذات طابع ديكوري كمجال الحقوق السياسية وتمكين المرأة وهو ما يؤكد الطابع الانتقائي للقائمين على صياغة وبناء هذه القوانين التي فتحت المجال الأوسع أمام ديكتاتورية الفرد في أسلوب لا يمكن الشك في أدواته الديمقراطية.
عرفت إفريقيا أكثر من 100 انقلاب عسكري وفي أحيان كثيرة باسم الشرعية الثورية والشعبية ومع ذلك لا تزال الدساتير الإفريقية تتغاضى عن تجريم ظاهرة الانقلابات العسكرية والسياسية وفي أغلب الأحيان تقوم مؤسسة الجيش وبأسلوب يدعي الديمقراطية بالدعوة إلى صياغة دساتير جديدة تضمن بقاء المؤسسة العسكرية كمفتاح لقُبَّة النظام بشكل يعفي قادة الانقلاب من المساءلة المستقبلية ويعطيهم قدرًا استثنائيًّا من الحصانة المطلقة.
في إفريقيا يحكم كثير من القادة والرؤساء بموجب تعديلات دستورية، ورغم بروز الانتفاضة الشعبية والبرلمانية في بوركينا فاسو الرافضة للتمديد للرئيس المطاح به بليز كومباوري العام الماضي إلا أننا نسجل حالات كثيرة جرت فيها تعديلات بشكل فتح المجال واسعًا أمام مسالة تحديد العهدات الرئاسية؛ إذ شهدت دول إفريقية عديدة تجديد العهدات الرئاسية لرؤساء الدول مثل جيبوتي والكاميرون وتشاد وتوغو وزيمبابوي وأنغولا، وفتح العهدات على مصراعيها دون قيود كما حدث في الجزائر سنة 2008. والغريب أن مسألة تمديد عهدات الرؤساء الأفارقة وقعت في كثير من الدول السابقة سنة 2011 وهي سنة الربيع العربي المتعثر! بالمقابل، اتخذ بعض البرلمانات الإفريقية، مدعومًا بمعارضة قوية، رفض التمديد للرؤساء وفرض انتخاب فترة رئاسية بدورة واحدة مثل الغابون والكونغو الديمقراطية وزامبيا ومالاوي في حين اهتزت عروش ديكتاتوريات إفريقية إما بسلطة شعبية وانتفاضة ثورية كحال الرئيس المصري المخلوع مبارك أو الرئيس التونسي الهارب هذا الأخير الذي جثم على كرسي الرئاسة التونسية منذ 1987 إلى سنة هروبه في 2011.
من الغريب أن كثيرًا من دول إفريقيا شهد تعديلات دستورية عديدة بعضها تجاوز الخمس تعديلات، مثل: أوغندا، إثيوبيا، رواندا، سيشل، الصومال، بوروندي، إفريقيا الوسطى، وبعضها شهد ما دون ذلك كحال دول شمال إفريقيا وتحديدًا الجزائر وتونس والمغرب إلا أن هذه الدساتير لا تزال محل نقد ونقاش وتمحيص من طرف السلطة والمعارضة على السواء وهو ما يحتم الحديث كل مرة عن حتمية إجراء تعديلات دستورية لا جراحات تجميلية؛ وهنا يجدر الحديث عن القفزة النوعية التي حققتها تونس في بناء دستوري توافقي سنة 2014 ودولة جنوب إفريقيا التي عرفت سنة 1996 في عهد مانديلا إقامة أول دستور توافقي وديمقراطي أعاد جنوب إفريقيا إلى حظيرة الهيئات الإقليمية والدولية مع ما عرفه من تعديلات مهمة ما بين 1997 إلى غاية 2012.كان على الدول الإفريقية حديثة الاستقلال في الستينات أن تشرع في إقامة دعائم هذا الكيان الجديد المتعطش لإثبات سيادته بكافة مظاهرها، والتي كان الدستور أهمها. وهذه الدساتير تحكمت في صياغتها العصب العسكرية الحاكمة لدول ما بعد ما الاستعمار؛ فالقارة الإفريقية عرفت ما يفوق مائة (100) انقلاب خلال الخمسين سنة الماضية.