Saturday 24 March 2012
«الشعبُ يريد» .. مفردةٌ عفوية قلبت موازيــــــــــــن السياسة
مفكرون وسياسيون لــ «البيان »: الجماهير استعادت الثقة المفقودة فخلقت واقعاً جديداً
الشعب «لم يك شيئاً مذكورا»، مثقل كاهله بأعباء الاقتصاد التي لم تعطه حتى قليل وقت ليفكر في السياسة المحرمة أيضاً بأوامر القبضة الأمنية الباطشة، والتي وصلت مرحلة عدّ الأنفاس، لتأتي ثورات الشعوب مفاجئة للجماهير نفسها قبل الأنظمة السياسية.أشعل البوعزيزي شرارة الثورات، لم يجد زين العابدين بن علي بداً من المنفى بعدما دارت عليه الدوائر، في أعقاب رفضه مطالب شعبه بالإصلاح حين ظنّ أنه قادر على تطويق التظاهرات.
حكاية مبارك في قومه كحكاية زين العابدين، «قال له قومه أن أصلح فأبى أن يكون من المصلحين»، أدركته غضبة الشعب الثائر وألبسته لقباً جديدا الرئيس المخلوع، كما لم يفتها أن تخلع عنه بريق السلطة بعد عقود، مصيرٌ لم يعظ معمر القذافي خرج عليه بني جلدته فتوعدهم بالثبور وعظائم الأمور، أمطرهم بصواريخ كتائبه، إلا أنها لم تغير الوجهة إلى مصير مغاير.
تواصلت ثورات الشعوب، الأمواج حاصرت هذه المرة علي عبد الله صالح، لم يعصمه من الغرق في ذات اليم إلا يابسة المبادرة الخليجية، بعد أن ضمنت انتقالاً سلمياً للسلطة من صالح لنائبه، وحققت للشعب مطالب رابط من أجلها في الساحات نحو عام. لكن يبقى القاسم المشترك بين شعوب الربيع العربي، أنها غيرت مجرى مفاهيم كثيرة وفرضت واقعاً مغايراً، احتلت فيه الجماهير موقعاً لم يدر بخلدها يوماً أن تنال هامشه، أمرٌ حتّم ربما على ممسكي دفة السياسة إعادة قراءة المشهد من جديد، فالأمس ليس كاليوم بعد أن استيقظ المارد من سباته العميق. دلف إلى حيز الوجود ما اصطلح عليه بــ «الربيع العربي».
لكن تساؤلات ما تنفك تلح على الإجابة. كيف قطعت «شعوب الربيع» مسافات من رصيف الهامش إلى محور صناعة الحدث؟استنطقت «البيان» أساتذة العلوم السياسية والمفكرين والمهتمين بالشأن، بشأن ما إذا كانت ثورات الربيع العربي قد أعادت رسما جديدا للعلاقة بين الشعب والسياسيين.
وتغير مفهوم الشارع من مجرد متفرج على الشأن السياسي إلى محوره، إذ أشار البعض إلى أن تغييراً كبيراً قد طال المفاهيم والأولويات أيضاً لمختلف أطراف المعادلة السياسية، فيما أكد آخرون أن التغيير في بنية الوعي يحتاج وقتاً طويلاً قد يصل سنوات، مشددين في الوقت ذاته على ضرورة إصلاح منظومتي الإعلام والتعليم، لما تلعبانه من دور محوري في تشكيل وعي الجماهير.
تونس: شعب الياسمين بين شخصيتي «ضابط الإيقاع» و«حطب الثورة»
تباينت آراء السياسيين والمفكرين التونسيين ومواقفهم بشأن دور شعب ثورة الياسمين في العملية السياسية حالياً، ففي وقت أشار بعضهم إلى أن «الشعب استطاع الانتقال من هامش العملية السياسية إلى محورها كضابط لإيقاع»، يرى آخرون أن الشعب «لا يعدو أن يكون حطب الثورة وأن فئات أخرى جنت قطاف الانتفاضات الشعبية تتصدرها البرجوازية.
