النتائج 1 إلى 1 من 1
الموضوع:

قصة العشق بين علاء الدين وسيدة الملك

الزوار من محركات البحث: 333 المشاهدات : 1478 الردود: 0
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من أهل الدار
    الحلفي
    تاريخ التسجيل: July-2013
    الدولة: البصرة/الزبير/منطقة الشعيبة
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 1,928 المواضيع: 603
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 1
    التقييم: 641
    مزاجي: هادئ
    المهنة: عصائب أهل الحق
    أكلتي المفضلة: السمك
    موبايلي: كالاكسي
    آخر نشاط: 11/November/2022
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى أكرم
    مقالات المدونة: 14

    8 قصة العشق بين علاء الدين وسيدة الملك



    أليكم أعزائي هذه القصة التاريخية التي حدثت وقائعها أواخر حكم الدولة الفاطمية وبداية الدولة الأيوبية في مصر وهي قصة طويلة جدآ بين سيدة الملك أخت الخليفة الفاطمي ( العاضد ) وبين الفارس ( علاء الدين ) أفضل قائد لصلاح الدين الأيوبي ..
    نشرت هذه القصة في بداية الفصل الدراسي الثاني وذلك للترويح عن الطالب الذي يجد تعب من قراءته المملة , وكذلك يستطيع التمتع بالقصة في وقت فراغه ليستعيد نشاطه في قراءة درسه .
    المصدر : كتاب سلسلة روايات تاريخ الأسلام / صلاح الدين الأيوبي تأليف جرجي زيدان . أبو الحسن والحشاشون : تركنا الخليفة العاضد في قاعة الذهب، بعد خروج نجم الدين وابنه، ولم يبق معه إلاأبو الحسن. فلما خرج الكرديان أمر الحاجب أن يأتي بصاحب اللباس لينزع عنه ثيابهوحلاه لأنه في حاجة إلى الراحة وألا يأذن لأحد في الدخول. فأتى صاحب اللباس وأخذفي نزع العمامة وما عليها من الجواهر ووضع كل قطعة في علبة خاصة بها وجاءتالوصائف يحملن الثوب الآخر ليلبسه الخليفة وقد تغريت سحنته وانقبضت اساريرهواحمرت عيناه وشعر ببرد طقطقت له اسنانه واصطكت ركبتاه حتى لم يعد يستطيعالوقوف. فبادر أبو الحسن إليه فأسنده وبالغ في التخفيف عنه. ولكنه حاملا ملس يدأحس بحرارتها، فعلم أن الخليفة مصاب بالحمى لكنه لم يشأ أن يخوفه.وملا فرغ الخليفة من تبديل الثياب، ألقى نفسه على السرير وقد أحس بانحطاطعزيمته. فقال أبو الحسن: «بماذا تشعر مولاي أمري املؤمنني».قال: «أشعر بارتعاد مفاصلي وببرد يتمشى في ظهري
    لا أظنه إلا من عواقب الكظموتحمل الضيم، آه يا أبا الحسن». قال ذلك بصوت مختنق وترقرق الدمع في عينيه.فبادر أبو الحسن إلى التهوين عليه فقال: «لكل أجل كتاب يا مولاي. ولابد من زوالهذه الأزمة».فقال وهو يلهث من شدة الحمى: «شعرت بهذه القشعريرة منذ ركبت في هذااملوكب مللاقاة هذا الكردي. آه كيف أقوى على احتمالهم وقد سلبوني ما في يدي منسيادة وثروة؟ وأنا مع ذلك لا أقدر إلا أن أجاملهم وألاطفهم وأرحب بهم».فمشط أبو الحسن لحيته بأنامله ثم قبض عليها وهو يتمتم كأنه يدعو أو يصليويظهر التقوى وسعة الصدر وقال: «لابد من الصبر يا مولاي ولاشك أن الله سامعدعاءنا. فإني أصلي ليل نهار وأطلب إليه تعالى أن ينصفك من هؤلاء الظالمين».وكان أبو الحسن صفراوي المزاج ، لا يبدو في سحنته شيء من التأثرات مهمايبلغ من تأثريها في قلبه. أو لعل قلبه لا يتأثر إلا مما يريده، أو هو قادر على التظاهرً عن تأثر قلبي. فلما سمعبما يشاء من غضب أو فرح أو حزن بغري أن يكون ذلك ناتجاقول الخليفة تنحنح وأظهر الاهتمام وقال: «لا أزال أقول اصبر. اتكل علي فإني باذلنفسي في سبيل هذا الأمر وهو يهمني كما يهمك. أليست الدولة دولتنا والشيعة شيعتناوفي حياتها حياتنا وفي موتها موتنا. ثق أني فاعل ما تريد، ولولا خوفي من أن أثقلعليك لذكرت لك التفاصيل. لكنك الآن في حاجة إلى الراحة فامض إلى فراشك إذا شئت.وسأقص الخبر على الشريف الجليس وهو يقصه على مولاي».وحالما صار العاضد في تلك الدار أنزلوه ، فمشى وهو يتوكأ على بعضالغلمان وهم يظنونه يطلب الذهاب إلى حجرة إحدى نسائه. فإذا هو يشير إليهمأن يأخذوه إلى حجرة أخته سيدة امللك، وكانت عاقلة حازمة يرتاح العاضد لحديثهاويستأنس بآرائها. كأنه وهو في تلك الحال أحس بحاجته إلى رأيها.
    وكانت سيدة الملك جميلة الخلقة طويلة القامة صبوحة الوجه ذهبية الشعرجذابة المنظر إذا نظرت في وجهها شعرت بهيبة تنجلي في عينيها. وهي أكبر من أخيهاالخليفة ببضع سنين إذ أنها في الخامسة والعشرين من العمر.
    فتنهد وهو ملق رأسه على كتفها، وحول عينيه نحو وجهها وقال: «لم أجد بنيرجالي من يسعفني في هذا الأمر إلا ابن عمنا أبو الحسن فإنه تقي غيور. وقد أكد لي أنهباذل جهده في هذا السبيل».فلما سمعت اسم أبي الحسن أجفلت وكادت البغتة تظهر في وجهها لو لم تبادر إلىالتجلد. ولو انتبه العاضد وهو مستلق على صدرها لشعر بتسارع ضربات قلبها حاملاسمعت ذلك الاسم. لكنه تطرق شاغل من أمر نفسه. أما هي فتجلدت وقالت: «كيف أكدلك ذلك؟»
    قال: «أكده لي اليوم وسيذكر تفصيله للشريف الجليس وهو يقصه علينا متى جاءبعد قليل».قالت: «هل تصدق هذا الرجل؟». وبان الكدر في عينيها.قال: «كيف لا أصدقه. إنه رجل محب مخلص ومن ذوي قرابتنا وأنت تعلمني غريتهعلى دولتنا».فهزت رأسها وسكتت، ولسان حالها يقول: «إنه منافق».
    قال الجليس وهو يخفض صوته ويتطاول بعنقه كأنه يحاذر أن يسمعه أحد: «يرى أبوالحسن يا مولاي أن العقدة التي يطلب حلها إنما هي يوسف صلاح الدين هذا. فإذاذهب تخلصنا من كل هذه الشرور.. وأبو الحسن يسعى في إنقاذنا منه».فقال العاضد: «وكيف ينقذنا؟»فأشار الجليس بكفه على عنقه إشارة الذبح يعني أنه يقتله. فبان الاستغراب فيوجه الخليفة وقال: «من يقتله؟ ليس في مصر كلها من يجسر أن يمد يده إليه».
    فالتفت الخليفة إلى أخته يلتمس مشاركتها في الإعجاب. فرآها مطرقة تفكرفقال لها: «أرأيت اهتمام هذا الشريف بمصلحتنا؟»
    ولحظت سيدة امللك أن أخاها أوشك أن يقبل وظهر لها من خلال حديثه أنه راضً أن يزوجها به وهي لا تقدر أن تتصوره بل هي تكرهه فإنها تتصور فيه الخبث والخيانة، ثم هي منصفة لا ترى صلاح الدينيستحق القتل لأنه لم يعمل عملاً يستوجب ذلك، فنظرت إلى أخيها وقالت: «تريد أن تقتل صلاح الدينوتستبدل به أبا الحسن هذا؟»
    قالت: «دعنا من هذا املوضوع الآن، لأن في تذكره ما يؤملني ويؤملك، وأنت أحوجإلى الراحة والسكينة». وتشاغلت بإصلاح نقابها على رأسها، فجس العاضد يده وقال:«إني في خري ولا بأس بي وقد زالت الحمى والحمد هلل. قولي ما هو السبب الآخر». فمدتيدها إلى جيبها واستخرجت خصلة من الشعر ذهبية من لون شعرها ودفعتها إليه وهيتقول: «هل تعرف هذا الشعر؟»فأجفل وقال: «هو شعرك. هذه هي الخصلة التي قطعتها من شعرك وأرسلتهافي جملة شعور نسائي إلى صاحب دمشق. من أين أتتك؟ وكيف وصلت إليك؟». قالت:«وصلت إلي في ذلك اليوم الذي نشبت فيه الحرب بني عبيدنا ورجال صلاح الدين!» قال:«وكيف ذلك؟» قالت: «قد ذكرت أنت الآن أن صلاح الدين منع رجاله من إرسال قواريرالنفط قبل أن ينطلق منها شيء على القصر. قد يكون هذا الواقع، لكنني أعلم أننا ونحنً والسهام تترامى علينا من رجال صلاح الدين رأيتفي هذا القصر وقلوبنا ترتجف هلعاقارورة مشتعلة وقعت في الدار قرب حجرتي هذه لا أدري من أين أتت، فذعرت وصحتً بالخدم أن يتلافوا خطرها فلم يسمعني أحد لاشتغال الرجال برمي النشاب بعيدا عني .
    وبينما أنا في ذلك وأهل القصر كل منهم في شاغل من نفسه، إذ رأيت رجلاً متنكراالخصيان قد غطى وجهه باللثام وثب من داخل الدار لا أدري كيف دخلها. فذعرتولكنني ظننته أسرع إلى نجدتي فما عتمت أن رأيته أمسك بيدي وجذبني إليه كأنهيريد أن اتبعه فتخلصت منه، فعاد وأمسكنى ثانية وجذبني اليه كأنه يريد أن يحملنيويطري بي. ولم يكن في هذه الغرفة أحد يراني فصحت واستغثت فلم يسمع صوتي لأنالضوضاء كانت قد ملأت هذا الفضاء، ثم جاء رجل آخر أعان الأول على اجتذابي وهمايشريان إلي أن أتبعهما، وهددني أحدهما بخنجر استله من منطقته فأثر في ذلك املنظروخارت قواي. وكدت أغلب على أمري وقد ذهب نقابي وانحل شعري. وإني لفي ذلك إذً وثب نحوي يظهر من لباسه أنه من رجال صلاح الدين فأيقنت أنه سيعنيرأيت شاباذينك الرجلني علي، وإذا به صاح بهما صيحة الجبارين وخنجره مسلول في يده وأوشكً كالأسد ونظر إليأن يقتلهما، فلما رأياه خافا وتركاني وعمدا إلى الفرار. وظل هو واقفابلطف وقال: «من هم أولئك الأنذال؟»قلت: «لا أعلم. ومن أنت وما تريد مني؟»
    فقال: «لا تخافي يا سيدتي إني من رجال صلاح الدين املحاصرين لهذا القصر،ورأيت ذينك الرجلني يعذبانك وحاملا رأيت شعرك الذهبي علمت أنك من نساء الخليفةفبادرت إلى إنقاذك وأحمد الله أني قد فزت».ً علينا وإنمافسألته: «هل يخشى علينا من الاحتراق». فأكد لي أنهم لم يلقوا نفطاكان ذلك من بعض اللصوص رموا النفط من جهة أخرى لغرض لهم. ولعلهم أرادوا أنيشغلوا الناس بالنار ويختطفوك».وملا وصلت سيدة امللك إلى هذه العبارة تغريت سحنتها وتوردت وجنتاها وبلعتريقها وهي تلهث من التأثر.وكان الخليفة والجليس يسمعان كلامها ويراعيان الحماسة التي كانت تتجلى فيمحياها، ولحظا التغري الذي طرأ عليها عند ذكر ذلك الشاب ولم ينتبها ملا يخالج قلبهامن جهته. فلما سكتت قال العاضد: «من هو هذا الشاب وكيف عرف أنك من نساءالخليفة؟ إنه لأمر غريب كيف يعرفك شاب غريب وأنت لا تخرجني إلا محتجبة؟ وهومع ذلك من رجال صلاح الدين. قولي الحق».ً: «إنك تتهمني يا أمري املؤمنني. ولا مكان للريب. قدقالت وهي تنظر إليه شزراسألت الشاب كيف عرفني فمد يده إلى جيبه واستخرج هذه الخصلة ودفعها إلي وقال:(أليست هذه من شعرك) وأدناها من شعر رأسي فإذا هما بلون واحد».
    فابتدرها الخليفة قائلاً: «مس شعرك بيده؟»قالت: «لم يمسه ولكنه أدناها من شعري. إنه شاب غري متهم وأنا مدينة له بحياتيوشرفي ولولاه لذهبت فريسة ذينك الخائنني».قال: «ألم تعرفي من هما؟»ً، ولكنني كدت أعرف أحدهما».قالت: «لم أعرفهما يقيناقال: «من هو؟». قالت: «لا أقول. لأني أخاف أن يخطئ ظني فأجلب الأذى لرجلبرئ. ولولا ذلك لأطلعتك على هذا الحادث من ذلك اليوم وقد مضى عليه الآن أكثر منسنة، ولم أذكره لك لئلا ألقي الشك في خاطرك».فصاح العاضد وقد امتقع لونه من شدة الغضب: «ملاذا لم تخبريني حتى الآن.أيصيبك مثل هذا الأمر وتكتميه طول هذه املدة؟ من تجاسر على هذا العمل؟ من تظننيذلك الرجل؟ قولي».قالت: «لا تغضب يا أخي. إني لم أقل ولا أقول الآن خوف الوقيعة بالأبرياء وقدنجوت والحمد هلل. ولكنني قصرت في حق ذلك الشهم الذي أنقدني». قالت ذلك وأبرقتً. لكنه لم يفقه ذلكً سريعاعيناها، ولو تفحإلى ذلك الكردي بقدر ما يهمنا معرفة الرجل املتنكر الذي أراد اختطاف مولاتي سيدةامللك. من يجسر على ذلك؟»فالتفت العاضد إلى أخته وقال: «قولي. قولي من تتهمني؟ من هو ذلك النذل الذيتجاسر على دخول قصري وخرق حرمتي؟» قال ذلك وهو يلهث وقد احمرت عيناهوأرجع الخصلة إليها ورجع إلى مقعده وقد أحس بانحلال قواه.فتقدمت أخته نحوه وأخذت تخفف عنه وتمسح جبينه وتقول له: «لا تغضب ياأخي. اسمح لي ألا أذكر اسم الرجل الذي أتهمه لأني اتهمته بالظن وبعض الظن إثم.وأنا واثقة أن هذه التهمة مهما تكن ضعيفة فهي تكفي لإيقاع الأذى بصاحبها. فحرامعلي أن أعرض نفسها للهلاك».قال: «وحياة رأسي ألا قلت من هو ذلك الخائن وأعدك ألا أسارع إلى الانتقام إلا بعدالتبصر».فأطرقت وهي تصلح نقابها على رأسها، ثم جعلت تلاعب خصلة الشعر بني أناملهاوأخوها شاخص فيها ينتظر نطقها، فلما استبطأ جوابها قال: «ما بالك لا تقولني؟».قالت: «باهلل دعني. سأقول لك ذلك بعد الآن، دعني أفكر قليلاً..»
    وفي الصباح التالي بكر الجليس إلى أبي الحسن في دار الأضياف قبل أن يطلبهالخليفة ملجالسته. وكان أبو الحسن في انتظاره على مثل الجمر لكنه حاملا جاءه الغلامينبئه بمجيئه نهض لاستقباله ورحب به وأظهر أنه لم يكن يتوقع مجيئه واهتمامه إلىهذا الحد فابتدره بالسؤال عن صحة الخليفة فقال: «فارقته مساء أمس أحسن حالاً».قال: «أرجو أن يكون العارض قد زال بحول الله بزوال السبب»
    ما كاد أبو الحسن يخلو بنفسه حتى رفس الأرض برجله من الغضب، وقد أخذ الحنقً وتمشى في الغرفة. ويداه متعانقتان وراء ظهره وهو يعمل فكرته،ً عظيمامنه مأخذاً بالنحنحة أو السعال أو بحك ذقنه أو يصلح عمامته. ثم وقف وقالويتشاغل حينايخاطب نفسه: «رفض العاضد أن أكون ولي العهد بعده. لكنه سرياني خليفة. وأما تلكامللعونة أخته فإنها مازالت ترفض الزواج بي وإن رفضها هذا لأشد وطأة على نفسي منرفض الخليفة، لكنها ستندم وتعود صاغرة متى رأت ما يبلغ من كيدي. سوف تأتينيً بها وأني أريد التزوج بها عن شغف بجمالها.صاغرة باكية. وأظنها تحسبني مغرماً. إن حب النساءلست ممن يتعلقون بهذه الأوهام. ليس في قلبي حب لأحد. لا أحب أحدامن الأوهام الباطلة التي تصرف الرجل عن املطالب العالية. إني أطلب ما يقصر عنهً لها ولا لأخيها. سأقتلهأخوها الخليفة نفسه. سأقتل صلاح الدين ولكن ليس إكراماليخلو لي الجو. سأقتله وأقتل العاضد وأقتل كل من يقف في سبيل وصولي إلى الخلافة.إنها حق لي». قال ذلك وكاد صوته يرتفع من عظم التأثر فانتبه لنفسه وسكت.ثم مشى إلى غرفة داخلية أقفل بابها وراءه وقال وهو يشري بيده إشارة التهديد:«أما تلك الخائنة فسأذيقها مر العذاب. سأجعلها تندم ولات ساعة مندم».