(2)هذا البناء الدستوري الذي وقف في أول معاركه في مواجهة الصراعات الإثنية والعِرقية التي ابتُليت بها القارة السمراء، ويتصدر النموذج السوداني القائمة كأطول نزاع إثني عرفته القارة، وتسبب في عرقلة الحركة الدستورية في السودان(3) بدءًا من أول دستور سوداني إلى غاية صياغة الدستور الانتقالي للسودان لسنة 2005.(4)ولم تكن الحال أفضل في روندا؛ فبعد صدور دستورها الأول سنة 1961 الذي ألغى حكم التوتسي ليستلم الهوتو مقاليد الحكم بعد انتخابات 1960، ليتم سنة 1962 إعلان دستور جديد بغرض تكريس الديمقراطية والتعددية، ليسقط إثر انقلاب عسكري سنة 1973 وتُحكم روندا بأحكام عُرفية حتى دستور سنة 1978، وتلاه دستور 1991 الذي أعاد التوتسي إلى الحكم، لتدخل روندا في حرب أهلية دامت أكثر من عقد من الزمن وحصدت أكثر من 800 ألف رواندي.(5)وحتى أصلب الدساتير في مسلَّمات القانون الدستوري لم تقوَ على الصمود أمام هذه الصراعات؛ فالدستور الفيدرالي النيجيري الذي يتطلب إجراء تعديله ثلثي أصوات أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وموافقة برلمانات ثلثي عدد الولايات سقط أمام مجتمع ينضوي على أكثر من 250 مجموعة عِرقية(6).ونجد في النماذج الإفريقية، نموذج دولة جزر القمر تلك الدولة التي ناهز فيها عدد الانقلابات 20 انقلابًا منذ استقلالها؛(7) إذ لم تنجح دساتيرها الثلاث (1978-1996-1999) بالإضافة إلى قانونها الدستوري المؤقت المنظِّم للسلطات الصادر سنة 1975، في الصمود أمام كمِّ الانقلابات.إن الصراع الإثني في إفريقيا واقع راسخ فكل الانقلابات على الدستور التي عرفتها القارة الإفريقية تشترك في فاعل واحد "المؤسسة العسكرية"؛ فعلى سبيل المثال وفي سنة 2005 وفي موريتانيا شهدت الساحة السياسة عودة لحكم المؤسسة العسكرية من جديد بطريقة انقلابية. وفي سنة 2008 وفي غينيا قام (موسى داديس كامارا بالاستيلاء على السلطة بعد وفاة الرئيس لانسايا كونتي، إلى غاية 2010 حين تحول من عسكري انقلابي إلى رئيس منتخب في استحقاق رئاسي. في السنة الموالية 2009 في جزيرة مدغشقر تولى أندري راجولينا الرئاسة إلى غاية انتخاب الرئيس الجديد. كما تم إسقاط الرئيس النيجيري مامادو تانديا بعد محاولته تمرير تعديل دستوري ليضمن بقاءه في السلطة.(8) دسترة الانقلاباتلا يخلو دستور إفريقي اليوم من جملة ضمانات حفظ الطابع الديمقراطي للدولة وضمان استقرارها، ولعل مفهوم دولة القانون من أهم المفاهيم القديمة/الحديثة التي دخلت على الدساتير الإفريقية في ديباجاتها أو بين موادها، قناعة بجدواها أو تقليدًا لمثيلاتها أو حتى ثمنًا للمساعدات المالية المقدمة اليها.