وأن الثورات لم تحدث شيئاً أكثر من نقله من موقع الإهمال المطلق إلى الهامش».يؤكد القيادي في حركة «النهضة» الحاكمة عبد الحميد الجلاصي، أن «الشعب التونسي أصبح اليوم في قلب العملية السياسية بعد أن صنع الثورة واختار حكامه الجدد ويقظته لتحديد ملامح مستقبله ليقرر ما يراه صالحاً»، موضحاً أن «الشعب التونسي الذي استطاع التحرر من الديكتاتورية في ثورة بأقل الخسائر الممكنة، تمكن من نشر روح ثورته في العالم العربي، منتصراً لقيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية».في ذات الاتجاه يذهب المحامي التونسي والقيادي السابق في حركة «النهضة» عبدالفتاح مورو قائلاً:
«شعوب الربيع العربي استطاعت إحداث تحولات مهمة في بنية وعي السياسيين وتسطير مفاهيم جديدة للتعاطي مع السياسي، إذ يتجلى ذلك في إدراك السّاسة لتطلعات الجماهير وقدرتها على التغيير متى شاءت»، مشيراً إلى أن «من صنع الثورة يمكنه صنع التصحيح، عبر استبعاده النخب الحاكمة متى شاء عبر صناديق الاقتراع، إذ لم يعد بوسع الحاكم العربي التزوير أو ادعاء العصمة من الثورة، بعد أن أصبح الشعب مؤمنا بقدرته على التغيير، فضلاً عن أن الحاكم أضحى مقتنعاً بإمكانية تعرضه للإطاحة به في أي وقت».
قانون الاحتمالات
من جهته يخالف الأمين العام لحزب «الاتحاد الوطني الحر» خالد شوكات من سبقوه الرأي إذ يشير إلى أن «القول إن الشعب تحول من الهامش إلى المحور ليس له أي دلالات أو معاني، باعتبار أن آليات التمثيل الشعبي من برلمان ومجالس جهوية ومحلية وبلدية وغيرها تحتاج الوقت لتتمكن من إضفاء بعد شعبي على عملها.
وتأطير أكبر عدد ممكن من المواطنين»، لافتاً إلى أن «الديمقراطيات العريقة التي تصل فيها نسبة انخراط المواطنين في الأحزاب إلى ثلاثة في المئة، توصلنا إلى حقيقة أن تحديات الديمقراطية في البلدان الناشئة العربية ومنها تونس، تتجلى في أن المسافة الفاصلة الشعب عن مصدر القرار لم تتغير، ولن تفعل إلا عندما تترسخ منظومة قيم لا تحتاج نصوصا تشريعية وقانونية فقط.
بل تتعدى ذلك إلى توفر ثقافة عريقة تسندها، بالتالي يمكن اعتبار ما جرى تغيير نخب حاكمة مستبدة بنخب جديدة يفترض اتباعها الديمقراطية»، مضيفاً أن «توقع تأثير الشعب في النظام الجديد تظل أكبر مما كانت عليه سابقاً، غير أنها تخضع لقانون الاحتمالات».
حطب الثورة
ويذهب زعيم حزب «العمال الشيوعي التونسي» حمة الهمامي، إلى أنه «يرفض أن يكون الشعب مجرد «حطب» للثورة، في حين تحتوي حكومات أو لجان للثورة وتحدد مستقبل البلاد وفقا لمصالح أقليات محلية وأجنبية، مسيطرة على الدولة وعلى خيرات البلاد وثرواتها».ويختلف أستاذ الفلسفة ورئيس «تيار الغد» التونسي خليفة بن سالم الطرابلسي مع الرأي القائل بمحورية الشعب في الحياة السياسية، إذ يرى أن «الشعب تحوّل من حالة الإهمال المطلق إلى الهامش، وبالتالي لم بدخل بعد جوهر العملية السياسية، فكل الخطاب السياسي مفعم بعبارات الشعب ودوره.
