الراهبة المربية (ماسير) بنينيا هرمز منصور شكوانا
رحلة مع بناة الأنســـان العراقي
لاتكتمل جمالية السماء عندما ننظر اليها ليلا، إلا حينما تتطرز بالنجوم التي تملئها لئلئة وضياء، فتكسر عتمتها وجمودها وتزّينها فرحا وحبورا، كذلك هي حياتنا في تعاملها مع البشر الذين يظللون سـنيّها تاركين بصمات تلازمنا طوال الوقت، فيأخذنا قسم نحو الأعلى، فيما البعض يجرّنا ويوقفنا في مكاننا. فكم من معلمة أو معلم أخذوا بيدنا، وأرادوا لنا شيئا عظيما، تارة بالنصيحة وتارة بالعقاب، فتمضي الأيام، هم يكبروا ونحن نكبر، ونلتقيهم معلمون، فيما تلاميذهم قد شقوا طرق الحياة في شتى الأتجاهات . وتبقى غصة عالقة في الروح: كيف نكرّمهم، وكيف نشعرهم بأمتناننا لهم، رغم إن الأمل كان معقودا على المؤسسات الرسمية للقيام بهذا الواجب وتكريمهم أكبر تكريم. لكن في غياب تلك الأحلام وتبخرها أمام "انشغال" المسؤولين بأمور "أكبر" و "أهم" يبقى الواجب الأدبي والأخلاقي ملقى على عاتقنا، وقد تقبلناه بكل رحابة صدر، فنحن الذين سنقول لكم شكرا لعملكم، شكرا لصبركم معنا، شكرا لتحملكم كل شقاوتنا، ونحن نأمل أن تعيشوا بقية عمركم سعداء وبأتم الصحة. ان بذرتكم فينا قيد اينعت، فشكرا لكم مرة أخرى.
من مواليد مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى عام ١٩٤٠ وفي محلة (قاشا).في طفولتها دخلت الأبتدائية في:
ـ (مدرسة راهبات الدومنيكان) في مدينة ألقوش وحتى الصف الرابع بعدها انتقلت الى
ـ (مدرسة الدير) في بغداد والواقعة في (عكَد النصارى) حيث اكملت الصفين الخامس والسادس ثم انتقلت الى
ـ (متوسطة راهبات الأرمن) وبعد ثلاث سنوات دخلت
ـ (دار المعلمات الأبتدائية) في بنايتها التي كانت بمنطقة "الحيدرخانة" لتتخرج منها بعد ثلاث سنوات عام ١٩٦٠.
حينما حل وقت استلامها مهامها الوظيفية، يبدو ان تفاهما كان قائما بين "الكنيسة ـ الراهبات " ووزارة التربية في اتباع سياسة مرنة في التعينات ولهذا كان أول عملها في
ـ (مدرسة الراهبات في دهوك) للعامين ١٩٦١ ـ ١٩٦٢ ثم
ـ مديرة (مدرسة الفيحاء الأهلية) في البصرة عام ١٩٦٣ ولعدة سنوات، ثم
ـ مديرة (مدرسة المنصورة الأهلية ـ الأمل) في دولة الكويت ولعدة سنوات ايضا،
بعدها تُكمل "ماسير بنينيا" الحديث:
ـ إفتتحتُ مدرسة في إمارة دبي وأصبحتُ مديرة لها، وسمّيت (مدرسة الراشد الصالح الأهلية) بعد استحصال موافقة الشيخ زايد شخصيا على هذا الأفتتاح، ثم عدتُ الى بغداد وتعينتُ مديرة في
ـ (مدرسة مار يوحنا الحبيب الأهلية) في شارع فلسطين، والتي افتتحت عام ١٩٧١، وعندما أممت المدارس الأهلية في العراق فأن وزارة التربية ارتأت إبقائي في منصبي والأستفادة من امكانياتي و إخلاصي في العمل،
وقد سـميت المدرسة بعد التأميم (مدرسة الأبتكار). ومن الضروري الأشارة الى موقف وزارة التربية التي كانت تفتخر بالمستوى التدريسي والنتائج الراقية لمدرستنا، حيث اضيفت الدراسة المتوسطة المتوسطة للبنات فيما بقت الأبتدائية مختلطة منذ العام ١٩٩٤. لقـد استبشرنا خيرا عندما اعيدت المدارس الأهلية الى مالكيها الأصليين بعد عام ٢٠٠٦، فعدت لوظيفتي وأستمريتُ في العمل حتى العام ٢٠١٣، العام الذي قررت فيه الأستراحة من العمل نهائيا بعد رحلة في التعليم والادارة استمرت (٥٣) عاما متواصلة.