    فلما فرغت سيدة امللك من تبديل الثياب قعدت على سريرها وقد حلت شعرهاالذهبي وأرسلته ضفرية واحدة إلى ظهرها وتنفست الصعداء وأطرقت، ولحظت ياقوتةفي عيني سيدتها ما يشبه الدمع فترامت على قدميها وأخذت تقبل ركبتيها وتقول: «مابالك سيدتي، ملاذا تبكني؟». وأظهرت أنها لم تكن مطلعة على شيء.فرفعت سيدة امللك عينيها إليها وبان الدمع فيهما وتنهدت ثانية وقالت: «تسأليننيً، وإنما الغريب ألايا ياقوتة عن سبب بكائي، وتستغربني حزني؟ ليس حزني غريباأقضي يومي باكية نادبة!». قالت ذلك وغصت بريقها.فشاركتها ياقوتة البكاء لكنها أظهرت التجلد وقالت: «ماذا يجري يا سيدتي هلجرى شيء جديد؟»قالت: «ألا يكفي ما جرى مما تعلمينه؟ أنت عاقلة لا يخفى عليك شيء وتعلمنيحالنا مع هؤلاء الأكراد واستبدادهم في الدولة. وهذا أخي جاءني اليوم وقد أصابتهالحمى من شدة الغيظ ملا صارت إليه الخلافة، فكيف لا أبكي؟»