وهو اعتراف ضمني أن الشعب خارج العملية السياسية، ولعل خير دليل على ذلك عجز الأحزاب السياسية عن اكتساب صفة الجماهيرية، خاصة حال مقارنتها بأحزاب وقوى حركات الاستقلال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي»، مشيراً إلى أن «الأحزاب والقوى المهيمنة على مشهد الربيع العربي تعد الجمهور بالماضي وتسوّق داخل النخبة وفي العلاقة بالآخر خطابا مستقبليا، لذلك لا أرى دوراً للجماهير في ظل هذا الواقع».
مصر:الثورة نفضت الغبار عن روح الشعــــــــــــــب وأعادت الشخصية المصرية
يؤكد مفكرون وأكاديميون وقادة رأي مصريون أن «ثورة 25 يناير في مصر نفضت الغبار عن روح الشعب وأفرزت إلى العلن الشخصية المصرية الحقيقية بعد عقود من الكبت المتعمد»، موضحين أن «انقلاب الشعب على شعور اللامبالاة ولّدت روح الثورة التي جعلت من الشعب المحرك الرئيسي للتطورات السياسية».
وفي تفسير للتحول الكبير في بنية الشخصية العربية، يؤكد أستاذ الطب النفسي أحمد عكاشة أن «روح الثورة التي أظهرها المصريون إبّان ثورتهم بعد عقود من الصمت المطبق، تولدت من الانقلاب على شعور اللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء، والذي كان يخنق الشخصية، نتيجة الشعور أن الوطن ليس ملكاً لهم قدر ما هو ملك النظام الحاكم، وأنهم لا يتعدون أن يكونوا مجرد اُناس يسكنون مصر مجردين من مختلف الحقوق سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، إذ كانت هذه المقدمات خير تمهيد لانطلاق روح الثورة».
ويضيف عكاشة أن «التغيير حدث عندما هبّ الشعب مطالباً بامتلاك زمام أمره، ليظهر إلى العلن الشخصية التي كبتها النظام زماناً طويلاً، ما يؤكد أن الشخصية المصرية قادرة على تحمل الفقر حال توفر العدل»، ويردف بالقول «لم يكن مستغرباً انتفاض الساحة السياسية في مصر بعد الثورة لسماع مطالب الشارع واحترام ثورته، بعد أن عانى الشارع التهميش على مدى عقود طويلة».
محرك رئيس
وفي سياق الانقلاب الذي طال بنية تفكير السياسيين والشارع على حد سواء يوضح المفكر والمحلل السياسي إكرام لمعي، أن «ثورة 25 يناير في مصر أعطت الشعب الشعور بالتمكين وجعلته المحرك الرئيسي للتطورات السياسية، إلا أن تزايد نسبة الأمية تجعل منه محركاً ضعيفًا قابلا للامتلاك من قبل النخبة»، مضيفاً أن «الديمقراطية تقوم وتستمر على أساس وعي الجماهير، الأمر الذي يفتقده المواطن المصري منذ السبعينيات»، مشدداً على «ضرورة التوعية بغية محافظة الشعب على ثورته وحمايتها من أي قوى تريد القفز عليها أو قطف ثمارها».
كما يشير إكرام إلى أن « مسؤولية كبيرة تقع على عاتق القوى الثورية التي تعمل في الشارع تتمثل في ضرورة إصلاح منظومتي الإعلام والتعليم لما تلعبانه من دور محوري في تشكيل وعي الجماهير».
مشروع نهضوي
من جهته يؤكد الكاتب الصحفي والمحلل السياسي مرسي عطاالله، أنه «لولا رغبة الشعوب في الإصلاح والتغيير والقضاء على الفساد، ما نجحت ثورات الربيع العربي»، مشدداً على ضرورة استغلال مؤسسات المجتمع المدني والقوى السياسية المناخ الذي أفرزته رياح الربيع العربي، بغية إنجاز مشروعها النهضوي، والملبي تطلعات الشعوب في حياة حرة كريمة تحت رايات العدالة الاجتماعية.