(9)في نهاية الأمر، فإن تبني هذا المبدأ بحرفيته أو بمعناه ضمانة لاستقرار الدستور -نظريًّا- وسيرورة عملية البناء الديمقراطي. ونجد في ديباجة دستور بوركينا فاسو الصادر سنة 1991، وديباجة الدستور الليبيري لسنة 1986، وكذا دستور جمهورية إفريقيا الوسطى في ديباجته ومادته العاشرة في معرض الحديث عن سيادة الدولة، ودستور كينيا في مادته العاشرة، في إطار الحديث عن أهم المبادئ التي تتبناها الدولة. وتضمنه دستور روندا في المادة التاسعة المتعلقة بالمبادئ الأساسية للدولة، ودستور جنوب إفريقيا لسنة 1996 الذي أكد على ذلك حيث أورد المصطلح القديم والمعاصر "سمو الدستور ودولة القانون"،(10) أما السنغال ومدغشقر فلم تكتفيا بذكر المصطلح بل قدمتا له تعريفات توضح مضمون المفهوم، غير أنه وإلى غاية سنة 2010 نجد دولًا مثل الكاميرون وساحل العاج، والمغرب، وتونس لا ترد في دساتيرها مصطلحات مماثلة أو مقاربة.(11)بالإضافة إلى هذه المبادئ يجب التركيز في ظل الصراعات الإثنية على مبادئ الاندماج الوطني والوحدة، في ديباجات الدساتير ومتونها، والاتجاه نحو تحييد الدستور بنزع أية صبغة دينية أو عِرقية أو لغوية عنه، وهذا لا يعني التخلي عن هوية الشعب وإنما محاولة لتحييد كل نقاط الخلاف والتي تُستخدم كذريعة أمام كل من يريد التمرد، ولعل إفريقيا الجنوبية قدمت نموذجًا مميزًا في التخلص من النظام العنصري « Apartheid »؛ إذ خصصت وثيقة للحقوق والحريات شديدة التفصيل، لتلم بمكونات كل المجتمع جنوب الإفريقي.(12)إن التنظير في مواد الدستور لم يقف أمام المؤسسة العسكرية الإفريقية من الانقلاب على الدستور. ولعل من الإشكالات الكبرى غياب موقع المؤسسة العسكرية من الدستور. الأمر الغالب أن لا يُؤتى على ذكر القوات المسلحة أو الجيش إلا في مواد اختصاصات رئيس الجمهورية وفي تفصيل مكونات هذه القوى، كما جاء في الدستور الجزائري لسنة 1996، ودستور بوركينا فاسو لسنة 1991، ودستور زامبيا لسنة 2005، وفي دستور بوتسوانا لسنة 1965 المعدل في 2006، وغيرها العديد من الدساتير الإفريقية التي سارت على نفس النهج.دساتير إفريقيا: نحو ديمقراطية دستوريةفي الوقت الذي كانت تعرف فيه دول الشمال الإفريقي استقرارًا، اكتسحت موجة دمقرطة دولَ إفريقيا جنوب الصحراء، ورغم اختلاف صيغ التحول آنذاك، عن طريق المؤتمر الوطني كما هي الحال في الغابون وتوغو والنيجر، أو عن طريق تجنب المؤتمر الوطني لاختصار الطريق كساحل العاج 1990 وبوركينا فاسو 1991، وأخرى عن طريق الهزات التي عرفتها المجتمعات داخليًّا، ومن أمثلتها: الكاميرون، وغينيا، وبوروندي، بالإضافة إلى الصيغ الأكثر عنفًا عن طريق العصيان المدني والانقلابات العسكرية كالوضع في مالي 1991.(13)وقد تمت الإطاحة بالكثير من ديكتاتوريِّي المنطقة كالرئيس أريستيدس بيريرا في الرأس الأخضر بعد حكم دام 15 سنة (1975-1991)، والرئيس ماتيه كيريكو في بنين، الذي وصل إلى السلطة (1974-1991)، والرئيس كينيث كاوندا في زامبيا، والرئيس دنيس ساسو نغيسو في الكونغو (1972-1994)، ومؤخرًا في غينيا، تحديدًا عام 2007 حيث رحل كونتي في ظل مطالب شعبية بعدم تولي الرئاسة أي من الشخصيات التي ظهرت في الحكومات السابقة.