عبدالعزيز عاشور ـ روتانا
الورق ليس مادة مستهلكة أو اعتيادية، إنه كائن عضوي حي يمكننا أن نعقد معه صفقة أو علاقة من نوع ما، وفيه من المروج ما يتسع لأرواحنا انطلاقاً من كونه أداة أولية لتخليد الرسالة الإلهية والعلم والمعرفة والفن.
في منتصف الثمينيات عقدت صفقة مع الرواية تحولت فيما بعد إلى تحالف روحاني بعدم جدوى المتخيل البصري في الفنون ومن ثم بدأ الانحياز للمتخيل الروائي وبلاغة الروائيين في استثمارهم اللغة وتأثيرها الإنساني في الأدب بينما كان تأثير اللون ومعطياته الصامتة في الفنون وجدواه أقل بكثير من اللغة.
واشتدت العلاقة بعد ذلك بالرواية مثل فاتحة التهمت عدداً مبالغاً فيه من الروايات العالمية والعربية، وما زالت المحاولات مستمرة بلا هوادة.
تعلمنا الرواية تتبع مسارات معنى أجمل العبارات عند كونديرا وجوستاف غاردر وباولو كويلا وايزابيل الليندي وغيرهم كثيرين من الروائيين، وهم الذين لابد من استثمار إبداعاتهم للغة في المتخيل البصري وبراعتهم في إيصال ذاكرة المكان والزمان وحبكة الحدث وكثير من الصور والإشارات المتخيلة، كما لو أن القارئ يعيش زمن ومكان الرواية أو يقف بجوارها.
في اللحظة التي يقرر فيها الواحد فينا استعادة عافيته في الفن لن تبارح عيناه بلاغة ملامسة الورق وحساسيته الجمالية المفرطة معاً عندها ستصبح مراقبة الورق وتعدد ألوانه وأشكاله، وبراعة صناعته في الكتب أكثر ما يحرضه على فتنة الإلهام، بحيث تسيطر على متخيلاته، وحساسيته البصرية عادات وتضاريس الورق ورائحته التي لا تنفك تنبعث من صفحاتها إلى درجة أن لبعضها رائحة تعلق على راحة اليدين مثل عطر، فيما تزيد عادات وتضاريس الرواية من وقود الإلهام ما لا يخطر للمبدع على بال.
إن استعادة مسار تاريخ الفنون في الممارسات البصرية التي تضطلع باستخدام الورق كمادة رئيسية في إنتاج الأعمال الفنية، تشبه استعادة بعض عادات فن صناعة الورق في بعض الحضارات الإنسانية.
لقد عززت بداية الألفية تجربة اختبار بسيط في مرسم متواضع بمنجزات ذات مقاس لا يتجاوز أكبر أضلاعه عشرين سنتيمتراً
تبدو لمن يتابع النتائج آنذاك بليغة وذات حساسية مغايرة للتجارب السابقة.
يستكشف معرض "فن الورق المعجن" محاولات استخدام الورق في الفن باعتباره عنصراً حيوياً وعضوياً تتنوع تياراته البصرية سواء باللصق أو الكولاج أو إيماءات الفن التجريدي أو الفن الفقير، وقد تتمظهر على جدرانه عمليات من الكحت والنحت وملصقات بقايا صحف يومية وورق معجن ومخضب بالألوان وبعض المواد التي يمكنها أن تتصالح معه.
ما زال الورق بكل أشكاله مادة مثيرة للحواس تحرض المبدع على الإبداع، وتمنحه مزيداً من البهجة التي طالما افتقدها عالمنا المادي.