ويرى مرسي أن «التحدي الأكبر أمام شعوب الربيع العربي يكمن في كيفية الانتقال بشعارات الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية من حيز الشعارات إلى أرض الواقع، والارتقاء إلى مستوى الحلم في بناء قوة حقيقية للوطن من خلال الدفع بسياسات جديدة تعيد تصحيح الأمور تصحيحًا سليمًا، يلبي الأحلام والطموحات المشروعة للبسطاء».
اليمن: الربيع أزاح الرئيس وشبح التوريث وأبقى على هيمنة القوى التقليدية
يرى محللون سياسيون ومفكرون يمنيون أن «ثورة اليمن كانت محدودة التأثير على الانتقال إلى عصر الشعوب، إذ لم يفض الربيع العربي إلى تأسيس عصر جديد، رغم إزاحة الرئيس صالح وشبح توريث الحكم، مستدلين بأن صورة المشهد اليمني تبرز هيمنة الثقافة التقليدية وتصدر النخب التقليدية واجهة الفعل السياسي والحقوقي والمدني».
ويشير المحللون إلى أن «النقاشات الدائرة في الساحة اليمنية، سواء الفكرية أو الثقافية تلتقي حول أهمية الزخم الذي أحدثته الثورة الشعبية اليمنية، لاسيما لجهة خلخلة بنية النظام السياسي، لمن يرون أن تلك الخلخلة لم تصل إلى حد إحداث قطيعة سياسية وحقوقية ومدنية مع المعطيات التقليدية التي حكمت تصورات اليمنيين للعمل السياسي».
مشيرين إلى أن الثورة وعلى الرغم من إزاحتها الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم، وإفشال مخططات التوريث عليه وعائلته، إلا أنها لم تخرج اليمن ولا مراكز صنع القرار من هيمنة الدوائر التقليدية كالعشيرة والقبيلة والجهة والمنطقة، والجماعات الدينية والمؤسسات الأمنية والعسكرية.
ويرى متابعون للشأن اليمني أن «اختيار وتنصيب بعض الأطراف المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، والمتهمة في ارتكاب جرائم تعذيب، في مواقع قيادية ضمن التعيينات الأخيرة في المرحلة الجديدة، ومن ثم عدم إزاحة أخرين عن مواقعهم القيادية على رأس أجهزة مارست القمع والعنف خلال وقبل الاحتجاجات الأخيرة ، مؤشرات تدل على أن التسويات التقليدية والعرفية مازالت حاضرة بقوة في تشكيل ملامح اليمنية لما بعد الربيع اليمني، ما يجعل البلاد بعيدة عن ما يمكن تسميته بعصر الشعوب، بالمفهوم الذي انتجته التحولات السياسية والقانونية والحقوقية في الدول المتقدمة».
ويعزو البعض عدم تشكل شعوب من شأنها أخذ زمام المبادرة في الحياة السياسية، إلى أن هذه الشعوب «لم تثر من أجل صياغة رؤية حداثة للحقوق والحريات والممارسة السياسية، وفقاً للمرجعيات التي انبثقت منها في الدول المتقدمة، بقدر ما ثارت للتخلص من الظلم والفساد وهيمنة النخب على السلطة والثروة، وتفشي المحسوبية، ونهب المال العام والسطو على الأملاك العامة بطرق غير مشروعة.
فيما لا يزال النضال المتعلق بالحريات محصوراً بنخب ضيقة، إذ إن المؤسسات التعليمية ومؤسسات التغيير الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ماتزال محدودة الأثر ومرتبطة بأيديولوجيات تعبوية تنهل من مرجعيات سياسية وأيديولوجية تقليدية تجعلها موجهة لجماعات وعلاقات ضيقة مذهبية وطائفية، وجهوية ومناطقية وعشائرية، أسرية وقبلية.
