الانتفاضة الفلسطينيةالمقدمة
الحديث عن القضية الفلسطينية شجون، ولأثرها في وعينا عمق ربما لا يضاهيه أي أثر آخر. تشكل القضية الفلسطينية برمزيتها ووقائعها تاريخاً يكاد يكون مسؤولاً عن صياغة الواقع العربي برمته، وقد ارتبطت أحداثها بشجاعة المقاومة والعزم المتواصل على تحرير الأرض، لكنها ارتبطت كذلك بالهزيمة والانقسام والتبعية. في الحديث عن تاريخ هذه القضية، ثمة مرحلة هامة لم تحظ بالقدر الذي تستحقه من الدراسة والبحث، وهي مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي تبنى الفلسطينيون خلالها نضالاً من نوع مختلف حقق لهم خلال ثمانية عشر شهراً فقط ما لم تحققه عقود طويلة من الكفاح المسلح.
ما وصلنا من الانتفاضة الأولى كان مشهد أطفال الحجارة وهم يواجهون الجندي والآلية الإسرائيلية بملحمية لا توصف، لكن خلف هذه المشاهد كانت حملات العصيان المدني والإضرابات والمقاطعة قد بدأت تتحول إلى أداة رئيسية في النضال شكلت جوهر الانتفاضة الفلسطينية الأولى. أعادت هذه الحملات للفلسطينيين زمام المبادرة بعد أن كانت الدفة تدار دائماً في الخارج بمعزل عنهم، وجمعت إرادة مئات الآلاف من الرجال والنساء من مختلف الفئات والأعمار في لجان شعبية نسقت جهودها ومهدت لحالة فريدة من التحرر الذاتي وإنكار وجود الاحتلال وهدم التبعية له تدريجياً.
هذه قصة بضع سنوات من الأمل، تخللت قرناً من الهزيمة والخيانة والتبعية، وقد تبدو أحداثها من عالم آخر إذا ما نظرنا إلى درجة التنظيم والعمل الجماعي ووحدة الصف بين الفلسطينيين، لكنها قصة حقيقية، وغايتي من نقلها ليست نسخ التجربة كما هي، بل التعريف بهذا الجانب المهمل منها، وفهم مواضع القوة وأخذ العبرة من مواضع الضعف.
* بداية الانتفاضة :
البداية كانت في التاسع من كانون الأول عام 1987 عندما اصطدمت شاحنة إسرائيلية على أحد الحواجز في مخيم جباليا في قطاع غزة بحافلتين كانتا تقلان عمالاً فلسطينيين ما أدى إلى مقتل أربعة منهم. شيع أربعة آلاف فلسطينيي القتلى، وتحولت مراسم التشييع إلى موجة من الاحتجاجات انتشرت بسرعة عبر المخيمات والقرى في القطاع والضفة والقدس لتشكل إحدى الحلقات الملحمية لما سيسمى فيما بعد بالانتفاضة الفلسطينية الأولى. واجه الشباب الفلسطينيون العزل قوات الجيش الإسرائيلي المدججة بالسلاح وكانت أعداد المشاركين تزداد بشكل مضطرد وبدأ الحجر يصبح تدريجياً لغة جديدة لم يكن الكثيرون قد تعرفوا عليها بعد، وهو ما شكل في أوساط الإعلام مادة مغرية لجيش مجهز بأحدث الأسلحة يواجه سلاحاً على هذه الدرجة من التواضع، وتدفقت وسائل الإعلام العالمية إلى القدس وتل أبيب وحصدت التغطية الإعلامية بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الانتفاضة أكثر مما حصده اللقاء بين الرئيسين ريغان وغورباتشوف.
خلال أسابيع قليلة كانت حملة عصيان مدني شامل قد بدأت تنظم في المخيمات والقرى الفلسطينية واستمرت لمدة عام ونصف وشارك فيها مئات الآلاف من الفلسطينيين من مختلف الفئات والأعمار.