(14)ومهما اختلفت أشكال التحول فإن النتيجة الأهم، من وجهة نظر دستورية، هي صدور العديد من الدساتير الإفريقية التي كرست التعددية الحزبية، وفتحت الباب أمام الحريات السياسية (حرية تشكيل الأحزاب، حرية الانضمام إلى الأحزاب السياسية، منح الأحزاب حق استخدام وسائل الإعلام العمومية).(15) وهذه الموجات أنتجت تجارب دستورية ناجحة، أهمها: تجربة جنوب إفريقيا؛ فالمطلع على الدستور جنوب الإفريقي يجد نصوصًا تحوي مبادئ ديمقراطية كنبذ التمييز العنصري والتعددية الحزبية وحق الإنسان في الحفاظ على كرامته،(16) والتي تبدو مفاهيم متعارفًا عليها في جُلِّ الدراسات الأكاديمية التي تتناول مضامين الدساتير الديمقراطية، غير أن من يعود إلى تاريخ جنوب إفريقيا يدرك أن دستورها يعد أعجوبة؛ ففي بلد تقيد فيه مجموعة من الشعب ضمن مجال جغرافي محدد مقدر بـ13% من أراضي الدولة، وكانت حرية التعبير تعد من أكبر الجرائم التي تستحق أشد العقوبات، ومجتمع شديد التنوع إلى درجة تهدد استقراره الأمر الذي فرض على المؤسس الدستوري الإقرار بأحد عشر 11 لغة رسمية. وقد جاء هذا الدستور بعد سلسلة طويلة من المفاوضات ليصبح دستور جنوب إفريقيا نموذجًا للديمقراطية التوافقية(17).لا يمكن الحديث عن حصانة مطلقة لدول إفريقيا جنوب الصحراء من موجات التغيير الدستورية التي مست شمال القارة، فهذه الشعوب تملك القابلية والقدرة لذلك بدليل تاريخها.(18) والمفارقة الغريبة في ردود الفعل الجنوبية؛ ففي زيمبابوي تم القبض على مجموعة من الشباب كانوا يشاهدون وثائقيًّا حول الأحداث في مصر، واتُّهموا بالخيانة وقلب النظام، كما اعتُقل شاب كان جرمه تعليقًا على صفحة رئيس الوزراء على شبكة التواصل الاجتماعي مبديًا تأييده لما يحدث في مصر.(19) ويعتبر هذا إقرارًا صريحًا بتوجس الأنظمة السياسية في إفريقيا من أصداء الحراك السياسي في الشمال الإفريقي.كما أن الحركات الاحتجاجية التي عرفتها زيمبابوي وأنغولا والكاميرون وبوركينا فاسو(20) بعد سنة 2011 أكبر دليل لصدى الحراك السياسي في الشمال الإفريقي، هذه الأخيرة التي عاشت، منذ 15 إبريل/نيسان 2011، موجات من الاحتجاجات والتمرد في أوساط الطلبة والتجار وقوات الجيش والشرطة، لتهدأ الأوضاع فترة ثم تنفجر حين أعلنت الحكومة عن استفتاء حول تعديل دستوري للمادة 37 من الدستور، التي يبدو أنها كانت في سبيل إبقاء الرئيس كومباوري على رأس الدولة، انتقل زمام الحكم إلى يد الجيش واستقال كومباوري ليستلم العسكري إسحاق زيدا الحكم؛ حيث عقد اتفاقًا بين الجيش والمعارضة حول فترة انتقالية يقودها ميشال كافندو(21) إلى غاية إجراء انتخابات وكتابة دستور جديد.أما الوضع في مالي فهو أسوأ بكثير؛ ويعود ذلك إلى سيطرة الحاكم الأوحد في السابق وتفشي الفساد مما أسقط الشمال المالي بيد الجماعات المسلحة. والوضع في مالي يفسره المختصون بحرب مصالح، أي: تلك الحرب التي تقوم على سياسة ذات وجهين: تجارة السلاح ومحاربة الارهاب،(22) وما يؤكد ذلك هو أن غينيا وساحل العاج والسنغال عرفت أحداثًا شبيهة لمالي لكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه بل انتقلت فيها السلطة بطريقة سلمية.