فيما ارتباطها بالمحيط المجتمع الواسع يبقى محدودا». كما يشير المراقبون إلى أن «المحرك للزخم الشعبي ليس قدرة وفاعلية الطبقة الوسطى التي عادة ما يكون لها زمام المبادرة في التحولات الشعبية في المجتمعات المعاصرة، وإنما الفقر والتهميش والإقصاء وتضاؤل الفرص، وانسداد الأفاق الاقتصادية أمام السكان، خاصة الشباب الذين يشكلون في اليمن 50 في المئة ما دون الخمسة عشر عاماً، و60 في المئة لما دون العشرين».
مؤكدين أنه «من السابق لأوانه الحديث عن أن الشعوب العربية استعادت زمام المبادرة الشعبية، فبعد الربيع العربي ربما قد لا تظل الشعوب على صبرها المعهود عنها تجاه المظالم التي اعتاد الحكام على الإمعان في ممارستها دون اعتراض لأن هذه الشعوب اجتازت حاجز الخوف الذي ضرب عليه منذ أمد بعيد، لكن عندما يتعلق الأمر بالوعي الحقوقي والمدني والمواطنة، فإنها مازالت أسيرة للثقافة التقليدية المهيمنة، علاوة على أن البنى والمؤسسات التقليدية مازالت هي المهيمنة».
السودان: غضبة الشعوب العربية قلبت معادلة السياسة
أكد مفكرون وسياسيون وإعلاميون سودانيون، أن «غضبة الشوارع العربية لم تأت من فراغ بقدر ما كان لها مقدمات جعلت الثورات أمراً محتوماً ولازماً لا مفر منه، الأمر الذي جعل الشعوب تحتل موقع الفاعل بدلاً عن المفعول به في العملية السياسية».
ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم صفوت فانوس، أن «هناك الكثير من المتغيرات المهمة أدت لتحول الشعوب من الهامش إلى قلب العملية السياسية، مثل ارتفاع نسبة التعليم خاصة وسط الشباب، إذ إن فئة الشباب أصبحت تمثل نسبة كبيرة وسط الشعوب، ووجدت هذه الطبقة المتعلمة نفسها عاطلة عن العمل رغم ما تمتلكه من مؤهلات، إلى جانب تطلعها لموارد مادية يتيح لها تأمين حياة كريمة وأسرة أسوة بمثيلاتها في أنحاء العالم».
ويضيف فانوس أن «أدوات العولمة خاصة ثورة الاتصالات من فيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، جسرت الهوة بين هؤلاء الشباب في جميع أنحاء العالم»، مردفاً القول «أن هذا التطور لم يواكبه تطور من جانب الأنظمة السياسية في استيعاب هذه الحقائق الجديدة، ما أدى لانتفاض الشباب بمساعدة فئات أخرى من الشعب، بعد أن رأوا العالم يتغير من حولهم ويتطور فيما يقفون في أماكنهم، وأن الشعوب العربية استطاعت تسطير مفاهيم جديدة، بالتضحيات التي قدمتها، امرٌ أكسبها تعاطف العالم».
ويتفق مدير تحرير صحيفة «سودان فيشن» الناطقة بالإنجليزية معوض مصطفى راشد مع ما ذهب إليه فانوس، إذ يرى بدوره أن «ثورة المعلومات والاتصالات قرّبت المسافات وسهلت التواصل، إذ أصبحت متاحة حتى في ظل عدم وجود البنى التحتية الرئيسية، أمرٌ حوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى قاعات اجتماعات مشتركة بما يشبه بمؤتمر عبر الفيديو، ما جعل الهامش أكثر قربا من الاحداث في مركز القرار، وبالتالي أضحت تقريب وجهات النظر أو على الأقل التوصل إلى أرضية مشتركة لإحداث التغيير».
ويضيف معوض أن «واحدة من أهم أسباب التحول هو أن الأنظمة التي تم اسقاطها كانت على سدة الحكم عقوداً من الزمن دون إحداث الحد الأدنى من تحقيق الرفاه لشعوبها في حين أن تلك الشعوب ترى بأم عينها من خلال القنوات كيف تطورت أمم كثيرة ووصلت مرحلة الرفاه، وهي أقل من حيث مواردها وثرواتها، وهذا في حد ذاته مدعاة لأن يكون أبناء هذا الجيل مقتنعون تماماً أن المعضلة تتمثل في الانظمة الجاسمة فوق صدورهم».