    فوثبت سيدة امللك من السرير وقد تغريت سحنتها وغلب عليها الغضب وقالت:ً لي. وإذا كان لابد منه فلا يهمني أن يكون ذلك الزوج من النسب«ليس الزواج ضرورياً وامتقع لونها ثم احمرت وجنتاها فجأة وبانً عميقاالعلوي». قالت ذلك وتنهدت تنهداالحياء في عينيها فحولت وجهها عن ياقوتة وغطت عينيها بكفيها. فاستغربت ياقوتةحركاتها وأدركت أن ذلك لا يبدو إلا من فتاة عالقة القلب برجل يمنعها الحياء منذكره، فغريت لهجتها في الحديث وضمتها إلى صدرها وقبلتها بني عينيها وقالت: «فهمتً لم أكن أعرفه من قبل أنت عالقة القلب برجل آخر».الآن شيئافنفرت سيدة امللك من هذا التعبري الصريح وتراجعت وهي مازالت مطرقة وظلتساكتة فتبعتها ياقوتة وهي تقول: «لعلي بالغت في التصريح فوقعت عبارتي ثقيلة علىسمعك. لكنني أرجو أن تصدقيني الخبر. فأنا معك كل يوم وكل ساعة لا أفارقك ولايدخل علينا أحد من الرجال غري أخيك وبعض الأطفال من أبنائه وأبناء عمك فيبعد أنتكوني عالقة بأحد، لكني أرى دلائل الحب في عينيك».
    فوقعت ياقوتة في حرية ولم تقهم حقيقة مرادها أو لعلها أدركت قصدها وتجاهلتلتسمع زيادة، ثم قالت: «لم أفهم يا سيدتي مرادك. من هو الرجل الذي وقع من نفسكهذا املوقع لابد أن يكون نادرة الزمان».ً. قد رأيته في هذه الدار كما رأيته. وشهدت أنت نفسكقالت: «إنك تعرفينه جيداً، رأيته وبيده خصلة الشعرً ولا أكبر همة ولا أعز نفساأنك لا تعرفني أشرف منه خلقاالتي كان أخي قد بعث بها إلى صاحب دمشق يستغيث به باسم نساء قصره. إن أخيارتكب بذلك ذلاً لم يمحه إلا هذا، فرد شعري بعد أن أنقذ حياتي من املوت ونجى شرفيمن الدنس».فصاحت ياقوتة: «أظنك تعرفني الشاب الكردي».فابتدرتها بلهفة وقالت: «نعم إياه اعني. اعني ذلك الشهم الباسل!» قالت ذلك وقدعاد إليها نشاطها وتحمست وبان الاهتمام في عينيها.فتقدمت ياقوتة إليها وهي تبتسم وقد شاركتها ذلك الشعور وقالت: «الآن فهمتً ولا أنسى ذلك اليوم».
    قد عرفت الشاب جيدافقالت سيدة امللك: «هل عرفت اسمه؟». فأطرقت الحاضنة وأعملت فكرتها كأنهاتراجع ذاكرتها ثم قالت: «نعم علمت اسمه، ولكن هل تعلمني أنت من هو وما هي علاقتهبصلاح الدين عدونا الألد الذي يشكو أخوك أمري املؤمنني ظلمه؟». قالت: «لا. لا أعلم».قالت: «إنه من رجال خاصته، لا يخطو خطوة إلا وهو معه!»قالت وهي تبتسم: «فهو إذن قد نال ثمرة تلك املناقب السامية فتقدم عند مولاه.ًبباب قاعة الذهب في انتظارً ما رأيته واقفاوما اسمه؟». قالت: «اسمه عماد الدين.
    فقالت: «أنت يا سيدتي تحبني عماد الدين، خادم صلاح الدين!. باهلل ما هذا؟ كيفعلقت به من النظر إليه مرة واحدة. هذا أمر عجيب، إن بني أعمامك وفي قصور أخيكعشرات من الشبان أجمل منه، ويقع نظرك عليهم منذ أعوام، وكلهم يتمنون نظرة منكولكنك لم تكترثي لأحد منهم!».
    فقالت سيدة امللك: «صدقت يا خالة إني أكثر منك استغراباالنظرة! ولكنها في الحقيقة ليست نظرة. إنها ساعة أطول من العمر كله. كنت فيها بنيالحياة واملوت فنظرت ذلك الشاب وأنا أكاد ألقى وجه ربي أو أتلطخ بالعار. فمد يدهوأنقذني. فخيل لي أنه ملاك هبط علي من السماء!»قالت ذلك وعادت إلى الإطراق وقد توردت وجنتاها.فقالت ياقوتة: «إذن أنت تحبني عماد الدين؟»
    قد علمت من حديث العاضد وأخته أن صلاح الدين بعث يخطب سيدة امللك شفاهاً إلى صلاح الدين وأسرعوسبب ذلك أن عيسى الهكاري ملا خرج من دار العلم سار توافي مقابلته على انفراد في خلوة وتطرق في الحديث إلى خطبة أخت الخليفة وأقنعه بماتقدم من الأدلة السياسية، فاستحسن صلاح الدين رأيه واستمهله ليشاور أباه، فنهاهعن مشورته إذ ربما اقتضى رأيه ملاطفة الخليفة وهم لا يرون ذلك. وذكره الهكاريبسعيه في مصلحته منذ عرفه. فقال صلاح الدين: «إننا قابضون على أزمة الدولة نفعلبها ما نشاء من عزل وتولية وغري ذلك، فكيف نطمع في الخلافة. وهذا لم يقدم عليه أحدقبلنا من غري العرب وأخاف أن نطلب الزيادة فنقع في النقصان».
    بات صلاح الدين تلك الليلة كعادته يفكر في أمر مصر ومطامعه فيها حتى غلب عليهالنعاس فنام، وفد أطفئت مصابيح القصر واطمأن الحراس إلا عماد الدين فإنه شعرً على حياته.بعد أن اختصه صلاح الدين بقربه أنه يجب أن يكون أكثر يقظة وسهراً وأصاخفبات وهو يفكر في ذلك فحلم لفرط قلقه أن صلاح الدين يناديه فنهض مذعوراً فحدثته نفسه أن ينهض ويتسمع فخاف أن يوقظ مولاه وهوبسمعه فلم يسمع شيئاعلى يقني أنه سمع ذلك في الحلم. فعاد إلى فراشه وقد طار نومه وكثر تقلبه بني اليقظةً فغلب علىواملنام. وإذا هو يسمع وقع خطوات فهب من رقاده وتسمع فلم يسمع شيئاًً. ونظر إلى السماء فعلم أن الفجر قريب ورأى أنه لم يعد قادراخاطره أنه يسمع هاجساعلى الرقاد فلبس ثيابه. وحاملا لاح الفجر خرج ليطل على غرفة صلاح الدين فرآها مقفلةوكل شيء هادئ والحراس بالباب كالعادة فعاد إلى غرفته.
    ولم تمض هنيهة حتى سمع صلاح الدين يناديه فلباه ودخل غرفته فرآه جالساعلى سريره بلباس النوم وقد أخذته الدهشة. فأسرع إليه وحياه فصاح به صلاح الدين:ً مسلولاً عليه«ما هذا؟». وأشار إلى الوسادة عند رأسه. فتقدم عماد الدين فرأى خنجراآثار دم قديم قد ألقي عند موضع رأس صلاح الدين من الوسادة فأجفل وصاح: «منفعل هذا يا سيدي؟». قال: «لا أدري، لكني صحوت في هذه الساعة فرأيت الحال كماتراها». فأطرق عماد الدين يفكر فوقع بصره على شيء عند قدمي السرير فإذا هو غمدذلك الخنجر فتناوله وتأمله فلم يذكر أنه يعرف صاحبه. وبينما هو يتفرس فيه إذ رأىفي جوفه بطاقة استخرجها ودفعها إلى مولاه ففضها وقرأها فبانت البغتة في عينيه، ثمدفعها إلى عماد الدين وصفق فدخل عليه أحد الغلمان فأمره أن ينادي الأمري نجم الدين.والده حالاً
    أما عماد الدين فإنه قرأ البطاقة وأعاد قراءتها وتناول الخنجر وتأمله وأعاد النظرفيه فقال صلاح الدين: «كيف يدخل الناس علي وأنا نائم داخل هذا القصر والأبوابموصدة ولا يشعر أحد من الحراس؟»فأحس عماد الدين أن التوبيخ موجه نحوه لأنه أقرب الحراس إليه فارتج عليه منشدة التأثر، وهم أن يجيب وإذا بنجم الدين قد دخل فلما رآهما في تلك الحال تناولالبطاقة وقرأها وإذا فيها:
    من أحد مريدي سيد الإسماعيلية إلى يوسف صلاح الدين«اعلم يا يوسف أنك وان أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس لا تقدر أن تنجومن القصاص. أراك قد بالغت في القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبلزعيم الإسماعيليني. لو أردت قتلك الليلة ملا أبقيت عليك، ولكنني عفوت عنكوأنا منذرك أن تصلح من سريك. ولا تطمع أن تعرف من أنا فإن ذلك بعيدً في عمامتك أواملنال إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطاشعرة في رأسك، وأنت لا تدري!. وأنما أطلب منك أن تلزم حدك والسلام».
    قال عماد الدين: «إن من يحب مولاه يتفانى في خدمته كما قلت يا سيدي. فكمايستطيع الإسماعيلي امللعون أن يدخل غرفة السلطان صلاح الدين ويعمل ما عمله،فيمكن لسواه أن يدخل على زعيم الإسماعيلية ويغرس هذا الخنجر في صدره. وإذا قتلً شريفة من الفتك. لأن هذا اللعني لا يتعمد إلا قتلً لينقذ أنفسابعد ذلك فقد أدى واجباالعظماء. فاملوت في سبيل قتله فخر يتطلبه كل أبي النفس!»فأحس نجم الدين أن الشاب يعني أن يذهب هو نفسه في هذه املهمة، فأراد أنً على حياته لاعتقاده بالخطر الذي يهدده فقال: «إن هذا الأمر لا يقدميثني عزمه حرصاً ما يرتكبونعليه إلا املجنون، ولكنا لا نعدم وسيلة أخرى لاسترضائهم باملال فإنهم كثرياً فيه إذ يغريهم بعض رجال السلطة بقتل أعدائهم».القتل طمعافقال عماد الدين: «صدقت يا سيدي قد يسترضون باملال ولكن هذا لا نهاية له.وأما إذا قتل زعيمهم فإن دابرهم ينقطع».
    فلم يعد نجم الدين يستطيع صبراقال: «عرض علي أن يخاطب الخليفة العاضد في أمر أخته سيدة امللك أن تكون زوجةلي!». فبانت البغتة في وجه نجم الدين وصاح فيه: «وهل وافقته على ذلك؟». قال: «ترددتً رضيت أن يكتفي بالسؤال من عند نفسه». قال: «مازلت تقدم على أمور. مالنا ولهذا الرجل ولأهل بيته؟ لماذا نعرض نفسنا للفشل؟ هل تعرفالفتاة؟».
    قال: «قيل لي إنها بارعة في الجمال جداً فعلم أنهم يتكلمان عن سيدة امللك وكانوكان عماد الدين يسمع الحديث ساكتاقد رآها يوم واقعة العبيد وأرجع إليها خصلة الشعر كما تقدم، وقد استلطفها لكنه لميحلم بالحصول عليها. ولذلك شعر من طلب مولاه لها بلذة ممزوجة بالغرية. لذ له أنتكون تلك الفتاة الجميلة لسيده أفضل من أن تكون لسواه، لكنه ملا تصور ذلك أحسً في املوضوع فقال له: «هل تعرف الفتاة يابالغرية منه. ولحظ نجم الدين في وجهه فكراعماد الدين؟»قال: «أتيحت لي فرصة رأيتها وهي في أشد الاضطراب، أعني يوم واقعة العبيد،حني أمر مولاي النفاطني برمي النفط على القصر، ثم أمرهم أن يكفوا عن رميه وكنت فيجملة من دخل القصر فرأيت الفتاة في ضيق أنقذتها منه ومازلت أذكر وجهها الجميلوشعرها الذهبي. إنها تليق بسيدي صلاح الدين. وهل هي تتوقع من هو خري منه؟!»
    خرج عماد الدين لتدبري سفره وإعداد ما يلزمه وقد أخذت مهمته تتجلى له بما يحدقبها من الخطر العظيم ولكنه صمم عليها ولاسيما بعد ما سمعه من الوعد باملكافأة.قضى معظم النهار في منظرة اللؤلؤة وهو يتهيأ للسفر حتى أعد كل ما يحتاج إليهوقد مالت الشمس إلى الأصيل. فانفرد في غرفته يفكر في مهمته وإذا بطارق بابه فأجفلًلأنه لا يطرق بابه أحد لاسيما وهو على أهبة السفر. فنهض وفتح الباب فرأى غلاماً يظهر من ثوبه وشكله أنه من غلمان قصر الخليفة. فاستغرب ذلك فدخل الغلامصقلبياوقال: «لعلي في حضرة الفارس عماد الدين؟»قال: «نعم ما وراءك؟». فمد الغلام يده إلى جيبه وهو يشري إلى عماد الدين أن يغلقً من أن يراه أحد واستخرج لفافة دفعها إليه. فتناولها ولم يتم فضها حتىالباب خوفااقشعر بدنه لأنه رأى فيها خصلة الشعر الذهبي التي كان قد أرجعها إلى سيدة امللك،فبانت البغتة في وجهه لكنه تجلد وأخذ يتفرس في الكتاب فإذا هو رسالة مختصرة بلاتوقيع. فأغلق الباب وتحول نحو الداخل وهو يقرأ، وهذا نص الكتاب:
    «إلى البطل الباسل عماد الدين. اعلم يا سيدي أنك نجيت نفساوالعار. وهذه النفس تحتاج إلى رؤيتك لتكافئك على صنيعك. وقد كلفتني أنأرسل إليك العلامة التي ينطوي عليها هذا الكتاب لتتأكد صدق قولي. فأسرعإلينا على عجل فإننا نستصرخك وقد لبيتنا من قبل بلا استصراخ. وحامل هذاالكتاب يرشدك إلى الطريق».
    فرغ من تلاوة الكتاب وهو يحسب نفسه في حلم فظل هنيهة كالغائب يفكر فيمايعمله، أيجيب دعوة الداعي وهو على أهبة السفر؟ أم يعتذر وهي تستصرخه. وأحسعند رؤية الشعر بجاذب يدعوه إلى الإجابة. وتذكر ما بعثه على حمل تلك الخصلة منً على كرامتها بدون أن يعرفها فكيفدمشق إلى القاهرة حتى دفعها إلى صاحبتها حرصاتدعوه بلفظ الاستصراخ ولا يذهب إليها؟ً ينتظر الجواب فلما استبطأه خطا خطوة نحو عمادوكان الغلام في أثناء ذلك واقفاالدين فانتبه هذا لنفسه فالتفت إلى الغلام وقال: «ما وراءك غري هذا الكتاب؟»قال: «هذا كل ما لدي ولكنني أمرت إذا استفهمتني عن الطريق أن أرشدك إليه».قال: «وكيف ذلك، هل يجهل أحد الطريق إلى قصر الخليفة؟»فابتسم الغلام وخفض صوته وقال: «ليس القصر مجهولاً ولكن صاحب هذهالرسالة في قصر النساء، ولا سبيل لرجل إلى هناك ولاسيما بعد أن جعلتم الأستاذ بهاءً عليه فأصبح أمنع من عقاب الجو».
    قال: «إذا كنت قد صممت على الذهاب فإني أدلك على طريق توصلك إلى داخل قصرالنساء ولا يشعر بك أحد»
    فاستغرب قوله وقال: «أظنك تعني أن أتنكر بثوب جارية». قال: «كلا. فإن هذا لاً. إذ لا يستطيع أحد املرور من الباب إن لم يعرفه الحاجب باسمه ولقبه».يغني شيئاقال: «كيف إذن؟»قال: «أعرف طريقالا يعرفها إلا القليلون». قال: «سراديب تحت الأرض؟» قال: «نعم يا مولاي. ملا بنىالخلفاء الفاطميون قصورهم أرادوا أن يكون لنسائهم طريق يخرجن منه إلى الحدائقوالبساتني أو إلى املناظر القائمة على ضفاف هذا الخليج. فاصطنعوا لهن سراديب تحتالأرض ينزلن إليها من وسط القصر ويمشني فيها بلا حجاب حتى يخرجن إلى البساتني.وفي جملتها السراديب املؤدية إلى هذه املنظرة فإنها كانت مطروقة أكثر من سواها لكثرةتردد الخلفاء وإقامتهم هنا. حتى أن ثلاثة منهم ماتوا في هذه املنظرة وحملوا في هذهالسراديب إلى القصر، وهم الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز. ثم أهمل أمرهابعد نزول غري الخلفاء املنظرة. وتنوسيت منذ عدة سنوات ولكنني أعرفها فإذا أحببتأن أسري في خدمتك فعلت».
    قال: «لا يستغرق سرينا إلا دقائق معدودة». فقال في نفسه: «أجيب الدعوة وأعودً فأسافر». والتفت إلى الغلام وقال: «هلم بنا». قال: «تمهل ريثما تغيب الشمسسريعافنذهب في الظلام لئلا يشعر بنا أحد من أهل هذا القصر». فتصور عماد الدين الخطرً وهو الذاهباملحدق به في هذه املهمة لكنه أكبر أن يتخوف أو يحسب للمخاطر حسابالقتل زعيم الإسماعليني. فقال: «انتظرني إذن خارج هذه املنظرة فألاقيك هناك بعدً، سأمكث في انتظارك تحت هذه الجميزة بجانب الخليج، فإذاالغروب». قال: «حسناً تقدمت نحوك ومعي الرداء الذي ينبغي أن تلتف به في أثناء الطريق، وعندرأيتك قادماالوصول إلى القصر، لئلا ينكرك أحد من أهله». قال ذلك وخرج وخلف عماد الدين علىمثل الجمر من القلق. فلما خلا بنفسه استأنف النظر إلى ذلك الكتاب وأعاد قراءتهوتذكر املرة الأولى التي شاهد فيها صاحبة ذلك الشعر وما سمعه عنها أمس من أمرصلاح الدين فرأى أنه قد يستطيع خدمة مولاه بإجابة سؤالها فيحرضها على قبوله. وملاً في مصلحةتصور ذلك هبت الغرية في قلبه. ولكنه تعمد الإغضاء عن هذا الشعور حبامولاه.ولما أسدل الليل نقابه خرج بأخف ملابسه وسلاحه حتى دنا من الجميزة فرأىً نحوه فتقدم إليه وتفرس فيه فإذا هو الغلام قد التف بملاءةً كأنه امرأة قادماشبحاً، ثم مشى الغلام بني يديه في البستانكالازار او املطرف ودفع اليه ملاءة ليلتف بها أيضاً غري أشباح الأشجار تتراءى بينهما وبني الأفق. مشيا مدة لا يتكلمان،وهما لا يريان شيئاثم التف الغلام إلى عماد الدين وأمسك بيده كأنه يقوده فهبط معه إلى حفرة. ومد الغلاميده إلى أعشاب يابسة أزاحها فوصل إلى باب من حديد فيه حلقة قبض عليها وأعانهعماد الدين ففتحا الباب فشعر عماد الدين بريح فيها رطوبة وعفونة فعلم انها أتت منذلك السرداب. فقال له الغلام: «اتبعني يا سيدي. اقتص خطواتي
    وتذكر مجيئه إلى هذا القصر من عهد غري بعيد، وكيف رأى سيدةامللك. وطال انتظاره حتى تولاه القلق. وإذا بالغلام قد عاد ومعه ياقوتة الحاضنة فحاملاوقع نظره عليها تذكر أنه رآها قبل ذلك الوقت
    أما هي فأسرعت إليه وحيته وأشارت إلى الغلام أن ينصرف فانصرف، وظلت ياقوتةوحدها مع عماد الدين فقالت: «لقد أتعبناك يا سيدي وأتينا بك في هذا الليل». فقال:«لا بأس يا سيدتي وإنما أرجو ألا يكون لاستقدامي سبب يوجب القلق». فتنحنحت.«ًوقالت: «لا والحمد هلل. ألا تذكر أنك رأيتني يا عماد الدين؟». قال: «بلى أذكر ذلك جيداقالت: «أما أنا فلا أنسى قدومك في ذلك اليوم العصيب، وما أتيته من الأريحية والنخوةًفي إنقاذ مولاتي سيدة امللك من خطر املوت. إنها لا تنفك تذكر ذلك الفضل لك. وكثرياً: «لأني لم أفعل ماما تمنت أن تراك لتكافئك على صنيعك ولكنك لم تعد». فقال مسرعاً، ولكنفعلته لأجل املكافأة، وأنا غنى عن ذلك بفضل مولاي صلاح الدين». قالت: «طبعاً للحاجة إليها بل هي تدل على امتنان املعطي للمعطى له. وعلىاملكافأة لا تعطى دائماكل حال فليس ذلك من شأني بل هو يرجع إليك وإليها فإذا التقيتما صرت أنا غريبة.أليس كذلك؟». قالت ذلك وضحكت وفي عينيها وغنة صوتها معنى لا يعبر عنه بالكلام،فتوسم عماد الدين في كلامها معنى اختلج له قلبه. ولم يصدق نفسه ملا يعلمه من البونالبعيد بينه وبني سيدة امللك، وهي أخت الخليفة أعظم نساء املسلمني بمصر. فقال وهويتجاهل مرادها: «كيف مولاتنا سيدة امللك أرجو أن تكون في خري وعافية؟»
    قالت: «ألم تصل إليك رسالتها؟». قال: «كيف لا؟ وما الذي أتى بي في هذا الوقت؟».قالت: «وخصلة الشعر؟». فمد يده واستخرجها من جيبه وقال: «هذه هي».
    قالت: «ألا تريد أن تردها إليها كما رددتها في املرة املاضية؟»قال: «بلى. وأنا جئت إجابة لدعوتك لأنك قلت أن سيدة امللك تستصرخني فهل هناكباعث مهم؟»قالت: «إنما بعثها على ذلك رغبتها في مكافأتك. وقد كلفتني أن أدفع إليك هذاً من اللؤلؤ لم يقع بصر عماد الدين عليه حتى دهش. وقدمتالعقد». واستخرجت عقداًملولاتي. إنني في غنىالعقد إليه فتناوله ولم ينظر إليه بل أعاده إليها وهو يقول: «شكراً في املكافأة».عن تحميلها هذه الثقلة لأني لم أفعل ما فعلته طمعافاستعظمت هذه الأنفة منه وقالت: «إني مأمورة بإيصال هذه الهدية إليك، فإذاً ياكنت لم تقبلها فإني أدعو صاحبتها لتقدمها بنفسها، ولكن احذر أن تكون قاسياعماد الدين».ً
    أما هي فنهضت وخرجت وتركت العقد في مكانها على البساط، وظل عماد الدين وحدهوهو مرتبك لا يدري ما يقول أو يعمل. ثم عادت ياقوتة وسيدة امللك وراءها وقد التفتبالنقاب حتى لا يظهر إلا عيناها وبعض جبينها فلاحظ في عينيها ذبولاً وقد تغريت عنذي قبل. فلما رآها دخلت وقف لها وتأدب وأطرق فتقدمت إليه وهي تتماسك وقالت:«اجلس يا عماد الدين. إنك ذو فضل على حياتي وشرفي ولا حاجة إلى الوقوف لي. اجلس.قد أتعبناك بهذه الدعوة الليلة وأزعجناك فضاعفت فضلك علينا». قالت ذلك وهي تقعدوتشري إليه أن يقعد فقعد، وظلت ياقوتة واقفة وهي تتناول العقد عن البساط ثم دفعتهإلى سيدة امللك وقالت: «هذا العقد دفعته إليه حسب أمرك فلم يقبله». فتناولته واتجهتنحو عماد الدين وقالت: «أترفض هدية صغرية قدمتها إليك وأنت قد أهديتني حياتي؟».ومدت يدها نحوه والعقد في كفها وهي تتوقع أن يمد يده فيتناوله منها. فلما أبطأً؟»تصدرت ياقوتة للكلام قائلة: «بماذا أوصيتك يا عماد الدين. ألم أقل لك لا تكن قاسيافخجل ومد يده وتناول العقد وهو يقول: «إني أقبله هدية لا مكافأة، وملا مد يدهليتناوله ملست أنامله كفها فأحس ببردها وارتعاشها، وأحست هي برعشة كهربائيةسرت في عروقها. وبان البشر في محياها فقعدت ياقوتة وهي تضحك وتقول: «ها إنهقبله منها ولم يقبله مني»
    فقطع كلامها قائلاً: «لأنك أردت أن آخذه مكافأة على خدمة فلم أقبله طبعاً .