تتذكر (ماسير بنينيا) مسيرتها التربوية وتقول:
لاشك بأن التعليم الأهلي، وبالذات (مدارس الراهبات) في العراق كان لها أثرا عظيما على العملية التربوية والتدريسية، وعلى تطوير مستوى التعليم ونوعيته، وأني أشعر بالفخر والغبطة والسعادة وأنا انظر الى تلك السنين وحجم المنجز الذي حققناه أنا وأخواتي الراهبات مع المعلمات والموظفات اللواتي شاركنني العمل. ولعل من المفارقات أن اذكر بأن عدد التلاميذ في السنة الأولى لأفتتاحنا "مدرسة يوحنا الحبيب" بلغ (٧٢٠ طالب وطالبة) وعشية احالتي على التقاعد عام ٢٠١٣ كان قد بلغ عددهم (٣١٦٠ طالب وطالبة) ولعلهم لم يخطأوا حينما كانوا يسمون مدرستنا ب (جامعة) نظرا لعدد طلابها ومنتسبيها، فيما وصلت عدد صفوف الدراسة الأبتدائية الى (٤٦) صفا ، اما كادرنا التدريسي فقد وصل الى (٩٠) معلمة للفصل الدراسي.
اما عن عملها الوظيفي فتقول "ماسير بنينيا" :
مع مهامي الأدارية في التعامل مع الكادر التدريسي، والوزارة والمؤسسات الحكومية المعنية والعوائل وأحتياجات الطلاب، فأني كنت اقدم (١٠ دروس) باللغة العربية، وتدريس مادة (الديانة المسيحية) للصفوف العليا، وعندما اضافوا لنا (الدراسة المتوسطة) فأن مدير الأشراف العام على المدارس قال في الأجتماع : ( انتي تبقين مديرة المدرسة الأبتدائية، ومديرة المدرسة المتوسطة ايضا) وهذا زادني فخرا، لأنه تكريم عال لمجهوداتي، مع كل الثقل الذي تحمله هذه المهام.
وتكمل حديثها بالقول: ان هذه المسؤوليات لم تحرمني من أداء واجباتي الروحية مع اخواتي الراهبات الأخريات، ولا حتى هواياتي في القرأت الشعرية ونظمه ايضا، خاصة ذاك المتعلق بالأمور الروحية والدينية. لقد كنت املك مكتبة كانت تضم ما لايقل عن (٣٠٠٠ آلاف) كتاب، وكانت ومازالت عندي هواية (التطريز) التي اعتز بها ، خاصة في (الشارات) التي يعلقها الأولاد والبنات عند تقبلهم اسرار التناول الأول، ومن جماليتها بأن الأهالي غالبا ما يحتفظون بها للذكرى، وهم دائما يقول لي: ان لمسات يديك مازالت عالقة بها !