في ذات المنحى يقول المدير العام لـ «المركز العالمي للدراسات الأفريقية عبد الله زكريا، أن «الشعوب استطاعت فرض رؤيتها وقلبت الطاولة على الأنظمة، كنتاج طبيعي لجمود الأنظمة وعقود الفساد والدكتاتوريات التي أدت إلى ازدياد تفشي الفقر والبطالة وانسداد أفق الحياة السياسية أمام الشباب خاصة المتعلم».
فلسطين: الثورات أحدثت انقلاباً في بنية الوعي السياسي في المنطقة
يرى محللون سياسيون ومفكرون فلسطينيون أن «ثورات الشعوب العربية أحدثت انقلاباً كبيراً في بنية الوعي السياسي في المنطقة»، مشيرين إلى أن «التحركات شكلّت سابقة في طرق تغيير الأنظمة السياسية، وأن السياسيين أصبحوا يضعون ألف حساب لأصوات الجماهير بعد أن صدمها هول المفاجأة».يؤكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة الدكتور إبراهيم أبراش، أن «تغييرا جذرياً دون شك طال مفهوم كلمة الشعب.
ونقلها من الهامش إلى محور العملية السياسية، إذ استطاعت الشعوب العربية إحداث التغيير، بعد قيامها بالحراك الشعبي الذي جاء بعد انغلاق أفق التغيير في الدول التي تسير في نظمها السياسية الحاكم على طريق الديمقراطية الشكلية».
ويمضي أبراش في القول، إن« التحرك العربي شكّل سابقة في طرق تغيير الحكم عن طريق الثورات»، مضيفاً « أن تغيير الأنظمة السياسية كان يتم منذ خمسينيات القرن الماضي وما أعقبها من عقود عن طريق الانقلابات العسكرية، إذ يسيطر الجيش على الحكم يتبعه الشعب، على خلاف ما أفرزته ثورات الربيع العربي من صورة تبدو معكوسة، بأخذ الشعوب زمام المبادرة في التغيير ليتبعها الجيش في آخر المطاف».
ويضيف أبراش أنه ودون أدنى شك «أصبح السياسيون يضعون ألف حساب لصوت الشعب بعد أن تجاهلوه حقباً طويلة، تستوي في ذلك البلدان التي حدثت فيها ثورة أو غيرها»، مشيراً إلى محاولات في بعض الدول التي لم تحدث فيها ثورات لسحب البساط من الجماهير خيفة التحرك الشعبي، فالأنظمة أصبحت تخشى الشعب أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط على مستوى الدول العربية بل على مستوى العالم بأسره.
حركة الشعوب
ومن وجهة نظر مُقاربة، تقول أمين عام حزب «فدا» الفلسطيني زهيرة كمال، إن «الأنظمة العربية تفاجأت بحركة الشعوب، وبدأت ووعت بعد فوات الأوان أنها تأخرت كثيراً في تحقيق مطالب الشعب بالإصلاح والتنمية والحرية»، مضيفة أن «ثورات الشعوب العربية تأخرت كثيراً»، وأنها بحاجة إلى «يقظة شعبية لتحقيق الأهداف التي من أجلها قامت، هناك شعوب تعتقد أن مجرد تغيير رأس النظام تحقيق لمطالبها».
وتؤكد كمال أن «السياسيين يخشون صوت الشعب إذا توحد»، مشيرة إلى خطر محاولات تفتيت «صوت الشعب»، وأن «ما حدث في مصر مؤخراً من مطالب العصيان المدني لم تجد قبولا، ما أدى إلى التفتت والتشرذم في المواقف»، مشددة في الوقت ذاته على ضرورة تحديد أهداف مرحلية لتحقيق إنجازات، مع ضرورة وحدة الموقف والحذر من أي اختراقات محتملة.