    فالتفتت سيدة امللك نحوه وقد ضايقها النقاب وخافت أن يمنعها عن الكلام فأزاحتهعن فيها وقالت: «لا بأس عليك من كشف هذا الوجه بني يديك فإنك صاحب الفضل فيبقائه، إنك تستغرب وجود رجل يستطيع أن يراني في ذلك الخطر ولا يفديني بروحه. لاتستغرب ذلك يا عماد الدين فقد كان في قصري عشرات من أهلي وعشريتي لم يقدم أحدمنهم على ما أقدمت عليه. وكأنك كنت على موعد من تلك الساعة. فدفعت إلي بخصلةالشعر صيانة لها ولي. فهل ألام إذا نظرت إليك نظري إلى ملاك هبط من السماء لإنقاذي؟ولكني لا أعلم كيف كان شعورك في تلك الساعة».
    فرأى في إطرائها إشارة إلى حبها، لكنه كذب نفسه وعاد إلى الإنكار فقال: «أماشعوري فهو أني وأنا في خدمة مولاي السلطان صلاح الدين، وقد أمرنا أن نكف عنرمي النفط، وقع بصري على زجاجة نفط سقطت في هذه الدار وأنا على يقني أنها ليستً اغتنم اشتغال أهل القصر بأنفسهممن عندنا فاستغربت وقوعها. ثم رأيت نذلاً ملثماودخل كالذئب الكاسر ومعه أناس أرادوا القبض عليك، فلم أتمالك عن الوثوب عليهم،ولم أكن أعلم أنهم يريدونك ولا أنك سيدة امللك أخت الخليفة. فلما اتجه نظري إليكورأيت هذا الشعر الذهبي علمت أنك هي. وكانت تلك الخصلة في جيبي فدفعتها إليك».فلما سمعت اسم صلاح الدين أجفلت، لكنها مالت إلى معرفة قصة خصلة الشعرفقالت: «من أين وصلت هذه الخصلة إليك؟»
    قالت: «اسمع يا عماد الدين، لست عبداً من أمري املؤمنني. ولكنك إنما دفعك إليها نفسأخت الخليفة لقلنا أنك فعلت ذلك تقرباأبية وهمة عالية وأريحية ومروءة لا نعهد مثلها فيمن نعرفهم بني أظهرنا من الأمراءوأبناء الخلفاء. فهذه الخصال رفعت قدرك وجعلتك في مصاف امللوك.. لا تقل إنك عبد،ً إذا شئت». وظهر في عينيهامعاذ الله بل أنت أمري من أعظم الأمراء وستكون كذلك قريباً وهو في ذلكمعنى لم يترك لعماد الدين سبيلاً للتجاهل، وأعجبه قولها أنه سيكون أمريااليوم أوشك أن يصري من الأمراء بما آنسه من إعجاب نجم الدين وتقديمه. وتذكر املهمةالتي هو ذاهب فيها وما وعده به نجم الدين إذا فاز بها. فتفاءل من مطابقة قولهاقول نجم الدين أنه أمري وسيصري أمريا عن قريب. ثم انتبه فجأة إلى أنه قد مضى هزيعمن الليل فخاف أن يطول الكلام في تلك الجلسة، ولم تعجبه مقدمات الحديث لعلمهبما طلبه صلاح الدين من أخيها. وخيل له أنها استقدمته لأمر يتعلق بذلك الطلب إذًلا يزال يستبعد أن يكون هو املقصود به، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «إذا صرت شيئاً فإنما يكون الفضل فيه ملولاتي سيدة امللك لأنها أحسنت الظن بعبدها فقدمهمذكورامولاه السلطان صلاح الدين في مساء أمس حتى جعله أقرب أعوانه إليه»
    فلما سمعت ذكر صلاح الدين للمرة الثانية أجفلت وانقبضت نفسها وتذكرت ماجرى لها بسببه ولم يعجبها اقتران اسمها باسمه في هذا املوضوع لكنها سرت لقولهأن صلاح الدين قدمه فقالت: «لا غرابة في تقديمك فأنت أهل لأكثر من ذلك. إنك أمريً لم ينله صلاح الدين ولن يناله هو ولا غريه من السلاطني أو الأمراء.وسيد وستنال مقاماهذا إذا شئت». وتلعثم لسانها وغلبت على أمرها وأبرقت عيناها وبان الحياء في محياهافأطرقت. وكأنها ندمت على ما فرط منها فجعلت تتشاغل بتثنية طرف جديلتها املرسلةعلى صدرها من تحت النقاب.
    أما هو فلم يبق عنده شك فيما تعنيه واستعظمه منها وهاجت عواطفه وأحسبانعطاف جديد نحوها بعد أن سمع تصريحها أنها تحبه وأنها تفضله على صلاح الدين.لكنه تذكر أن مولاه صلاح الدين يريدها مع أنه لا يرجو أن ترضى به فاستنكف أن يقوممقامه أو يقف في سبيله أو يعتدي عليه وهو صنيعته وقد صمم أن يفتديه بروحه. فلمً فأنا صنيعة مولاييتمالك عن النهوض وقال: «إن سيدتي بالغت في إطراء عبدها كثرياالسلطان ولا أخفي أني ذاهب الليلة في مهمة تخصه وأخاف أن أتأخر عنها إذا أطلتاملقام هنا».فأمسكت بيده وأقعدته وقد بانت أنفة امللوك في وجهها وقالت بصيغة الأمر: «لا.ً لأحد ولا صنيعة أحد، وقد قلت لك أنك أمري وسيد. لا. لا ينبغي أن تذهب فيلست عبداخدمة أحد إني في حاجة إليك وقد استصرختك. أين حميتك ومروءتك؟»
    فلما قبضت على يده سرت الرعشة في أعضائه وقعد بالرغم منه. لكنه ملا سمعكلامها خاف أن يغلب على أمره فقال وهو يتحفز للنهوض «إن هذه املروءة نفسهاتحملني على الذهاب الآن لأني تعهدت بأمر لابد من الذهاب فيه وهو يخص مولاي صلاحالدين. وإذا كانت مولاتي ترى في هذه املناقب وأنا صنيعة صلاح الدين وخادمه فكيفلو عرفته هو؟»قال: «أطيعك في كل شيء ولكن بعد رجوعي من هذا السفر. إن سفري لابد منه وقدأقسمت أن أكون في صباح الغد خارج هذا البلد. ومضى بعض الليل وأنا لم أتحرك منمكاني. فباهلل اسمحي لي بالانصراف الآن».فقالت والدهشة ظاهرة في وجهها: «تنصرف الآن، إلى أين؟»قال: «إلى منظرة اللؤلؤة ومن هناك أركب حالاً وأسافر».قالت: «تسافر؟ ويلاه إلى أين؟»قال: «في غرض يختص بمولاي السلطان!»

    فأطرقت وهي لا تدري ما تقول فخاف أن يجر الحديث إلى ما لا يقوى على دفعهوقد أحس أن الحب كاد يستولي على إرادته وهو حريص على القيام بوعده ولاسيما بعدأن أقسم وصمم فقال: «اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف. واعلمي أني رهني أمرك، ولولاً إن شاء اللهما سبق من تعهدي بأمر السفر ملا خالفتك في شيء. ولكنني سأعود ساملاوعند ذلك لا ترين مني إلا ما يرضيك. أستودعك الله الآن».قال ذلك ومد يده ملصافحتها فلم تمد له يدها رغبة في استبقائه لتتم حديثها أو لعلهاتثنيه عن السفر. وإذا هي تسمع وقع أقدام مسرعة خارج باب الغرفة فنظرت إلى ياقوتةفرأتها قد امتقع لونها وتحفزت للنهوض. ولم تكد تقف حتى رأت غلامها الذي جاءبعماد الدين داخلاً والبغتة على وجهه من الخوف فصاحت فيه: «ما وراءك؟». فقالوصوته يرتجف: «إن الأستاذ بهاء الدين قراقوش يطلب أن يراك؟». فأجفلت عند ذكراسمه وقالت: «ولماذاا؟ ما له ولنا؟
    قال: «كنت ساهراً من الخارج نحو باب هذا القصر لم أعرفه لأنه ملتف بعباءةً قادماالإيوان فرأيت شبحاً، فجعلت أراقبه حتى وصل إلى باب القصر وطلب مقابلة الأستاذكبرية كأنه جاء متنكرابهاء الدين. فجاء ملقابلته ودار بينهما حديث لم أفهمه ولكنني لحظت أن القادم ألح
    عليه أن يفتش داخل القصر وتأكد لي ذلك ملا رأيت الأستاذ بهاء الدين دخل القصربسرعة ورجع ذلك الرجل كما جاء. وسمعت بهاء الدين يأمر أحد الخصيان بالذهاب إلىسيدتي فأسرعت لأخبرك بذلك».ً لذلك الخائن.ً إلا سيدة امللك فقالت: «تبافاستولت الدهشة على الجميع وظلوا سكوتالا أعلم كيف اطلع على مجيء عماد الدين إلى هنا حتى وشى بنا إلى الأستاذ؟»فقالت ياقوتة: «أتظنني مجيء بهاء الدين يتعلق بعماد الدين؟».«ًقالت: «لابد من ذلك ولكنه سيعود خائبآ
    فقال عماد الدين: «لا تخافي يا سيدتي إن روحي فداك ماذا جرى؟»
    قالت: «لم يجر شيء، ولكنني سآذن في ذهابك برغم إرادتي. وهذا يسرك ولكنهيسوءني». والتفتت إلى الغلام وقالت: «يا غلام عد بعماد الدين من هذا السرداب كماجئت به منه». والتفتت إلى عماد الدين وقالت: «أرجو أن تبقى على وعدك وأن تذكرنيفي أثناء سفرك. واعلم أن صاحبكم بهاء الدين هذا قد قطع كلامي وحال دون إتمامهوأنا مازلت في أوله لكنني أترك فهم الباقي إلى فطنتك وما يدلك عليه قلبك. وأحسبنيعبرت عن مرادي بملامحي أكثر من نطقي!. كنت قبل استقدامك في يأس شديد وكنتأرجو أن يزول كل يأس بحضورك. فإذا أنت على سفر، ثم جاء هذا الأستاذ فلم أتمكنً وأنا سجينة في هذا القصر.من إتمام شكواي فأقول لك بالاختصار إني أفكر فيك دائماويا حبذا لو أني أخرج منه معك الساعة». قالت ذلك وشرقت بدموعها.
    فكان لذلك وقع شديد على قلب عماد الدين وهو شاب في مقتبل العمر وبني يديهأشرف نساء مصر وأجملهن تشكو له حبها وتدعوه إلى قربها، فهاجت عواطفه وكاديغلب على أمره وينسى مهمته، وإنما عصمه أدب نفسه وعلو همته واحترامه ملولاه فتجلدوسكت، لكنه أشار برأسه وعينيه أنه رهني أمرها بعد عودته، وأرادت ان تستزيدهً فتصدت الحاضنة بلهفة قائلة: «يكفي يا سيدتي. يكفي. إن بهاء الدين يطلبإيضاحامقابلتك بإلحاح ولا أستطيع استمهاله». وتقدمت إلى عماد الدين فأمسكت بيده وجرتهحتى خرج من تلك الغرفة إلى باب السرداب. وكان الغلام في انتظاره هناك وقد فتحالباب فالتف كل منهما بردائه وذهبا، وأغلق الباب وعاد كل شيء إلى أصله. وتمشتسيدة امللك إلى غرفة الاستقبال فرأت قراقوش في انتظارها هناك. فأظهرت الاستغرابمن طلبه مقابلتها في تلك الساعة
    فلما خلت ياقوتة بسيدة امللك في غرفتها أكبت عليها وجعلت تقبلها وتداعبها وهي ساكتةوقد عادت إليها هواجسها ثم نهضت وقالت: «دعيني يا ياقوتة دعيني وشأني إنيً للفرج حتى أقفلت علي الأبوابتعيسة شقية، ويلاه ما هذا البلاء؟ لم أكد أتوسم باباوسدت دوني السبل». وأخذت في البكاء.
    فعملت ياقوتة على التخفيف عنها وقالت: «لا تنكري نعمة الله ألم تطمئني إلى أنهيحبك وهذا ما كنت تطلبني معرفته و..»فقطعت كلامها بغضب وقالت: «يحبني؟ هل فهمت من قوله أنه يحبني. ألم تريهً في أمره وكلما ذكرت له ما في نفسي حول املوضوع إلى مولاه صلاحكيف كان مرتبكاالدين. إنه يحب مولاه فقط». قالت ذلك ومسحت عينيها بمنديلها وهمت أن تعود إلىالكلام.

    فعاد وقبل يد صلاح الدين، وخرج فركب جواده وسار، ولم تمض دقائق حتىصار خارج القاهرة وهو عليم بالطرق ومسالكها. وحاملا خلا بنفسه عادت إليه هواجسهبما لاقاه من الغرائب املدهشة في الليل املاضي. وملا أشرقت الشمس توهم أن ما مر بهمن ذلك حلم رآه في منامه إذ استبعد وقوع ما لقيه من الحفاوة والتقرب من سيدة نساءمصر. لكنه ما لبث أن حبس جيبه فوجد العقد فيه، فتحقق أن ذلك حدث في اليقظة.
    فلما سمعت سيدة امللك ذكر الخطبة في أثناء كلام أخيها اختلج قلبها خوفالئلا تكون إذا مات أخوها رهينة أمر صلاح الدين ولاسيما بعد هذه الوصية. ثم سمعتصلاح الدين يجيب أخاها قائلاً: «أنت يا أمري املؤمنني في خري وعافية بإذن الله ولا بأسً إن شاء الله، أما وقدعليك يدعو إلى الاهتمام بالتوصية فإنك مبل من هذا املرض قريباذكرت أمر الوصاية فاعلم يا سيدي أن الخادم (يعني نفسه) قائم بما أوصيت به وليكناملولى أعزه الله على ثقة من هذا الوعد ان أهلك هؤلاء لا يصيبهم سوء ما دمت في قيدالحياة ولك علي عهد الله بذلك».
    فلما سمعت تصريحه بأنها أخته سرى عنها، ورغم ما هي فيه من اليأس والحزنأوشكت أن تبتسم لاعتقادها أن صلاح الدين لم يدعها أخته إلا وقد عدل عن التزوجبها وهو غاية ما تريده. ولاسيما وقد ضمن حمايتها فأصبحت في مأمن من تعدي أبيالحسن أو غريه. ولم يكد يطمئن خاطرها من هذا الوجه وقد شغلت عن الخطر امللمبأخيها حتى أخذ يسعل وينتفض في فراشه من شدة الرعشة. وهي نوبة عصبية توالتعليه في ذينك اليومني. فنهض الجليس وأسرع يدعو الطبيب الشيخ السديد من غرفةأخرى. فدخل الطبيب وأشار إلى الحضور أن ينصرفوا من املكان ليعالج املريض بماً. ومشى أولاً صلاح الدين مشية الأسد وسيدة امللك تراقبه وأحستيراه فنهضوا جميعامن تلك الساعة أنها تحبه حب الإعجاب وهي من طبعها تعجب برجال املروءة والنجدةوهو ما بعثها على حب عماد الدين كما علمت. فأحست بارتياح لصلاح الدين واطمأنتإلى رؤيته. ثم أومأ إلى الجليس ان تنصرف إلى قصرها وكذلك سائر الحضور من أهلها.فانصر وتزودت سيدة امللك بنظرة من أخيها وخرجت وقلبها مطمئن وقد نسيتحزنها على حاله أو شغلت عنه. وكانت حاضنتها تنتظرها في املمر وتتوقع أن تراهاًملا علمته بوجود صلاح الدين هناك، فأخذت تتأهب للتخفيف عنها. فإذاباكية خصوصاهي مشرقة الوجه رغم ما يجول في عينيها من الدمع ورغم ما ظهر في أجفانها
    فقالت: «شفاه الله، من كان عنده وأنت هناك؟». قالت ذلك وهي تراقب ما يظهرمنها.قالت: «كان هناك السلطان صلاح الدين الشهم». وسكتت. فقالت ياقوتة: «ملاذاً أماسكت وكيف عرفت أنه شهم؟ يظهر أنك رفضته قبلاً لأنك لم تكوني تعرفينه جيداالآن عند املشاهدة فقد تبني لك أنه يستحق حبك». وأظهرت املداعبة ثم قالت: «لكنني لمأعلم سبب حضوره عند أمري املؤمنني في هذا اليوم لعله جاء لإتمام طلبه وعقد الخطبة؟»قالت ذلك وهي تساعدها في نزع املطرف عن كتفيها.
    قضت معظم ذلك الليل في قلق، ولم تفق إلا صباحا
    على أصوات النعاة. ولم يقع خبر موت أخيها وقعا غريبا عندها لكن وقعه كان شديدآ
    ولم يمض إلا يسري حتى تعالى الصياح في القصور واجتمع الوزراء ورجال الدولة والكتاب وغريهم وغص قصر الذهبوسائر القصور بالناس. وأراد أهل الخليفة إقامة مأتم يليق بالخلفاء، وهم رجال الدولةأن يبايعوا لداود ولي العهد وإذا بالقصور قد أحاط بها رجال صلاح الدين. ثم جاء بهاءالدين قراقوش إلى الجليس الشريف وقال له: «ان السلطان يتقدم إليكم أن تجعلوا املأتم.«ًً من وقوع القلاقل ومن مات فقد مات ولا يجدي الصياح والعويل نفعاً خوفامختصراً بعد ما شاهدوا من استقدام الخليفةفلم يسع القوم إلا الإصغاء والطاعة خصوصالصلاح الدين بالأمس وإن لم يعلموا تفصيل ما دار بينهما وإنما دلهم استقدامه علىرفيع منزلته عنده ومهما يكن من الأمر فالقوة غالبة وجند صلاح الدين قابض علىاملدينة بيد من حديد. فأذعن إلى أمره.أما سيدة امللك فبلغها العزم على منع أهل ذلك القصر من الخروج، ورأت الجند محدقابه من كل ناحية فاكتفت بالبكاء وهي في غرفتها فندبت أخاها وبكته والحاضنة بنييديها تبكي معها.