(23) حالات الشمال الإفريقي: البحث عن هوية دستوريةبعد عزل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي بموجب ما عُرف بمظاهرات يونيو/حزيران 2013 وإلغاء كل الموروث الدستوري الذي شرعه الرئيس المعزول مرسي -والذي عُرف لدى مناوئيه بدستور الإخوان- ومع إقرار دستور مصر الجديد الذي قادته المؤسسة العسكرية وصولًا إلى إقراره سنة 2014 شهد الدستور المستفتَى عليه لغطًا سياسيًّا كبيرًا.إن هذا الدستور الذي عرف مشاركة بسيطة نسبيًّا لم ينجُ من النقد اللاذع لاعتبار موضوعي هو أن "الدساتير غالبًا ما يكتبها المنتصرون"؛ لذلك، سمح ميزان قوى ما بعد الثلاثين من يونيو/حزيران 2013 بأخذ الجيش زمام الأمور وأُوكلت صياغة دستور إلى لجنة مكونة من خمسين عضوًا، تم اختيارهم بعناية من مكونات الطيف السياسي والمدني المصري، باستثناء (الإخوان). كما رسُمت لها خطة زمنية، من دون أن يكون لهم إطار كامل الشفافية، وهم يعيدون صياغة الوثيقة الدستورية الجديدة فيما سيُعرف لاحقًا بـ(دستور الغلبة).أما الحالة الليبية فحين سقط نظام القذافي في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وتفككت دعائمه، وجد الليبيون أنفسهم أمام فراغ دستوري ومؤسساتي؛ إذ لم تتمكن الهيئات الانتقالية الثلاث، أي: (المجلس الوطني الانتقالي التوافقي)، و(المؤتمر الوطني العام المنتخب)، وأخيرًا البرلمان المنتخب في 25 يونيو/حزيران 2014، من كتابة دستور جديد بل لم تتمكن بعدُ لجنة الستين المنتخبة في 20 فبراير/شباط 2014 (وفق قانون الهيئة التأسيسية) المصادق عليه في اجتماع مدينة البيضاء، بتاريخ 20 يوليو/تموز 2013 من إعداد الوثيقة الدستورية المرتقبة، ومع تدهور الوضع الأمني أضحت العملية السياسية برمتها في حالة فشل يهدد كيان الدولة.وفي المملكة المغربية، ورغم الإضافات النوعية لدستور 2011 إلا أن هناك أسسًا ومحاذير لا يمكن تجاوزها، مثل: وظيفة المؤسسة الملكية باعتبارها مؤسسة دينية وسياسية في آن واحد مع الإقرار بأن هذه الوثيقة الدستورية أعطت نفَسًا سياسيًّا جديدًا للمعارضة الإسلامية تحديدًا.
وفي الجزائر، تتطلع المعارضة والنخبة السياسية إلى بناء دستور توافقي سنة 2015 بعد مشاورات ماراثونية بشكل يتجاوز -هِبَة الأمير- ليعطي للحياة السياسية الجزائرية جرعة سياسية جديدة تتجاوز ما عرفته الجزائر من احتقان سياسي دامَ عشر سنوات تبعته رتابة في العمل السياسي منذ التعديل الدستوري الذي أطلق العنان للعهدات الرئاسية. لذلك يمكن القول بأن القيمة السياسية في الدستور المقبل المتوقع خلال سنة 2015 لا يمكن أن تأخذ مكانتها إلا بمراعاة إشراك الفواعل الحقيقية في بناء الدستور من نشطاء المجتمع المدني وخبراء القانون الدستوري والمعارضة لإعطاء الدستور المقبل صفة الإجماع.
____________________________________
بوحنية قوي - أكاديمي جزائري متخصص في تحولات الدولة