* لمحة تاريخية
في مستهل القرن الماضي، كانت فلسطين وطناً لأكثر من نصف مليون عربي مسلم، وعدد أقل من المسيحيين، بالإضافة إلى 50 ألف يهودي، جميعهم عاشوا في حالة من السلام والتعايش. في ذلك الوقت،كان الأمير فيصل ابن شريف مكة يحلم بمملكة عربية يكون هو على رأسها… وكان الإنكليز قد وعدوه بالاعتراف بأبيه خليفة للمسلمين لقاء انتفاض العرب على العثمانيين.. عند انتهاء الحرب الكبرى، ذهب الأمير إلى فرساي مصطحباً العقيد لورنس ليطالب بتصديق الدول على مشروعه، [وهناك] التقى حاييم وايزمان، الشخصية الهامة في الحركة الصهيونية والذي صار بعد مرور ثلاثين سنة أول رئيس لدولة إسرائيل. وقع الرجلان بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1919 على وثيقة مدهشة تشيد بروابط الدم والعلاقات التاريخية الوثيقة بين شعبيهما، وتنص على أنه في حال قيام المملكة الكبيرة المستقلة التي يتمناها العرب، فإنها ستشجع إقامة اليهود في فلسطين[i]. شرعت قيادات يهودية أوروبية بجمع المال لتمويل هجرة اليهود إلى فلسطين، والتي تسارعت خلال العقود الثلاثة التالية خصوصاً إثر المذابح التي قادها هتلر ضدهم في أوروبا حتى بلغ عدد السكان اليهود في فلسطين قرابة 400 ألف نسمة. بعد الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا، أحيت روايات المحرقة في أوروبا من جديد فكرة الملاذ الآمن لليهود، وفيما أنهت بريطانيا وجودها في فلسطين عام 1947، اقترحت الأمم المتحدة التي جرى إنشاؤها حديثاً، تقسيم الدولة إلى دولتين مناصفة، الأولى لليهود والثانية للعرب، وهو الإعلان الذي قبله اليهود ورفضه الفلسطينيون. في 14 مايو/أيار 1948 أعلن اليهود عن إنشاء دولة إسرائيل وهو ما أشعل مباشرة حرباً بينهم وبين الدول العربية المجاورة، الحرب التي انتصر فيها اليهود وغنموا نتيجتها ثلاثة أرباع المساحة التاريخية لأرض فلسطين. وفيما باتت الضفة الغربية تحت حكم الأردن، وقطاع غزة تحت إدارة المصريين، بقي حوالي 120 ألف فلسطيني في الأراضي المحتلة، ولجأ البقية إلى مخيمات في مصر وسوريا ولبنان والأردن.
كانت إسرائيل تعزز بشكل متواصل قدراتها العسكرية وتصعد مناوشاتها لجيرانها عندما قرع العرب طبول الحرب ضدها مرة أخرى في 1967، لكنها حققت مجدداً فوزاً حاسماً نجحت من خلاله في احتلال الربع المتبقي من أرض فلسطين، بالإضافة إلى احتلالها لمرتفعاتِ الجولان، وحصولها على الضفة الغربية من الأردن، وقطاع غزة من مصر، في الوقت الذي آثر فيه مئات الآلاف من الفلسطينيين البقاء في أراضيهم. شكل الفلسطينيون بدعم من العرب منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964 وترأسها ياسر عرفات، وقدمت نفسها كحكومة فلسطينية في المنفى.
“إذلال حقيقي”
بدأت حياة العرب والإسرائيليين تتقاطع بشدة، فكان عشرات الآلاف من الفلسطينيين يعبرون الخط الأخضر يومياً للعمل في مناطق إسرائيل، بينما خضعت مناطقهم للإدارة المدنية الإسرائيلية التي فرضت سيطرتها بقوة 1200 جندي. الظروف المعيشية كانت سيئة للغاية وانتشرت البطالة وتدنت الخدمات وتصاعد الشعور بالإذلال بين الفلسطينيين الذين اضطروا للاصطفاف يومياً بالمئات بانتظار مقاول إسرائيلي يختار القوي منهم للعمل في البناء فيما سماه أحد الصحفيين الإسرائيليين بـ “سوق اللحم”. كانت القوانين الإسرائيلية صارمة للغاية تجاه أي نشاط معادٍ لها مهما كان رمزياً، فكانت تحظر رسم الشعارات أو إنشاد الأغاني الوطنية أو رفع العلم الفلسطيني أو حتى رفع علامة النصر، وقد سجنت إسرائيل اعتماداً على هذه القوانين قرابة نصف مليون فلسطيني قبل وأثناء الانتفاضة[ii]. يحصل العمال على أجور أدنى لقاء العمل ذاته فيما لو قام به عامل إسرائيلي بينما يدفعون ضرائب أكثر، ويضطرون يومياً لانتظار رحمة الجندي الإسرائيلي على نقاط التفتيش التي تناثرت في كل مكان على أطراف القرى والمخيمات. كانت السياسة برمتها قائمة على إبقاء الفلسطيني معتمداً بشكل كامل على إسرائيل، حيث منعت البضائع الفلسطينية من دخول الأراضي الإسرائيلية بينما كانت 90 بالمئة من البضائع التي تدخل الضفة والقطاع من صناعة إسرائيلية. تصاعد الغضب الفلسطيني لسنوات طويلة، وتصاعد في مقابله القمع، ففي بداية الثمانينات أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي شارون سياسة القبضة الحديدية رداً على إلقاء الحجارة والقنابل الحارقة على الآليات الإسرائيلية، تمثلت بهدم المنازل واقتلاع الأشجار وفرض حظر التجول، ثم صعد إسحاق رابين من بعده هذه الممارسات وأتى بسياسات الحواجز والتفتيش والاعتقال والإبعاد. في هذه الأثناء تزايدت أعداد المستوطنين خصوصاً في الضفة، والتهمت المستوطنات في أوساط الثمانينيات أكثر من نصف مساحتها.