    قال: «لا بأس عليهم، لأن املولى الراحل رحمه الله قد أوصى السلطان بهم خرياعازم على نقلهم من هذا القصر إلى قصر آخر يكونون فيه تحت رعايته، لا بأس عليهمً مولاتي سيدة امللك، فمن تريدين أن يخرج معك من الأتباع، وماذا تريدين منخصوصاالأثاث والآنية أو غري ذلك؟»
    فأطرقت وقد كبر عليها الخروج من ذلك القصر. ومع اطمئنانها بما ستناله منالرعاية عند صلاح الدين لم تتمالك عن النفور من هذا الأمر وقالت: «تخرجوننا منقصورنا؟! وماذا تفعلون بمن فيها من النساء والرجال والأطفال فإنهم يعدون بالآلاف».قال: «يا سيدتي إن مولاي صلاح الدين سيعمل ملا لا يمس كرامة أحد. فمن كانتمن الجواري ذات بعل أطلقها مع بعلها، ومن كانت حرة ولا بعل لها أطلق سراحها.وأما الجواري غري الحرائر فيهبهن لبعض رجاله. أما أهل الخليفة فإنهم سيقيمون نساءًورجالاً في غاية الإكرام والحفاوة تحت عنايته ويفرق فيهم الأعطية والألبسة والأقواتبحيث لا ينقصهم شيء كأنهم في قصورهم في حياة الخليفة رحمه الله. ولاسيما سيدتيفإنها ستنال كل رعاية هي ومن معها».
    مضت مدة لم تسمع فيها شيئاعن عماد الدين ولا هي تعرف مقره ولا مصيره فضاق صدرها واستولى عليها القنوط وتغلبت عليهاولا ترى باباالسويداء وأصبحت لا تفرح بنزهة ولا ترتاح إلى حديث. وقل طعامها وتكاثر أرقهافأخذت في الهزال وياقوتة تبذل جهدها في تسليتها وكلما رأت ضعفها وانقباضها تحريتفي أمرها. وكانت تظن طول غياب عماد الدين ينسيها أياه، وملا لم تعد تسمعها تذكرهظنتها نسيته لكنها ما لبثت أن أدركت خطأها ذات ليلة وهي نائمة في غرفة مستطرقةإلى غرفتها إذ أفاقت على صوت سيدة امللك وهي تناديها: «ياقوتة ياقوتة!».
    فوثبت من فراشها إلى فراش سيدتها فرأتها قد قعدت علي السرير وشعرها منفوشوتغريت سحنتها فترامت عليها وصاحت: «مولاتي حبيبتي ماذا تريدين؟»فقالت: «عماد الدين، عماد الدين! أين هو؟ سمعتهم ينادونه».ً. ألا تعلمني أنه مسافر؟»فقالت: «أين هو يا سيدتي؟ إنه ليس هنا، إنك ترين حلمافأزاحت شعرها عن جبينها وتفرست فيما حولها وعيناها تدلان على اضطرابهاوارتيابها وقالت: «إنه مسافر؟ آه ما أطول السفر إني سمعت اسمه في الحلم، يا ليتنيظللت نائمة لعلي أسمع ذكره مرة ثانية أو ربما تراءى لي طيفه». قالت ذلك وأغرقت فيالبكاء.فأكبت ياقوتة عليها أخذت تخفف عنها وتقول: «ملاذا تفعلني ذلك يا سيدتي، ماذاأصابك؟ أين تعقلك وحكمتك؟»
    فأكبت ياقوتة عليها أخذت تخفف عنها وتقول: «ملاذا تفعلني ذلك يا سيدتي، ماذاأصابك؟ أين تعقلك وحكمتك؟»فاجتذبت نفسها من بني ذراعيها وهي تقول: «لا تذكري التعقل والحكمة. لا محللهما مع الحب يا ياقوتة.. يا هلل ماذا جرى لي، ويلاه لم أعد أخشى التصريح بما في قلبي،ً حتى كاد يقتلني، تدبري الأمر وأسعفيني، آه يا عماد الدين». وعادتلكنني حبسته زماناإلى البكاء.فجثت ياقوتة بني يديها وقالت: «هوني عليك يا مولاتي واتكلي علي. ملاذا لمتفاتحيني بهذا الأمر من قبل؟»قالت: «وما الفائدة من الكلام؟ ها أني قد كلمتك أخبريني أين عماد الدين ما العملً عنه؟ قولي».للوصول إليه. ألم تعلمي مقره. ألم تسألي أحداقالت وهي تمسح دموع سيدتها بمنديلها: «نعم سألت عنه وقد علمت من الأستاذً يليق بسيدةبهاء الدين قراقوش أنه سار بمهمة سرية إذا نجح فيها صار رجلاً عظيماامللك، وهذا أمر ذو بال يا سيدتي. لأن بنت الخليفة وأخت الخليفة لا يليق بها أن تتزوجبواحد من عامة الناس و ... و..».فقطعت كلامها قائلة: «لا تقولي خليفة ولا عامة، إنني أسرية في هذا القصر وهوً ولا أدري إذا كان قلبه كذلك». وشرقت بدموعها.طليق، وقلبي أسري أيضافأخذت ياقوتة تضمها وتمسح دموعها وتقبلها وتقول: «خففي عنك يا سيدتي،وارجعي إلى رشدك. اصبري. لنرى ماذا نعمل».قالت: «ماذا نعمل قد طال غيابه ولا أدري ما أصابه».
    قالت: «لم يصبه شيء ولابد من عودته ظافرآ
    وأشارت إليها أن تعود إلى الرقاد فأطاعتها ونامت وانصرفت ياقوتة إلى غرفتهاوهي تفكر في سيدتها وقد ندمت لسكوتها عن ذكر عماد الدين كل هذه املدة على أنهاً وأنه لا بد من شيء يحدث بشأنه.اعتقدت أن سيدتها لم تسمع اسم عماد الدين عبثاوقد تحقق ظنها في صباح اليوم التالي إذ جاءها قراقوش يقول: «إن السلطانصلاح الدين قادم بعد قليل ملقابلة سيدة امللك».
    فتهيأت سيدة امللك مللاقاته. ثم دخل صلاح الدين وهو يتلطف في إلقاء التحيةفهمت بالنهوض له فأشار إليها أن تقعد وهو يبتسم وقال: «أجلسي يا أختي، قد أبطأتفي زيارتك هذه املرة لغيابي عن مصر، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني في خير
    فلما سمعته يناديها بالأخوة انبسطت نفسها وقالت: «طاملا كنت مشمولة برضاءالسلطان صلاح الدين فأنا في خير، والحمد لله».
    فظلت ساكتة وقد تمنت أن يكون ما يقوله صلاح الدين صحيحا ليقع أبو الحسن في شر أعماله وتتخلص منه، وأحبت أن تتحقق صحة تلك الدعوة فقالت: «نعم أعرفنقص هذا الرجل وسوء خلقه ومطامعه وسأبحث عن مكانه، ولكنني أرجو أن يكونً فإنه يعينني على البحث».سيدي على ثقة في الخبر وإذا شاء أن يزيدني بياناقال: «إن هذا الخبر تلقيته من عدة مصادر فشككت فيه حتى أتاني بشأنه كتابً معمن رجل لا أشك في صدقه كتب الكتاب بخطه وقد وصل إلي في فجر أمس سراوفد أرسله الإفرنج املوالون لأولئك الخائنني بحجة أنهم يحملون إلي هدية من بعضملوكهم وهم إنما يحتالون في مقابلة تلك العصابة ليتموا املكيدة، وهذا هو الكتاب إذاطالعته أغناني عن زيادة الإيضاح». قال ذلك ومد يده إلى جيبه
    واستخرج لفافة دفعهاإلى قراقوش ليقرأها.ففتحها بهاء الدين وأخذ يقرأ:
    «أكتب هذا الكتاب إلى مولاي السلطان وأنا في أعماق السجن في بيت املقدس.ولا يسعني الوقت لتفصيل سبب سعيي فإن الكلام فيه يطول وإنما أسرعتً عرفته من ثقة وأخاف إذا تأخر وصولهً مهماإلى كتابته لأنقل إلى مولاي خبراأن ينتهي بما أكره وقوعه — علمت بعد خروجي من مصر بموت العاضدوانتقال الدولة إلى مولاي السلطان، وسمعت وأنا في السجن أن بعض رجالً في الفسطاط يتآمرون على إخراج هذا الأمر منتلك الدولة يجتمعون سراحوزته. وقد خابروا الإفرنج في هذه الديار أن يهاجموا مصر بجند كثيفيجمعونه من هنا ومن صقلية وأن أهل مصر يكونون معهم على جندكم. وأنأولئك املؤتمرين يرأسهم رجل من العلويني اسمه أبو الحسن وهو الذي أغرىالناقمني على هذه الدولة فوافقوه واستنجدوا الإفرنج. وقد وافقهم الإفرنجوأخذوا يتأهبون لهذه الحملة، لكنهم هيأوا جماعة بصورة وفد يحمل هدية إلىالسلطان صلاح الدين من ملك الإفرنج وهم في الحقيقة يريدون الاجتماع بتلك العصابة وإتمام املؤامرة. وقد وفقني الله بواسطة صديق لي هنا أن أطلع علىذلك وأن أرسل هذه الرسالة مع حامل هذا الكتاب وهو بحسب الظاهر منجملة خدم الوفد أو هو دليلهم في الطريق، فدفعت إليه هذا الكتاب، فإذا وصلإليكم فادفعوا إلى حامله مائة دينار وأكرموه. أما أنا فمازلت هنا وسأبقىحتى يتاح لي الخروج للقيام باملهمة التي وقفت حياتي للقيام بها في خدمةًً منصورامولاي السلطان، وأنا ظافر بها بإذن الله فإما أن أعود إليكم فائزاأو أموت في هذا السبيل فداء ملولاي لأن حياتي وحياة كل رجاله مبذولة فيخدمته».
    كانت سيدة امللك تسمع الكتاب ونفسها تحدثها في أثناء ذلك أن الكتاب يتعلق بعمادالدين. فلما سمعت قوله في الفقرة الأخرية يذكر املهمة التي انتدب لها خفق قلبها وتبادرً لأنه يقول أنه برح مصرإلى ذهنها أن يكون هذا الكتاب من عماد الدين نفسه خصوصاقبل وفاة أخيها، فبدت البغتة في وجهها وتسارعت دقات قلبها ولم تتمالك عند الفراغمن تلاوة الكتاب أن قالت: «هل يأمر السلطان أن أعرف من هو صاحب هذا الكتاب؟».ً إلى ما بدا لي من غريتك وصدق لهجتك لاقال: «ينبغي لنا حفظ اسمه لكنني نظراً من ذكر أنه شاب جمع بني املروءة والحماسة وصدق املودة، كنا أنفذناه لأمرأرى مانعاهام لا يجسر عليه سواء لا أظنك تعرفينه». ووقع نظر صلاح الدين وهو يتكلم على نظرً يستدعي التوقف عن التصريح لكنه لم يدركبهاء الدين قراقوش فقرأ في وجهه شيئاالسبب ولا استطاع التوقف بعد أن وعد بالتصريح ونظر إلى سيدة امللك فرآها متطاولةً فقال: «إنبعنقها وعيناها شاخصتان إلى شفتيه تكادان تحتلبان الكلام من فيه احتلاباصاحب هذه الرسالة اسمه عماد الدين».
    لم يكد يلفظ باسمه حتى صاحت سيدة امللك: «عماد الدين؟». وأغمي عليها!فدهش السلطان ونهض وأسرعت ياقوتة إلى املاء وأخذت ترش سيدتها به وتفركيديها، واقترب بهاء الدين من صلاح الدين فأصغى إليه فقال له: «كنت أشرت إلى مولايألا يذكر هذا الاسم».ً فقال: «وما الذين يعنيها من أمره؟ هل تعرف شيئا عن ذلك؟فقال صلاح الدين: «وما هي علاقتها به؟ يظهر أنها تحبه».فأومأ إليه أن يتبعه إلى غرفة أخرى ريثما تفرغ ياقوتة من معالجة سيدتها فتبعهفلما خلا به قص عليه ما كان من أمر عماد الدين ليلة مجيئه إلى القصر في السردابوكيف وشى به أبو الحسن ولم يتمكنوا من القبض عليه إلى آخر الحديث.فوقف صلاح الدين يفكر فيما اتفق وقوعه في تلك الجلسة وقد سر لاطلاعه على ذلكالسر لأنه يحب عماد الدين ويريد إكرام سيدة امللك. وشكر الله لأنه لم يوفق إلى خطبتهافقال لبهاء الدين: «لقد سرني اطلاعي على ذلك فيجب علينا أن نسعى في جمع شملهذين املحبني، والحمد هلل أن سعي أبي الحسن لم يتكلل بالنجاح».
    فقال قراقوش: «ويمكننا أن نتخذ سعينا في مصلحتها وسيلة إلى سعيها في مساعدتناعلى كشف تلك املؤامرة، لأنها من أقدر الناس على ذلك فإذا أخلصت الخدمة في هذاالسبيل ساعدناها على مرامها».فضحك صلاح الدين وقال: «هلل درك يا بهاء الدين، إنك لا تنظر في خري لأحد إن لميعد جانب منه عليك، أحسنت».قال: «إنما يهمني القيام بخدمة مولاي أعزه الله».
    ثم تحول صلاح الدين نحو باب القاعة وسأل عن سيدة امللك فقيل له أنها أفاقت،فدخل فرآها جالسة على وسادة وقد أطرقت خجلاً وبان التعب في محياها وذبلت عيناهافتقدم نحوها وقال: «قد علمت أمرك، وسرني ما علمته من علاقة حبيبنا عماد الدين بك،وأعلمي أني باذل أقصى جهد في تقصري مدة غيابه، ولا يكون إلا ما تريدين وقد أوصيتصديقي بهاء الدين أن ينظر فيما كنا فيه، أستودعك الله».
    فوقفت لوداعه والخجل غالب عليها ولم تجب بلسانها لكن عينيها أدتا واجبالشكر، على أنها لم تستطع السكوت عما يخالج فؤادها من الخوف على عماد الدينفقالت وصوتها يرتجف: «ولكنه في أعماق السجن يا مولاي».قال: «إنه سيأتي بإذن الله، وإذا ظل في السجن فإننا نفتح بيت املقدس لنخرجهً لدولة الإسلام. لا تخافي». وابتسم ومشى مشية الأسد وهيمنه وإن في فتحه تعزيزاًبعلو همته، وكبر نفسه، ورأت انتقال السيادة إليه وذهابتشيعه ببصرها وتزداد إعجاباً لا بد من وقوعه ملا كانت تعلمه من ضعف نفوس رجال أخيهاً طبيعيادولة أخيها أمراوفساد آرائهم وتنازعهم على التافه من الأمور شأن الدولة في أواخر عمرها.وبعد خروج صلاح الدين تقدم بهاء الدين إليها فقال: «سأعود إليك بعد قليل ريثماترتاحني كوني مطمئنة». وضحك.فتنهدت سيدة امللك وقالت: «ما الذي نلناه وقد تبني لي من نص ذلك الكتاب أنعماد الدين في أعماق السجن عند الإفرنج وأنه مصمم على مهمة يظهر أنها غاية فيالخطر وأنه إذا لم يفز بها ظل هناك أو ...» وغصت بريقها.ً؟ وأن صلاح الدين عون لك فيفقالت: «ألا يكفي يا مولاتي أننا علمنا بوجوده حياالوصول إليه؟ وسيقتص من ذلك الخائن؟ هيا بنا إلى الطعام واتكلي على الله».فنهضت وقد سرى عنها وتناولت طعامها وحديثهما في أثناء ذلك عن املؤامرة وأبيالحسن. وبعد الطعام أتى قراقوش — وهو يدخل املكان بلا استئذان — وقال: «ياً.. إنما ينبغي لناسيدة امللك أهنئك برضا السلطان صلاح الدين فإنه أوصاني بك خيرآ؟»أن نكشف عن مكان املؤامرة فهل تعرفين عنه شيئآ ؟

