من الحالات المألوفه في بغداد في النصف الاول وجزء من النصف الثاني من القرن العشرين ان تشاهد البائعه المتجولين منهم من يحمل بضاعته على رأسه ومنهم في عربه ومنهم من يفترش الارض واخرين يضعون بضاعتهم على الحيوانات وتكون البضاعه غالبا حسب المواسم التي تتاح فيها ومنه الباعة المتجولين الذين يحملون بضاعتهم على رؤوسهم ومنهم بائعي الطرشي ( شلغم احمر وخيار )..
وبائع التكي الاحمر والابيض وبائع التين الوزيري وبائع الخبز او السميط او النبق او الزعرور وهو موضوع قصتنا مع الباشا المرحوم نوري السعيد وللزعرور مثل يقوله اهل بغداد (زعرور كساح الخيرات) والسبب في انه كساح الخيرات لانه ينضج في وقت لاتوجد فيه اي منتجات زراعيه اخرى اي وقت شحة المنتجات لانها خارج مواسمها ولذلك كانوا يكنون الشخص الذي يكون حضوره شؤم بهذا المثل والزعرور نوعان الاحمر والاصفر وهو من المحاصيل الخريفيه الجبليه ويكثر في مجن كوردستان العراق ..
كانت حياة الماضي ايام زمان حياة بسيطة مستقرة بعيدة عن التعقيد والاستغلال والطمع والجشع ، فرغم صعوبة الظروف الاقتصادية وقلة المال لكن الكل قانع برزقه الحلال الذي ياتي من عرق الجبين ، من أبسط مواطن صعوداً حتى رجال الحكم الكبار ، بعكس حياة الحاضر التي أتسمت بالتغييرات السريعة في نواحي الحياة تبعتها تغييرات في المنظومة الاجتماعيه والاخلاقية غلب عليها الطابع المادي البحت.
كان موظفي الدولة الكبار ورجال الحكم ايام زمان يعيشون على رواتبهم الشهرية المتواضعة ، فهم لا يملكون العقارات والقصور والسيارات الفارهة ، فرئيس الوزراء نوري سعيد والبعض من وزرائه كانوا يشترون الخضراوات والفواكه في اواخر الشهرمن البقال (كنو) في منطقة باب الأغا بالدين و يقومون بتسديد الديون عند تسلمهم الرواتب في نهاية الشهر.
وبهذا الصدد انقل لكم روايه من احد كبار السن حكاية واقعية طريفة عن الباشا نوري سعيد ومفادها:
يقول كنا نسكن ايام الحكم الملكي في منطقة كرادة مريم في بغداد وفي زقاق قريب من دارالمرحوم رئيس الوزراء نوري سعيد ، وذات يوم وانا صبي ارتدي الدشداشة البغدادية مررت من امام دار الباشا فشاهدته يرش حديقة داره بخرطوم الماء ، وعندما لمحني نادى علي وهو يعرفني باني من أبناء المنطقة وطلب مني ان انادي على بائع الزعرور الذي كان بعيداً ينادي باعلى صوته (زعرور- زعرور)
فاسرعت راكضاً اليه واخبرته بان الباشا قد طلبك ، وبدأت علامات الخوف والارتباك على وجه بائع الزعرور الذي كان يعتمر الجراوية ويرتدي الزي البغدادي التقليدي وهو يحمل على راسه طبق (طبك) الزعرور وبيده الميزان ، ظناً منه بانه قد ارتكب خطأ بالمناداة بصوت عال وهو يمر من زقاق دار الباشا نوري سعيد وقد يكون صوته قد أزعجه وايقظه من نوم الظهر ، هذه الافكار جعلته يتعثر في سيره حتى وصلنا الدار وسلم بائع الزعرور بارتباك على الباشا الذي كان واقفاً في باب داره وهو يرتدي البجاما والروب وطلب منه ان يزن له كيلوين زعرور لان نوري سعيد كان يحب اكل الزعرور.
ويضيف الراوي قائلاً:
بقيت أنا وقفاً بجانب بائع الزعرور وهو يزن بضاعته وسمعت الباشا نوري سعيد ينادي على زوجته (ام صباح) ان تجلب له (250) فلساً قيمة الزعرور فاجابته بصوت عال :
ابو صباح (هو شبقى من راتبك غير 150 فلساً وبعد اسبوع يالله تاخذ الراتب) فجلبتها له واعطى 150 فلساً الى بائع الزعرور ووعده بـ 100 فلس غداً الا ان بائع الزعرور ترجى من الباشا بمساعدته في حل مشكلة حلت به . والتي اوجزها له واطلع عليها الباشا حيث جلب ورقة كتب عليها واعطاها لبائع الزعرور وطلب منه مراجعته في مكتبه غداً واعطي هذه الورقة لموظفي المكتب ليسهلوا عليك الامر وقال له الباشا :
ستأتي غداً وساعطيك المبلغ ( 100 فلس) المتبقي بذمتي عن ثمن الزعرور وساحل مشكلتك. ثم التفت الباشا علي وقدم لي حفنة من الزعرور بكف يده وشكرته وغادرت......
هكذا كان رجال العراق عفيفي النفس لاتمتد يدهم الى المال العام وكان بامكانهم ذلك ولكن تمنعهم تربيتهم واخلاقهم ووطنيتهم واعتبارات كثيره من اجتماعيه ومنها دينيه ومنها تربويه .. واذا ما قسنا الامور بحالنا اليوم نجد العجب العجاب والمال العام اصبح وسيله للثراء والسرقه والانتفاع .. مع الاسف الشديد ضاعت كل المبادىء والاخلاق مع ذهاب رجال الزمن الجميل ...
الموضوع منقول