مخاطر إجهاض
من جهته يرى المحلل السياسي ورئيس تحرير مجلة «كنعان» عادل سمارة، أن«ما حدث في البلدان العربية حتى الآن يمثل مقدمات لحضور شعبي فاعل وأدوات لتحقيق الحرية والعدالة»، محذرا في الوقت ذاته من «خطورة إجهاض الحضور الشعبي من قبل الطبقات الحاكمة المُزاحة عن الحكم، إلى جانب مخاطر الهيمنة الأميركية وقدرة الغرب على اختراق بنية المثقفين العرب لصالحه، على سبيل المثال ما يحدث في مصر الآن من عدم استقرار هو محاولات التفاف على الثورة فمن قام بالثورة شباب متحمسون، لكن ربما ليس لديهم رؤية واضحة وأفق بعيد».
تغيير الوعي
يؤكد أبراش أن «تغيير الوعي السياسي في البلدان التي اجتاحتها الثورات يحتاج وقتاً قد يصل إلى عدة سنوات، والدليل على ذلك ما يحدث في بلدان مثل مصر وليبيا، فلم يتحقق شيء سوى إسقاط رأس النظام الحاكم وإلغاء التوريث، وتحديد فترة حكم الرئيس بفترتين، أما على المستوى الاقتصادي فما يزال الوضع متدهوراً، إذ لم تنعم البلدان التي شهدت ثورات عربية حتى اللحظة باستقرار ورخاء اقتصادي».
الثورة السورية: من الحذر إلى فائض الجرأة
في مطلع أبريل من العام الماضي، لم تكن الثورة السورية وصلت إلى ذروة مطالبها الراديكالية في التغيير، فشعار إسقاط النظام لم يكن متداولاً بعد، وحاجز الخوف لم يكن قد انهار بالكامل.
كان بقاء المطالب في إطار «إصلاح النظام» سيفقد مصطلح «الشعب يريد» من الأنياب الثورية. من هنا تدرجت المطالب في الثورة السورية، حيث صياغة شعار الثورة الأولى التي تضمنت مصطلح «الشعب يريد» خرج من حمص عندما تظاهر المئات في مطلع أبريل الماضي وهم يهتفون :«الشعب يريد إسقاط المحافظ». لكن الشعار كان ناقصاً وغير حقيقي، فبينما كان المحتجون يرددون هذا الهتاف كانت بجوارهم مجموعة أخرى تقوم بتحطيم صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد. يومها خرجت العديد من النكت الحمصية عن تلك التظاهرة، قائلين إنهم كانوا «يمزحون» بعد أن استجاب الرئيس السوري لمطلبهم وأصدر قراراً بتغيير المحافظ وتعيين آخر.
الشعب السوري الذي ثار ضد نظام أجبره على الهتاف والضحك والتحول في بعض اللحظات إلى «مهرّجين» رغماً عنهم، تنفس الحرية وإن لم ينلها حتى الآن، وحاله كانت أشبه بمن غطس في البحر لفترة طويلة ثم وجد الطريق إلى السطح قبل أن يختنق. الشعب يريد الرئيس، أم يريد إسقاط الرئيس والنظام؟ مرحلة انتقلت فيها الثورة إلى فائض من الجرأة..
شعر أن «الشعب يريد إسقاط النظام» ليس كافياً، فهتف «الشعب يريد إعدام الرئيس». هذا التعطش ليس مفاجئاً بالنسبة إلى السوريين، فهم مع أول شعار من متلازمة الربيع العربي، «الشعب يريد»، تقيؤوا سنوات طويلة وقاسية ومظلمة جداً من وجبات العبودية التي ذاقوها من مآدب الدكتاتوريات التي تعاقبت على سوريا، بدءاً من عراب الوحدة المجهضة جمال عبدالناصر عبر ذراعه الأمنية «الشعبة الثانية» وليس انتهاء بالإذلال العميق الذي شعر به السوريون غداة سقوط الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وسقوط مشروع التوريث في مصر.. طأطأ السوريون برؤوسهم ليلة سقوط مبارك.. ثم رفعوها في 15 مارس 2011 التي دشنت لـ«الشعب يريد إسقاط النظام».