    فأطرقت تفكر ثم قالت: «أنى لي ذلك وأنا لا أعرف شارعالأني قضيت عمري محبوسة في القصور».فتصدت ياقوتة للكلام وقالت: «إن كشف هذا املخبأ علي».فقال قراقوش: «أين هو؟»قالت: «لا أعلم ولكني أرجو البلوغ إلى خبره.. ألا تعرف الغلام جوهر؟»قال: «أعرفه.. ألم يكن من غلمان القصر؟»قال: «نعم. وهو جاسوس ذلك الخائن كان يحمل إليه أخبارنا ويطلعه على أسرارنا».قال: «وما الفائدة من معرفته إذا كان هذا شأنه وهو خائن لنا؟»ً لأبي الحسن عليناقالت: «إن الخائن لا يثبت في الأمانة لأحد. كان في الأمس عيناً لنا عليه».وهو الآني سيكون عيناقال: «أين هو؟». قالت: «هو في هذا القصر وقد أخبرني بعض الغلمان أنه غاضبعلى أبي الحسن لأنه أساء معاملته ولم يبق له فيه وطر بعد خروج مولاتي من ذلكالقصر ودخولها في حياطة مولانا السلطان. فنفر منه وجاء يتزلف إلينا.. هل أستقدمهإليك الآن؟». قال: «افعلي».
    فأمرت أحد الغلمان أن يستقدمه، وعادت فرأت سيدتها قد أبرقت عيناها منالسرور وقالت لها: «بورك فيك يا ياقوتة إنك ساحرة».قالت: «لابد أن يعود كيد الخائن إلى نحره». ثم جاء جوهر وعيناه ترقصان فيوجهه من الاضطراب. وكذلك بصر املنافق لا يستقر في مكانه
    فنظر إليه قراقوش نظر املتفرس وقال له: «يا جوهر بلغنا أن أبا الحسن خدعكً حني أخرجك عن طاعة مولاتنا.. لكني سرني أنك رجعت إلى الصواب وعلمت أنكحيناً إلا بصدق الخدمة في مصلحة مولاتنا سيدة امللك ومولانا السلطان..».لا تنال خريافأكب جوهر على يد بهاء الدين يقبلها ويتظاهر بالندم والإخلاص وقال: «يعلم اللهً فإن ذلك الرجل خدعني وأوهمني أنه يد الإمام املرحوم ويفعل ماأني كنت مغشوشاً وأنا قد ربيت في خدمة مولاي فلا يليق بي أن أغدر به.يشاء. ثم علمت أنه يريد به شرافلما تحققت سوء قصد أبي الحسن تركته لأني أكره الخيانة. ولاسيما ملن أحسن إليوأنا صنيعته وعبده». فقال قراقوش وهو يظهر أنه صدقه: «بارك الله فيك.. وأعلم أنيً هوً واحداحسن الظن بك وسأزيد في عطائك ولا أسألك عما مضى. وإنما أطلب إليك أمراهني عليك وفيه انتقام لك من ذلك الخائن، فهل تطيعني؟». فلم يصدق جوهر أنه نالهذه الرعاية بعد خياناته املاضية فقال: «إني رهني الإشارة يا سيدي». قال: «أطلب منكأن تخبرني عن املكان الذي يجتمع فيه أبو الحسن وأقرانه هل تعرف أين هو؟».
    قال: «ذلك هني يا سيدي.. نعم أعرفه وأعرف الذين يجتمعون معه قبحهم الله،ً أن أطلعكم على ذلك وإن لم تسألوني عنه فإنه فرض علينا، وكان يمنعنيكنت عازماالخجل من خطئي املاضي».فربت على ظهره وضحك وقال: «عافاك الله هل املكان بعيد من هنا؟». قال: «هو فيالفسطاط يا سيدي»
    وكان أبو الحسن قد نجا تلك الليلة من القبض عليه لأنه كان لفرط دهائه وحذره يحتاطً من قاعة الاجتماع إلى بيت ذلك اليهودي حتى إذا داهمهملكل شيء. وكان قد أعد منفذامداهم فر من هناك لا يبالي بما يصيب رفاقه.ً في بعض املنازل حتى علم ما كان من عاقبة رفاقهقضى بضعة أيام مختبئااملتآمرين وكيف قضى عليهم بالصلب فيئس من مصر ورجالها. ولكن مطامعه مازالتً فإنه رغبته فيه تريه إياهً — واملرء إذا رغب في شيء وإن كان بعيداتريه املحال ممكناً — فأعمل فكرته في سبيل آخر يسعى فيه للانتقام من سيدة امللك. وقد علم في أثناءقريباً عليها،تربصه أنها هي التي استعانت بخادمه جوهر على كشف أمرهم، فازداد حنقاًوخطر له بعد التفكري أن يستعني بالسلطان نور الدين صاحب الشام. يحمل إليه أسراراهو مطلع عليها تتعلق برغبة صلاح الدين في الاستقلال بمصر وما صرح به ضد نورالدين. فيشي به إلى نور الدين لكي يحمله على محاربته وإخراجه من مصر عنوة. وأنيشهد هو ذلك الفتح فيجعل غنيمته منه سيدة امللك واستسهل كل صعب في هذا السبيلورآه قريب المنال
    جلس أبو الحسن على وسادة وقال: «كيف مولانا اليوم أرجو أن يكون في صحة لأنسلامته سلامة الدولة وفي شفائه شفاء الإسلام. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليه بقدومي».فقال نور الدين وصوته ضعيف من الخوانيق: «الحمد هلل على كل حال وأما قدومكفقد سرني لعلمي أنك قادم من مصر وفيها حبيبنا ووزيرنا امللك الناصر كيف فارقته؟»فلما سمعه يلقب صلاح الدين بالحبيب تشاءم، لكنه عزم على املراوغة فقال: «هوفي خري بظل مولانا السلطان امللك العادل».قال: «كيف فارقت مصر؟». قال: «فارقتها وأهلها يتشوقون إلى طلعة مولاناالسلطان أعزه الله ويتمنون أنه لو شرفهم بالزيارة لريى مملكته الجديدة».فأشرق وجه نور الدين وسره أن يسمع ذلك من أمري مصري كان من املقربني للدولةاملاضية فقال: «ولكن بلغنا أن بعضهم تآمروا على خلع الطاعة، فهل ذلك صحيح؟»
    فقال: «نعم يا سيدي إنهم تآمروا ولكن ليس على خلع طاعة السلطان نور الدين».قال: «وكيف إذن؟». وبدت البغتة في عينيه ونسي مرضه وأخذ يعبث بجانب لحيتهوتفرس في عيني أبي الحسن لريى ما يبدو منه.فقال أبو الحسن: «إن أهل مصر من أقرب الناس إلى الطاعة ولكن». وبلع ريقهً لا يحب التصريح به.وتنحنح وأظهر أنه يكتم أمرافقال نور الدين: «ما بالك؟ ولكن ماذا؟»قال: «لا أحب أن أزعج سيدي السلطان بأمور لا أظنها تسره». فبدا الغضب فيوجه نور الدين وقال: «قل. تآمروا على خلع من؟».قال: «إنهم تآمروا على خلع السلطان صلاح الدين».قال: «أليست طاعته طاعتي؟»قال: «بلى، هكذا يجب أن يكون ولو طلب طاعتنا باسم السلطان نور الدين ملا وجد.«ًمخالفاقال: «وكيف طلبها إذن؟». قال: «يظهر أن أصحاب البريد يخفون الحقيقة عنمولانا السلطان فإذا أذن لي تكلمت». قال: «قل. قد أذنت لك».

    فالتفت أبو الحسن إلى الطبيب كأنه يستشريه في هل يضر الغضب صحة السلطان.فتقدم الطبيب إلى السلطان وقال: «أرى مولانا السلطان قد بان الغضب في وجهه وهومريض، ألا يؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر؟». فقال: «كلا، إني في خري، فليقل ما يشاء».فاعتدل أبو الحسن في مجلسه وقال: «إن وزيرك صلاح الدين لم يطلب طاعةاملصريني باسمك، ولكنه طلبها باسمه وزعم أنه هو صاحب الأمر وليس للسلطان نورالدين شيء منه، وقد قاومناه وتآمرنا عليه لأننا لا نريد أن نعرف غري مولانا نور الدينً. وأنا أستغرب كيف لم يبلغ ذلك مولانا السلطان، وقد صرح به صلاح الدين فيسلطاناجلسة علنية. حتى أن أباه نجم الدين انتهره وأمره بالكتمان؟». قال ذلك وسكت.وكان نور الدين حسن الفراسة فأطرق هنيهة يفكر فيما سمعا وهو يعبث بلحيتهفلم تعجبه تلك الوشاية من عدو طبيعي لهما، ولاسيما بعد أن سمع اعترافه بأنه كانً في طاعته لم يكن ليساعد علىمن املتآمرين على صلاح الدين وأدرك أنه لو كان صادقاخلع الطاعة بتلك الصورة بل كان عليه أن ينقل خبر صلاح الدين إليه. فترجح لديهكذبه فقال: «وماذا ترى الآن؟». قال: «أرى ألا يستخف مولانا السلطان العادل بمطامعوزيره فإنه قد جاهر باستقلاله بمصر قبل موت الإمام العاضد فكيف به الآن؟ فما علىالسلطان إلا أن يخضعه وأنا في خدمته أفديه بدمي».
    فحملق السلطان فيه بعينيه السوداوين، وكاد الشرر يتطاير منهما لشدة الغضبً في نصحك لحملت إلينا هذه الوشاية من قبل. فصبرك عليها حتىوقال: «لو كنت صادقاالآن حجة عليك وعلى أصحابك املتآمرين. إنما أنتم تآمرتم على خلع طاعة نور الدين، بلأردتم نقض بيعة الإمام العباسي لأنه سني، وطمعتم في استرجاع السيادة لأنفسكم!»وكان يتكلم وهو مستلق، وأخذ يرتعد من الغضب فاعتدل يريد الجلوس فأعانهالطبيب على ذلك وندم على الإذن له في الكلام. فأخذ أبو الحسن يتنصل من تلك التهمةوقال: «لم أحسن التعبري عن مرادي يا سيدي. إني أصدقك الخبر. إن ما قلته هوالصحيح. نحن طائعون للسلطان نور الدين و..».
    قال: «لو كنتم صادقني لأطعتم وزيري ونائبي صلاح الدين، لكنكم تعودتم التملقوالتذبذب، ما الذي أساءكم به صلاح الدين؟ ألم ترسلوا إلينا شعور نسائكم تستغيثونبنا فأنفذنا إليكم عمه شريكويه وقد أنقذكم؟ وهذا صلاح الدين أخمد العصيان وأصلحً يبلغ بهم الذل أنالبلاد وأبطل الضرائب. فكان ينبغي أن تعرفوا فضله. ولكن قومايستشفعوا بشعور نسائهم لا يرجى منهم وفاء. مازلت أذكر سوء وقع ذلك في مجلسنايوم أتتنا تلك الشعور في املناديل وقد عقد املجلس للنظر في طلب إمامكم، وكان بنيالغلمان شاب صغري لم يملك حني رأى تلك الشعور أن تقدم إلي لكي أعطيه خصلة منهاً من صلاح الدين فدفعتها إليه لأرى ما يبد منه. فلما تفرسحمراء ذهبية، وكان مقربافيها قال: «إن صاحبة هذا الشعر الجميل لا تمتهن وهي إما بنت الخليفة أو أخته فإنيمعيده إليها. فأذنت له بالخصلة فأخذها في منديلها ولا أدري إذا كان قد وفق إلى ماأراد، فكيف ترجو أن أتوقع منكم وفاء وقد جئتني الآن تريد الإيقاع بيني وبني نائبي؟هب أنه أراد الاستقلال بمصر فليأخذها هو فإن البيعة واحدة ولا ترجع لكم». وملا بلغإلى هنا بان التعب عليه وحول وجهه عن أبي الحسن باحتقار، وأدار له ظهره وعاد إلىالرقاد وهو يلهث من التعب.
    أما أبو الحسن فجمد الدم في عروقه من الفشل وأحس كأنما صب عليه ماء بارد.وأخذ يرتعد وقد وقع خبر خصلة الشعر عليه وقوع الصاعقة لعلمه أنها من شعر سيدةامللك. فأشار إليه الطبيب أن يخرج حالاً لأن السلطان أصابته نكسة بسبب الغضب.ً واختفى في مكان لافخاف أبو الحسن أن يأمر السلطان بالقبض عليه فخرج مسرعايعرفه فيه أحد ريثما يرى ما يكون.
    خرج من دمشق وهو يرغي ويزبد من شدة الغضب والخادم في ركابه لا يجسر علىالنظر إليه. حتى إذا مر بالغوطة وصل إلى عني ماء جارية يظللها ويحيط بها أشجارالتفاح والسفرجل واملشمش وسائر أنواع الفاكهة وقد دخل الربيع وتفتحت الأزهارً غريوتغنت الأطيار. والطبيعة باسمة ضاحكة، ولكن أبا الحسن، لم يكن يرى شيئاً فهاجهاالفشل نصب عينيه. وإنما نبهته البغلة إلى الوقوف هناك لأنها رأت املاء جارياالعطش فمالت إلى قناة املاء لتشرب. فانتبه أبو الحسن وقد صارت الشمس في الضحىوهو في الخلاء لا رقيب عليه. فلاح له أن ينزل هناك ليستريح فترجل وسلم البغلة إلىالخادم يهتم بأمرها. وتغلغل بني الأشجار على غفلة من خدم البستان لأنهم لا يتوقعوننزول الناس هناك في مثل تلك الساعة.
    أما أبو الحسن فلما خلا بنفسه قعد إلى جذع شجرة مشمش تدلت أغصانها تحملً من املشمش يفاخر به أهل الشام سائر املشرق ويعرف الآن باملشمش الحموينوعاينضج في إبان الربيع، والناس يقصدون الغوطة للتمتع بمنظره وطعمه.
    علمت من سياق الحديث أن عماد الدين لاقى في سفره عذابا إذ قبض عليه الإفرنج
    بقرب بيت املقدس لاعتقادهم أنه جاسوس وسجنوه مدة تعرف في أثنائها إلى جرجسً كما قال وإنما هو من كبار الفدائيني الإسماعيلينيكما تقدم. ولم يكن جرجس مسيحياواسمه الحقيقي عبد الرحيم بعثه راشد الدين لقتل أموري الإفرنجي صاحب بيتاملقدس. فتنكر باسم جرجس واحتال حتى جعلهم يقبضون عليه ويسجنونه ليتمكن فيأثناء سجنه من التعرف إلى صغار أهل البلاط ويطلع على خفايا القصر بحيث يسهلعليه الوصول إلى غرضه. وعدة أولئك الفدائيني في تنفيذ أمر مولاهم راشد الدين أنأحدهم إذا كلف بقتل أحد امللوك جعل نفسه من أصغر خدمه. والغالب أن يجعل نفسهً لجواده ليتيسر له الاقتراب منه عند الركوب والنزول فيغتنم غفلة منه ويغرس فيسائساقلبه خنجره.
    ففي أثناء إقامة عبد الرحيم (أو جرجس) فهذا في السجن تعرف إلى عماد الدينوأحبه وتمكنت العلائق بينهما فكاشفه عبد الرحيم بحقيقته وكيف أنه مسلم وأنه احتالبالسجن ليتوصل إلى غرضه ويقتل صاحب بيت املقدس بإشارة مولاه راشد الدين، وأخذيرغبه في هذه الطائفة وقبالة مقاصدها وشدة تأثريها، فحمد عماد الدين السبب الذيجره إلى ذلك السجن لأنه كان وسيلة إلى هذا التعرف وسهل عليه مهمته. فأظهر ارتياحهلذلك الرأي ووعده بأن ينتظم في سلك الإسماعيلية بعد خروجه من السجن، وهو يضمرأن يجعل ذلك الانتظام وسيلة لتنفيذ مهمته التي جاء من أجلها لقتل راشد الدين. وبذلجهده في اكتساب ثقة عبد الرحيم وأطاعه في تغيري اسمه فجعله عبد الجبار.
    تمكنت هذه الصحبة بينهما، ثم انتهت أيام عبد الرحيم في السجن وخرج وأهلً لهم لأنه مسيحي يعرف لغة البلاد وعاداتها.البلاط يحبونه ويرون في وجوده نفعافقربوه وهو يبذل جهده في مرضاتهم توصلاً لغرضه، فلما دارت املخابرة بني الحزبالعبيدي في القاهرة وبني الإفرنج وانتهت بإرسال الوفد اختاروه ليكون دليلاً. فذهبلوداع عماد الدين، وعهد إليه هذا فيما تقدم ذكره، فبذلك جهده في خدمة صديقه رغبةفي إدخاله سلك الإسماعيلية لأنه آنس فيه من الشجاعة والذكاء ما يندر مثاله وهم فيحاجة إلى الشجعان.
    فلما عاد من تلك املهمة توسط في إخراج عماد الدين من السجن، وأبلغه ثمرة كتابهً إلا أبا الحسن فإنه نجا. ثمإلى صلاح الدين وكيف أنه قبض على املتآمرين وقتلهم صلباً من صلاح الدين يثني فيه على حميته، وصدق مودته.دفع إليه كتابا من صلاح الدين يثني فيه على حميته، وصدق مودته