اما عن مستوى تكريم الوزارة فتقول (ماسير بنينيا) : لست مبالغة في الأشارة لعشرات ـ كتب الشكر ـ التي حصلت عليها مدرستنا، وطبعا هذا لم يكن بجهدي فقط، بل شاركتني به بكل فخر وأعتزاز أخواتي الراهبات والملاك التدريسي والموظفين وتلاميذي النجباء، الذي صاروا مع الأيام سفراء لمدرستنا، وهم من يرفع اسمها عاليا . ومن المفارقات التي حدثت أن كان هناك اجتماعا مهما في الوزارة، وأثناء الحديث عن مدرستنا نهض المسؤول وقال: (ان ماسير بنينيا، ومدرستها هي تاج الوزارة) وهذا اعتراف كبير بحقنا جميعا. لقد كانت كتب الشكر على مستوى التعليم،والأنضباط والدوام والنظافة والمعارض والمسابقات التي كنّا نشترك فيها. اما نسبة النجاح عندنا فقد كانت ( امتياز ـ نموذجية) وربما أذكر بأنها كانت ١٠٠٪ في اللغة العربية والرياضيات ومادة الدين. لقد ضمت مدرستنا تلاميذا من كل القوميات والديانات، بناتا وبنينا، وكم انا سعيدة حينما تصلني أخبار البعض والمستوى الراقي الذي وصلوا اليه، وغالبا ما اصادف تلاميذي في الأماكن العامة فينادوني بأعلى الصوت : (هذي ماسير بنينيا مديرتنا) ويطبعون قبلاتهم على رأسي، ويقولون لي (انتي سويتينه اوادم، انشالله عمرج ١٠٠ سنة) وكنت دائما أشعر بأنهم مثل أولادي. ومن الطريف أن أسمعهم يقولون لي : ماسير وين البوق؟في أشارة الى البوق الذي كنت احمله للمناداة على التلاميذ بعد انتهاء الفرص بين الدروس. انها ذكريات جميلة تعيد الفرحة لقلبي، وتزيح عني الكثير من اتعاب السنين والهموم.
رغم ان عقودا كثيرة مرّت (تقول ماسير بنينيا) على بعض الوجوه والأسماء، لكني والحمد لله ،هناك بعضا منها يقاوم العمر والصدأ كما يقولون، وكوني سأذكر بعضهم ممن تسعفني الذاكرة بهم، فأتمنى الرحمة للذين غادرونا بسلام والصحة لمن مازال بمشوار الحياة معنا:
في الأبتدائية الست مادلين عجو معلمة الرياضيات، في دار المعلمات الشاعرة الرائعة والكبيرة لميعة عباس عمارة والست فاطمة الحسني. اما من الأخوات اللواتي شاركنني في الملاك التدريسي: زهور ابراهيم / الرياضيات، أزهار زيا إيليا كانت معاونة المديرة ومعلمة مادة الأجتماعيات،الست فتحية والتي عملت معاونة ودرسّت مادة الأجتماعيات أيضا، الست جانيت جبري.اما في دولة الكويت فأذكر الست سهام الغريافي، وفي امارة دبي الست سـعاد الخوري، وتحياتي ومحبتي لكل من عملت معهم أو عملوا معي في سلك إنارة الدروب امام بناتنا وأولادنا حتى يشقون طريقهم في سلم المجد والتقدم وخدمة الأنسان.
ولعلي هنا، وأنا أتكلم عن الأنسان ومسيرته في هذه الحياة، فإني مع أخواتي (الراهبات): "نرفع صلواتنا صباح مساء، حتى يحفظ الله العراق وأهله، وعندي أمل ، بأن الأمن والأستقرار سيعود لهذه البلد، لأن أرضه قد سقيت بدماء الشهداء ومشت عليها أقدام القديسين. نعم ، لقد دفعنا ثمنا غاليا للفرقة والتدخلات والتخلف والعنصرية، لكن يقيني بالأنسان وبقدرته على تجاوز المحن والأنطلاق نحو المحبة والتسامح والتآخي كبيرة. أصلي من كل قلبي وأتمنى لهذه الشعب الرائع وأرضه ان يكونوا بمأمن، وأن تعود البسمة الى وجوه الأطفال والنساء والشباب وكل الناس".
حينما أقف متأملا في سيرة " ماسير بنينيا" الرائعة والمباركة، ونذرها النفس والروح لخدمة الأنسان، وتساميها على مغريات البهرجة والمال، وحياتها البسيطة مع اخواتها الراهبات وتقديمها كل ما تملك لهذا السلك الرائع، وحتى في مجيئها الذي تسميه (مؤقت) للولايات المتحدة لغرض الراحة والمعالجة في دير راهبات الكلدان في احدى ضواحي مدينة ديترويت ، يترأى أمامي مشهد تتداخل فيه الحقيقة والخيال : ماذا كانت سـتخسـر وزارة التربية لو أسمت احدى المدارس أو المكتبات العامة أو احد الشوارع أو الساحات العامة بأسم "ماسير بنينيا"؟
ألا تستحق ذلك بعد مسيرة عمرها (٥٣) عاما في الخدمة العامة، خدمة الأنسان و الجيل الجديد؟
كمال يلدو
شباط ٢٠١٥
كاردينيا