من جانبها كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحاول إدارة الصراع من بيروت بعد أن تم طردها من الأردن في 1970 على وقع أحداث أيلول الأسود، لكنها عانت بدورها من مجموعة من الهزائم العسكرية في الحرب الأهلية في لبنان إلى أن أجبرها احتلال إسرائيل للجنوب على المغادرة إلى تونس وأبعدها بذلك أكثر عن إدارة الصراع في الداخل.
ولادة نوع آخر من المقاومة
قبل الانتفاضة بسنوات، ظهرت أصوات عديدة تنادي بطرح حل بديل عن المقاومة المسلحة التي وصفها البعض بأنها لم تسهم إلا في تعزيز سطوة الإسرائيليين. كان فلسطينيو الداخل قد بدؤوا يفقدون الثقة في قدرة منظمة التحرير أو العرب على تحريرهم، واجتهد بعض المفكرين في تقييم نتائج الحل العسكري وطرح بعضهم التفاوض والتسوية مع إسرائيل كحلول بديلة، من أبرز هذه الأصوات كان فيصل الحسيني، أحد أهم المدافعين منذ نهاية الستينيات عن حل سلمي للنزاع مع إسرائيل والذي اعتبر الاحتلال مهيناً للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء. في 1985، أسس فيصل الحسيني والناشط الإسرائيلي جيديون سبيرو أول منظمة فلسطينية-إسرائيلية مشتركة ضد ممارسات الاحتلال العسكري باسم (لجنة مواجهة القبضة الحديدية).
في الثمانينيات سوق الفيلسوف الفلسطيني سري نسيبه لحل دولة واحدة جميع مواطنيها يتمتعون بحقوق متساوية، ودعا لاستبدال حق العودة بحق المواطنة[iii]. وفي عام 1983، أسس الأخصائي النفسي الفلسطيني مبارك عوض المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، وعمل لسنوات على توزيع آلاف المنشورات والدراسات حول المقاومة المدنية على الناشطين الفلسطينيين. نظم مركز دارسات اللاعنف حملات مشتركة مع الإسرائيليين وقام بتنظيم عدة نشاطات مقاومة سلمية في قرابة خمسين قرية ومخيماً في الضفة الغربية.
نداءات تاريخية: بداية العصيان المدني
مع انتشار أفكار المقاومة المدنية لسنوات طويلة مبارك عوض وفيصل الحسيني ونسيبه، باتت الفرصة متاحة أكثر للتفكير في إستراتيجية ستكون قائمة في جوهرها على قطع الصلة بالاحتلال. في ذلك الوقت قدر سري نسيبه أن الاحتلال الإسرائيلي حقق 5 بالمئة فقط من أهدافه باستخدام القوة، بينما حصل على الـ 95 بالمئة المتبقية نتيجة لخضوع الفلسطينيين لأوامر الحكومة الإسرائيلية[iv].
عند اندلاع الانتفاضة، شرع الناشطون بتوزيع سلسلة من النداءات (المنشورات) التي كانت سبباً مباشراً في توحيد الجهود وتنظيمها. انتشر النداء الأول بسرعة وكان يحمل توقيع “القوى الفلسطينية”، ثم تبعه نداء آخر بعد أيام يحمل الرقم (اثنين) بتوقيع “القيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة”، وجاء بمثابة الإعلان عن الاسم الجديد لقيادة الانتفاضة. بعد أسابيع، وزع نداء ثالث دعا لإيقاف عجلة الصناعة الإسرائيلية وكان موقعاً باسم القيادة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة. تميزت النداءات بخلوها من أي دعوات لتدمير إسرائيل أو قتل اليهود، بل على العكس طرحت إستراتيجية قائمة على تحقيق السلام من خلال التفاوض، وتأسست على مبادئ أساسية ثلاثة وهي قبول دولة إسرائيل في حدود ما قبل 1967، وخروج المحتل من المناطق الفلسطينية، وإنشاء دولة فلسطين.