    ثم أطلعه على ما عرفه عن سيدة امللك ودفع إليه كتاب ياقوتة والجواهر، فتناولهاً به — وليس من شيء كالسخاءً منها إلى صديقه عبد الرحيم فازداد تعلقاوأعطى جانبايحبب صاحبه إلى الناس مهما يكن فيه من العيوب. حتى جرى على ألسنة العامة قولهم«ما من عيب إلا والكرم غطاه». فكيف إذا كان الكريم قليل العيوب أو لا عيب فيه، ولوعلم الأغنياء ما يغطيه الكرم من عيوبهم لكرهوا البخل وبعدوا عنه، وكما يذهب الكرمً ليست فيهم.بعيوب الأغنياء فالبخل يلصق بهم عيوباوأسرع عماد الدين إلى كتاب ياقوتة فقرأ فيه قولها:

    «سلام عليك يا عماد الدين، جاءنا صديقك وسرنا أنك في عافية، ولكن ساءنا ماأصابك في السجن. على أن ما عرفناه من حب هذا الصديق لك وما يظهر فيهمن املروءة والشهامة طمأننا عليك. إننا نقيم الآن في دار الأضياف في رعاية
    صلاح الدين. إنه شهم وقد أكرمنا غاية الإكرام. ويسرني أن أخبرك بأنه جعلً له وهو يعاملها معاملة الأخت من كل وجه. وجاءمولاتي سيدة امللك أختاذكرك مرة أمامه فأكثر من الثناء عليك وصرح بما يرجوه لك من املستقبلالسعيد. إنما ساء سيدتي أنك في السجن على أن صديقك جرجس بشرنا بقربً معافى ولكن عظم علينا أنك ستبطئ في املجيء إلينا. عجلخروجك منه ساملاولا تقطع أخبارك وعليك السلام».
    فلما قرأ الكتاب أحس بشيء جديد لم يشعر به من قبل. وقد كان إلى تلك الساعةمضطرب الأفكار من جهة سيدة امللك لعلمه أن صلاح الدين خطبها لنفسه. ورأى منً أنها عاشقة لهالجهة الثانية ما أظهرته من امليل إليه حتى أوشكت أن تقول له صريحاتتفانى في حبه. فوقع في حرية وإنما شغل عن ذلك بالأسفار وملاقاة الأخطار لريى ماتأتي به الأقدار. فلما أطلع على كتاب ياقوتة وعلم أن صلاح الدين لا يريد الزواج بسيدةامللك ورأى عطفها عليه في ذلك الكتاب مع اختصاره، أحس أنها له وحده واضطرمتنريان الحب في قلبه مرة واحدة، كأن لواعج تلك املدة كلها اجتمعت في ذلك اليوم،فأصبحت صورة سيدة امللك نصب عينيه أينما توجه، وتذركر منظرها في تلك الليلة وهيواقفة تودعه وتتعجل نزوله في السرداب. ولم يكن يومئذ يشعر بشيء من تلك العواطف.كما تذكر خصلة الشعر الحمراء وكيف تجاسر على طلبها من نور الدين، وكيف أذنله نور الدين في أن يأخذها. ثم كيف وفق للاجتماع بصاحبتها وهي في أشد الخطرفأنقذها ودفع إليها الخصلة. مر ذلك كله بذهنه في لحظة فتحقق أن املقادير أعدت لههذه النعمة فإذا وفق إلى إتمام مهمته بلغ أوج السعادة. فبدأ يشعر بالسعادة من ذلكالحين .


    أما عبد الرحيم فأعجبه ذلك التعبري منه وقال: «سترى من هو أولى مني بالفداء. إنالشيخ راشد الدين إمامنا ومولانا نفديه كلنا بأرواحنا. وستذوق هذه اللذة متى صرتً منا. هل أنت عازم على الدخول معنا في هذا الأمر؟ أم غريك هذا الكتاب؟». وضحك.واحداقال: «لم يغريني شيء لكن ما هو السبيل إلى ذلك، كيف أذهب وإلى أين وما هيالطريقة؟ أرجو أن تساعدني وترشدني».فرح عبد الرحيم وقال: «إني طوع إرادتك. سأعطيك كتاب توصية إلى الشيخ دبوسنائب مولانا الشيخ الأكبر وهو يقيم معه في قلعة مصياف من جبل السماق من أعمالحلب ثم ألحق بك بنفسي. يمكنك السفر اليوم. هل تعرف الطريق؟»قال: «أعرفها جيداً وكتب توصية إلى الشيخ دبوس نائب شيخ الجبل، فتناولهافأخذ عبد الرحيم ورقاً جبل السماق. وهو جبل عظيم من أعمال حلبعماد الدين وودعه وركب جواده قاصدايشتمل على مدن كثرية وقرى وقلاع كلها للإسماعيلية، وفيه بساتني ومزارع، لكن املياهالجارية فيه قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثرية في مواضع خاصة ومع ذلك تنبتفيه جميع أشجار الفواكه وغريها حتى املشمش والقطن والسمسم.
    كان هم عماد الدين عند وصوله أن يلقي الشيخ دبوس ويدفع إليه كتاب التوصيةالذي يحمله من عبد الرحيم فلما جاءه ذلك الفلاح الشيخ سأله عماد الدين عن راشدالدين أين هو.فأجفل الرجل وتفرس في عماد الدين وقال: «يظهر أنك غريب عن هذه الديار ياسيدي؟». قال: «وما الذي جاء بك إلى هنا وماذا تريد من شيخ الجبل؟». قال: «إني أحملً إلى نائبه الشيخ دبوس». قال: «دبوس؟!. ظننتك تطلب الشيخ راشد الدين نفسهكتابافإنه لا يطمع أحد في رؤيته. حتى أصحابه وأعوانه إنهم لا يرونه إلا في بعض الأحوالالخاصة».فقال عماد الدين: «ومن أنت يا عماه لعلك من رجاله؟»فقطع الشيخ كلامه قائلاً: «حبذا ذلك، إن مثلي لا يطمع في هذا املشرف، ويكفينامن جواره أن نقوم بخدمته بما نغرسه من الحنطة أو نرعاه من املاشية له ولرجاله فيمقابل بقائنا في قيد الحياة».
    قال: «والآن أحب أن أقابل الشيخ دبوس فهل ذلك ميسوراقال: «لا أدري. أعطني الكتاب إذا شئت لأوصله إلى بعض رجاله فيوصله إليه ثمآتيك بالجواب».فدفع إليه الكتاب فتناوله وركض نحو الجبل ومكث عماد الدين في انتظار عودتهوقد أمسك زمام فرسه بيده وأدار بصره فيما يحيط به من السهل الفسيح وذلك الجبلالشامخ القائم في صدره وفوقه قلعة مصياف وقد أحدق بها السور والأبراج. ولم يقدرً يصل بها إليه، كأن أهلها يصعدون إليها على أجنحة النسور أو فيأن يتبني طريقاً. لكنه ازداداملناطيد. فهاله ذلك وتمثل له الخطر املحدق بمن ينوي براشد الدين شرارغبة في استطلاع أحوال ذلك الرجل، فإما أن يفتك به، وإما أن يقرب ما بينه وبين صلاح الدين

    ً قضى في ذلك ساعة ثم رأى الشيخ الفلاح حافي القدمين عاري الصدر كأنه من العفاريت. فلما وصل إلى عماد الدين حياهثم سأله عن غرضه فقال: «أحب أن أقابل الشيخ دبوس».فمد يده وفيها كتاب التوصية وقال: «هذا هو كتابك، ما هو اسمك؟». قال: «عبدالجبار». قال: «اتبعني».ً يقود فرسه والشاب يسري بني يديه وهو يتلفت إليه يجيل نظره فيهفتبعه ماشياً لوقع الرعب في قلبهكاملتفرس. فاستغرب عماد الدين تلفته وتفرسه، ولو كان جباناً لا يعرف الخوف.ولكنه كان شجاعاوبعد قليل وصلا إلى قاعدة الجبل فأشار إليه الشاب أن يترك الجواد هناك ويتبعهفتردد عماد الدين لحظة فقال له: «لابد من ترك الجواد هنا وإلا فارجع من حيث أتيت».فأطاعه ومشى في أثره في طرق متعرجة بعضها منقور في الصخور وبعضها سلالممن الحجر يصعب تسلقها. والرجل يقفز بني يديه كالنمر لا يبالي بالتعب وعماد الدينيجاريه لئلا يظهر عليه الضعف وهو أبي النفس.

    فأشار الشيخ برأسه أن «نعم» وأومأ إليه أن يتقدم ويعطيه الكتاب ففعل، فتناولهوفضه وقرأه. وملا فرغ من قراءته أومأ إلى عماد الدين أن يجلس وهو يقول: «إن ولدناً، تفضل يا عبد الجبار اقعد».عبد الرحيم يوصينا بك خيرآ

    فقعد على طرف املقعد وهو ينتظر ما يكون فقال له دبوس: «يقول لنا عبد الرحيمأنك تطلب نعمة القربى من شيخنا وإمامنا راشد الدين».قالت: «نعم يا سيدي فهل هذا ميسور لي؟»فأطرق يفكر ثم قال: «إنه ميسور على شروط». قال: «وما هي يا سيدي؟». قال:«أعلم يا عبد الجبار أنك قبل كل شيء ينبغي أن تنقي قلبك وتصفي نيتك وتستسلم إلىهذا الأمر. هل أنت فاعل؟». قال: «نعم».
    قال: «احذر أن تخدع نفسك فإني لا أقدر أن أعرف خفايا قلبك، ولكن املولى الشيخالأكبر لا تخفى عليه خافية. إنه فاحص القلوب إذا نظر في عينيك عرف مكنونات قلبك.فإذا كنت في شك من نيتك واستسلامك فارجع من هنا ولا تعرض نفسك للخطر. إنيأنصح لك بناء على ما قرأته في كتاب التوصية من الثناء على شجاعتك وصداقتك. وأما إذاكنت قد أوتيت النعمة وألهمت الانتظام في هذا السلك والحصول على العهد فقد ضمنتً كاملاً تفحص فيه ضمريك وتخبرني بما يستقرلنفسك الدنيا والآخرة. وأنا تاركك يوماعليه رأيك».

    فوقع كلام الشيخ من نفسه وقعاما سمعه عن شيخ الجبل من استطلاع خفايا القلوب. ولكنه تجلد وأظهر الثبات فيً آخر على حسب أمرك وأجيبك».عزمه وقال: «إني على عزمي، وسأصبر يوماً وقال له: «اخلع ما عليك من السلاح وهات ما عندك منفهز رأسه استحساناالأدوات أو النقود أو غريها، تلك عادتنا في مثل هذه الحال ولافعظم هذا الطلب عليه وعنده الجواهر. وقد شق عليه أن يفارق خنجره ويبقىً ولم يجب.أعزل فتوقف حينا يخامرك شك فيما أفعلفإن هذه الأشياء تبقى عندي باسمك».
    فقال له دبوس: «اعلم يا بني أن طالب الحصول على عهد مولانا الشيخ لابد له منالاستسلام لكل ما يؤمر به بلا تردد. وقد خريتك عملاً بتوصية عبد الرحيم لأنه ذو مقامعندنا. فإذا رأيت العدول عن عزمك رددنا أشياءك إليك».فلم ير بد من الطاعة لأنه لم يوفق إلى دفاع، فمد يده واستخرج خنجره من منطقتهودفعه إليه. ثم استخرج ما كان عنده من الجواهر والنقود ودفع كل ذلك إلى دبوسً ملا رأى الشيخ يبش له وقد وضعوقد أحس بالخوف من الخديعة، لكنه اطمأن نوعاأشياءه كلها في منديل وأخفاه في حفرة بأسفل املقعد. وأومأ إليه أن يخرج إلى غرفةأخرى يستريح فيها. فخرج وقاده أحد الحراس إلى حجرة خلا فيها بنفسه وأخذ يفكرفيما سمعه فتحقق الخطر الذي أوقع نفسه فيه وأصبح لا يعرف ماذا يعمل: أيعدل عنمهمته بعد أن وعد صلاح الدين بها أم يعرض نفسه للخطر بالدخول؟ وتذكر ما سمعهمن صديقه عبد الرحيم عن كرامات راشد الدين وما هو شائع من هيبته واقتداره، فوقعفي حرية لأن رجوعه عنها يحط من قدره عند صلاح الدين وعند حبيبته. أو على الأقلينحط قدره عند نفسه فإنها لا تطاوعه على الجبن. ودخوله يعرضه للقتل أو لخيانةصلاح الدين.


