صفا.. فتاة أخرجها «التحرش» من ضعف مخيف إلى قوة لا تقهر
التحرش بالفتيات
مشهد اعتيادي لأتوبيس يقترب من محطته النهائية تطل من إحدى نوافذه فتاة عشرينية، يتوقف لثوان ويركب شاب مسرع وعلى الرغم من هرولته اللافتة للانتباه ينزل بعد أقل من خمسة دقائق جلس فيها في المقعد الخلفي للفتاة، لينزل تاركًا كابوس حي لتلك الفتاة، ويذهب غير مبالِ بما حدث لتلك الفتاة وكيف كانت حياتها وكيف أصبحت.
هي "صفا" ومن اسمها تحمل الكثير فهي فتاة جامعية تبحث عن العلم الصداقة والحب بين جنبات طريقها لا تأبى العقبات، ينقصها عام لتصبح طبيبة ماهرة تضيف لحياتها ولأسرتها إلا أن الحلم لا يكتمل دون عقبة تخفيها عن الجميع، عقبة تزداد يومًا بعد اليوم تواجه فيه أزمتها بروح أبيّه.
ملامحها خمرية دقيقة مكسية بخمار وردي أنيق الطلة، تخطو طريقها اليومي بحي مصر الجديدة حيث كان يقطن الملوك والأمراء، تمر وسط قلق شديد من من حولها وتخوفًا غريب، تخوفًا من أيدي شيطانية فاقدة للإنسانية غريزتها الحيوانية هي التي تحركها، هكذا تشق صباحها وسط أرتياب تحاول تخبئته في ملامحها الدقيقة.
اليوم بعد الآخر تأخذ ثلاثة مواصلات في طريقها إلى الجامعة تبدأ بميكروباص رمسيس التي تنتظر المقعد الخلفي لتركب فيه، فإذا وجدت جميع المقاعد فارغة عدا الكنبة الأخيرة لا تركب، فهي لا تركب سواها في مشهد مثير للتساؤلات للركاب المتواجدين لماذا المقعد الأخير فقط؟ لماذا لا تركب إذا لم يكن فارغ؟.
وللوصول للإجابة يجب أن تعود بالزمن لسنوات معدودة قبل تلتحق صفا بالجامعة، حيث كانت لا تكره أحد وتبحث عن السعادة في أوجه كل من حولها تنشر بسمتها دون خوف أو قلق، وردة متفتحة من الداخل والخارج يضفي إشراقها على الكون، فتبيت صفا نور للشمس ممزج بروحه الدافئة باعثة الفرح والمحبة، إلى أن توقفت عقارب الساعة وقت عرفت معنى التحرش معنى أن تكون فتاة في مجتمع مصري، تحرك فيه الغرائز نسبة ليس بقليلة من رجاله صغار وكبار، هنا كرهت أن تكون فتاة، كرهت أن تكون طبيبة تعالج من تخاف منهم.
بدأت قصة صفا مع التحرش ذات يوم وهي في طريقها من منزلها لمترو العتبة لتلحق بأتوبيس النقل العام، حيث شاءت أقدارها أن تتناول أولى صدماتها بعد أن جلست في أحد مقاعد الأتوبيس شبه الفارغ، وما إن قاربت من محطتها النهائية إلى أن ركب شاب نحيل الجسم ذو نظرة لم تكن صادفتها من قبل، نظرة حادة مترقبة ما إن رأها تطل من أحد شبابيك الأتوبيس حتى هرول إليه مسرعًا، فاعتقدته متأخر على عمله وركب سريعًا.
واتضح الأمر في الثوان القليلة التالية ما إن وجدته يترك الأتوبيس الفارغ ويجلس في المقعد الخلفي ليكون في المقعد الذي يليها مباشرة، لتخرج من مشهدها تأملها في الشوارع من حولها، بعد حركة مفاجئة اقتربت لتسرقها من عالمها لصدمة لم تستطع التنبه له إلا بعدها بثوان قليلة، بعد أن أقحمها ذلك الشاب في جحيم لم تمتلك إلا أن تنظر له في صدمة غير مفهومة، فكيف منح لنفسه الحق بانتهاك حرمة جسدها؟ كيف سمح ليده أن تتقترب من صومعتها الخاصة؟ وكيف لم تلقنه درس لا ينسى؟ ليهرب سريعًا دون أن يحقق مبتغاه، فالكثير والكثير من الأسئلة ظلت تأتي لرأسها كصواعق غير مفهومة تحاول حل لغزها.
تلك اللحظات كانت صدمة صفا الأولى التي جعلتها في سجن خاص تبحث فيه عن طقية الإخفاء لتختبأ عن أعين حيوانات في إجساد بشر كما وصفتهم، وتظل في صدمة وخوف من كل أنواع المواصلات، فأصبحت تفضل سير الأميال على الجلوس في المواصلات وخلفها رجل مثل "رجل الأتوبيس"، حيث أصبحت تقلق من كل من حولها حتى في بيتها الآمن لا تشعر بالأمان تشعر دائما بالخوف من وجود شخص ورائها.
وجاءت نقطة التحول في حياة صفا بعد هذه الصدمة عندما تعرضت للموقف نفسه مرة أخرى ولكن من رجل أربعيني هذه المرة يجلس خلفها في المواصلات ويفعل نفس فعلة "رجل الأتوبيس السابق"، فبعقل فقد خطوطه الحسية مد الرجل الأربعيني يده بينها وبين سيدة مجاوره محاولا لمس جسدها، فتتذكر صفا صدمتها الأولى وتكتشف الأمر سريعا فهي هذا المرة ليست الفتاة الأولى.
في هذه اللحظة لم تصدم صفا ولم تتلعثم كلماتها كما فعلت من قبل، فقاومت ضعفها وقررت ألا تستسلم هذه المرة فهي لازالت قوية وقادرة على الدفاع عن حرماتها وعن ثنايا أعطاها المولى لها فكونها فتاة ليس بعقاب ولكنه رحمة وحب، فخرجت منها كلمات بصوت عالٍ أوقفت فيه الميكروباص وكشفت عن حيوان متجسد في رجل جعلته يتمنى أن يختفي من على الأرض، جعلته للمرة الأولى غير مستور أمام نفسه، فبكلماتها أسقطت قناعه دون ضعف.
وهنا حطمت صفا صمتها وقالت في حالة هسترية وبصوت عالٍ: "ليه بتعمل كده؟ أنت مش عارف أن ربنا موجود؟ إنت إيه؟ انت حيوان ولا بني آدم أنت عايش إزاي؟ حرام عليك أنت معندكش حد تخاف عليه؟ أنت تقبل حد يعمل فيك كده؟ ده جسمي مش جسمك عشان تمد إيدك عليه؟ أنت إزاي سمحت لنفسك؟".
وهنا يقرر ذلك الرجل في مشهد صامت لم يجد أمامه كلمات أن ينزل من الميكروباص وسط تهدئه الراكبين لصفا لترد بثقة: "أنا مش خايفة ولا هخاف، ولو شوفتك هنروح القسم وتعرف يعني أي حرمة الناس وهم يعلموك طالما نسيت ربنا"، لتكون كلماتها مفتاح في حياة جديدة تقضيها باتت تفضل فيها المقعد الأخير لكن ليست بكلمات ملعثمة هذه المرة بل بروح قوية قادرة على الوقوف أمام مدنسي الأرواح وأمام هاجس ظل يعكر صفو حياتها.
منقول