    وكان يفكر في ذلك وهو يمشي في تلك الحجرة وليس فيها شيء من الأثاث سوىحصري وبساط قديم فأطل من نافذة صغرية فأشرف على ما يحيط بجبل مصياف مناملستنقعات والسهول والروابي والأودية إلى مسافة بعيدة. واستغرق في أفكاره حتىنسي موقفه. ثم أجفل لأنه سمع وقع خطوات وراءه فالتفت فرأى رجلاً كالخادم أتاهً وعاد إلى تفكريه ونفسه لابالطعام ودعاه إلى الأكل وخرج. فأشار عماد الدين شاكراتطلب الطعام لفرط اهتمامه وقلقه. وحانت منه التفاتة وهو يجيل بصره في ذلك الفضاءً يلجأ إليه الإسماعيليونإلى سور عال يحيط ببناء لا يظهر منه شيء فظنه قلعة أو حصناعند الاضطرار.وعاد إلى هواجسه وهي تتعاظم وتتكاثف حتى ضاق صدره من كثرة التردد، وكانً، وأحس بالجوع فتحول نحو الطعام الذي أتوه به وهوإلى تلك الساعة لم يذق طعاماً أرجعهامؤلف من بعض الثمار وشيء من الخبز واللحم. فمد يده إلى الرغيف وكأن شيئاً». ثم تذكرعنه وخطر له سوء الظن فقال في نفسه.. «قد يكون هذا الطعام مسموماصديقه عبد الرحيم وتوصيته لدبوس فغلب عليه حسن الظن وأكل ما يسد رمقه واقتصرعلى الثمار
    وفيما هو يأكل سمع ضوضاء في الساحة فنهض ونظر من الباب فرأى جماعة منأهل القلعة وفيهم الحراس والأجناد يتهامسون ويتضاحكون والبشر ظاهر في وجوههم.فخاف أن يكون لذلك علاقة بوجوده هناك أو ربما كان عليه خطر. فأصاخ بسمعه وإذاهم يتكلمون لغات مختلفة لأن رجال الإسماعيلية أخلاط من أمم شتى وفيهم العربيوالتركي والفارسي والكردي والشركسي يتكلمون كل هذه اللغات وإنما تغلب العربية علىألسنتهم.وبعد الإنصات وإعمال الفكرة سمعهم يذكرون السلطان نور الدين وكأنهم يذكرونًموته فغالط سمعه ولم يعبأ به لأنه فارق السلطان منذ يومني في صحة تامة ورآه عائدامن امليدان على جواده كالأسد. واعتقد أنهم يشيعون ذلك رغبة في اجتماع كلمتهم. لكنهما لبث أن جاءه رسول من الشيخ دبوس يدعوه إليه فأسرع في أثره إلى مجلس دبوسً في صدر الغرفة وبني يديه جماعة من الأمراء بلباس متشابه وعلى رؤوسهمفرآه قاعداالعمائم تقرب من عمامة دبوس. فغلب على اعتقاده أنهم من رجاله.فلما وقف عماد الدين أمامهم خاطبه دبوس قائلاً: «أأنت قادم من بيت املقدس؟».قال: «نعم».قال: «ألم تجعل طريقك على دمشق؟». قال: «بلى».

    قال: «كيف كان سلطانها الأتابك نور الدين هل شاهدته؟».ً من امليدان نحو الظهر».قال: «نعم شاهدته على جواده عائداقال: «ومتى كان ذلك؟». فأطرق عماد الدين وهو يحسب الوقت ثم قال: «منذيومني وبعض اليوم».قال: «لكنه مات في هذا الصباح رحمه الله». فأجفل وبانت البغتة في وجهه وقال:ً، ثم كيف يموت في هذا الصباح«مات؟ هل أنتم على ثقة من ذلك؟ لا أظن الخبر صادقاويصل خبره إلى هنا الآن وبيننا وبني دمشق أكثر من يومني؟»فضحك دبوس ضحكة استخفاف وضحك الجلوس معه وهم يتلفتون بعضهم إلىبعض ثم قال دبوس: «لا لوم عليك يا بني وأنت لا تعرف مصدر هذا الخبر. إنه لم يأتنابالبريد وإنما هو وحي هبط على مولانا الإمام الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركته وكراماته.كذلك فعل يوم مات الإمام العاضد بمصر فقد جاءه علمه في يوم موته، ومصر أبعد مندمشق. وكذلك خبر املؤامرة التي قتل فيها عمارة وأصحابه». ثم نظر إلى الجلوس كأنهيستشهدهم فبدت على وجوههم أمارات الإيمان بما قال.

    فدهش عماد الدين ومع ذلك ما زال يظن أن في الأمر خداعالم يمت وقال في نفسه: «إذا ثبت موته بورود املرسوم من دمشق على العادة فإن لهذا.«ًً عظيماالشيخ لشأناولحظ الشيخ دبوس تردده ودهشته فقال: «لا تستغرب ما تسمعه يا بني، إنك إذتمت النعمة عليك ووفقت إلى الدخول في طريقتنا رأيت أعجب من ذلك. إن مولانا الشيخالأكبر يخاطب الحجارة فتجيبه حتى امليت إذا كلمه أجابه في الحال». والتفت إلى القومً أن مولانا الشيخ حرسه الله أخبرني عن سبب موت هذا السلطانوقال: «وأزيدكم بياناقال إنه توفي بعلة الخوانيق». ثم حول نظره إلى عماد الدين وقال: «وسترى في الغد مايحقق ذلك حينما يأتي املرسوم».فوقع عماد الدين في حرية عظيمة مما سمعه ورآه وأوشك أن يعتقد صحة كراماتراشد الدين. وقال له دبوس: «تفضل يا بني إلى غرفتك حتى يستقر رأيك وإنما دعوتكًً من مقدمات موت نور الدين. ولتعلم أيضالعلمي أنك قادم من دمشق لعلك علمت شيئاً مرشحأن صديقك عبد الرحيم أخلص النصح لك. أتم الله نعمته عليك وعلي لأنه هو أيضاللارتقاء في هذه النعمة إذ ينال املجتهد فيها نصيبه. هذا كلام لا تفهمه الآن ولكن سوفتفهمه تفضل». وأشار إليه أن ينصرف

    فعاد إلى غرفته وهو كالغائب عن الرشد لا يعرف كيف يعلل ما يشاهده من الغرائباملدهشة. وعزم في سره إذا صحت نبوءة الشيخ عن موت نور الدين أن يلتمس الدخولفي تلك الطغمة بلا تردد. وود لو كان صديقه عبد الرحيم هناك ليوضح له بعض ما.ًأشكل عليه ويزيده بيانا


    بات عماد الدين في تلك الليلة كالتائه في البحر، وتوالت عليه الأحلام وأفاق في الصباحعلى نقر باب حجرته. فذعر وجلس فإذا بصديقه عبد الرحيم واقف بني يديه فشعر عندرؤيته بارتياح عظيم وقد خف قلقه واطمأن باله كأنه لقي أباه أو أخاه واستأنس بهً فأكب عليه وعانقه وأوشك الدمع أن يتساقط من عينيه لشدة التأثر.كثريافعانقه عبد الرحيم وهو يبتسم وقال له: «يظهر من تلهفك مللاقاتي أنك كنت فيً إلا على يدك.ضيق». قال: «لم أكن في ضيق ولكنني متردد في أمور ولا أرى لي فرجاوأشعر أنك أخي أو أبي وألقي اتكالي عليك وهناك أشياء أحب أن أستشريك فيها». فهشً، فأشار إليه عبد الجبار (عماد الدين) قائلاً: «اقعد، من أين أنتله عبد الرحيم مطمئناآت؟»


    فقعد وهو يقول: «إني آت من عند الشيخ دبوس وقد قص علي ما أعجبه من ذكائكوشجاعتك. وأنه تلطف في معاملتك وأمهلك حتى تفكر في أمرك».قال: «نعم. وهذا ما أحب الاستفهام منك عنه، لقد أدهشني أمر لم أقدر علىتفسريه». قال: «وما هو؟». قال: «أخبرني الشيخ دبوس ظهر أمس أن السلطان نورً علىالدين صاحب دمشق مات في الصباح. وأنا رأيته بعيني قبل ذلك بيومني راكباً معافى والصحة تتجلى في وجهه بعد أن قضى يومه مع سائر رجال دولتهجواده سليمافي السباق».ً معافىفقال عبد الرحيم: «هذا كله صحيح، نعم إنه عاد من ذلك امليدان صحيحالكنه لم يصل إلى القلعة حتى أحس بألم في حلقه ظهر بالفحص أنه الخوانيق».فأطرق عبد الجبار (عماد الدين) وقد بانت الدهشة في عينيه وهان عليه أن يصابًنور الدين بالخوانيق على أثر رؤيته إياه على جواده فقال: «يظهر أن املرض جاءه شديداًفكيف وصلفلم يمهله طويلاً. لكن إذا فرضنا وقوع ذلك فعلاً ومات نور الدين صباحاالخبر إلى هنا قبل الظهر؟»

    فضحك عبد الرحيم وقال: «إن ذلك يا عبد الجبار من كرامات مولانا الشيخ الأكبرً من ذلك ونحن في بيت املقدس؟ إنه طاملا أنبأنا بالأخبارنفعنا الله ببركته. ألم أقل لك شيئاحال وقوعها ولو كان بيننا وبينها مسافة أيام وليس هذا أعجب كراماته. وهل تظنسطوته وقوة نفوذه لا أساس لهما؟ كيف يخضع له الألوف من الناس وفيهم العقلاءًوالحكماء إن لم يروا فيه ما يستحق ذلك؟ أتعلم أن أتباعه اليوم يزيدون على ستني ألفامن نخبة الناس وفيهم الشجعان والأبطال والقواد، وكل منهم طوع إرادته يبذل نفسهً بلا استحقاق؟»في طاعته. أتظن ذلك يقع عفوافقال عماد الدين: «أنت تشري علي إذن بأن أبقى على عزمي؟»قال: «هذه نصيحتي لك».قال: «إنهم أخذوا مني نقودي وسلاحي».قال: «لا خوف عليها. فإذا رجعت عن هذا الأمر فأنا أضمن إرجاعها إليك. ولا أظنكً عنه ولاسيما بعد أن ترى الشيخ الأكبر نفسه وتسمع أقواله وتختبر كراماته. إنهاراجعاً وندم عليه.كثرية إنما ...». وسكت كأنه أراد أن يقول شيئافقال عماد الدين: «أراك تتردد في نصحي».

    قال: «معاذ الله يا أخي، أنت تعلم أننا تحابينا وتصادقنا لغري غرض سوى تقاربالقلوب. وملا كانت جماعتنا هذه تضم خرية الشجعان وذوي البسالة
    قال وهو يخفض صوته: «متى رضيت الدخول فإنهم يمتحنونك بأشياء لا يصبرً، إن ماعليها إلا الشجاع ثابت الجأش وأنت كذلك. لكنني أحببت أن أزيدك اطمئناناً أو مستحيلاً ليس هو في الحقيقة إلا ظاهرة لا طائليظهر لك من تلك التجارب خطراتحتها. وإنما يراد بها امتحان شجاعة الطالب. فمهما يطلب منك أن تعمله فاعمله ولاتخف. لا أقدر أن أفصح لك أكثر من ذلك».فقال عماد الدين: «يمتحنون شجاعتي؟ فليمتحنوا لأنني لا أبالي وأنت تعلم ذلك،ً آخر. هل تطلعني على حقيقته؟»ولكنني أحب أن أعرف شيئاقال: «قل ما تريد لعلي أستطيع؟». قال: «كل ما أعرفه من أمر هذه الطائفة أنزعيمها راشد الدين رجل حكيم ذو كرامات، وأن أتباعه يطيعونه طاعة عمياء ويبذلونأنفسهم في طاعته. لكنني لا أعلم ما يناله أولئك الأتباع من املكافأة. وهل هم درجةواحدة أو درجات فقد رأيت بعضهم كالخدم أو الجند وآخرين كالأمراء، وهذا دبوسكامللك فما هو نظام هذه الطائفة أو الدولة إنها غريبة في بابها!»

    قال: «صدقت إن نظامها غريب لم ينسج على منواله، ولا بأس من أن أقص عليكخبر هذا النظام باختصار. اعلم يا عبد الجبار أن جماعتنا هذه التي أرعبت العالمبتدبريها وبسالة شبانها مؤلفة من طبقتني: الفدائيني، واملستنريين. وفوقهما الزعماءً فإذا استحق الرقيوأصحاب الأسرار الحقيقية. وأول ما يدخل الإسماعيلي يكون فدائياً. أنا لا أزال إلى اليوم من الفدائيني (الفداوية)».صار مستنرياً، هل أكون مثلك؟».فقطع كلامه قائلاً: «إذا دخلت أنا غداً عن قريب. لأن مهمتيقال: «نعم. لكنني الآن مرشح لنيل العهد فأصري مستنرياالتي ذهبت بها إلى بيت املقدس كانت آخر تجربة في سبيل الترقي، وقد جئت إلى هنالكي أتلقى السر الجديد في طبقة املستنريين».قال: «بماذا استحققت هذا الترقي؟»

    أصبح عماد الدين في اليوم التالي وهو على موعد للدخول على الشيخ الأكبر لينضم إلىجماعة الفدائيين. وكان كلما فكر في ذلك اختلج قلبه في صدره. وبعد قليل جاءه صديقهً وطمأنة فقال عماد الدين: «هل أذهب الآن إلى الشيخعبد الرحيم وهو يهش له تشجيعاالأكبر أم إلى الشيخ دبوس؟»قال: «لابد من الذهاب إلى الشيخ الأكبر بواسطة الشيخ دبوس، فهل أنت متأهبلذلك؟»

    قال: «نعم». وأكبر أن يظهر الوجل. فقال عبد الرحيم: «هلم بنا إلى الشيخ دبوس».فمشيا حتى دخلا عليه وأطلعه عبد الرحيم على الغرض. فوجه كلامه إلى عمادالدين قائلاً: «هل أنت مصمم يا عبد الجبار على الانضمام إلينا؟». قال: «نعم يا سيدي».ً أبيض كالقميص الكبري دفعه إليه.فأمره أن ينزع ثيابه التي عليه ويرتدي ثوبافلبسه فجلله إلى عقبيه. ثم أمره فنزع عمامته وحل شعره وكان طويلاً فأرسله علىكتفيه. وأشار عبد الرحيم إليه أن يتقدم إلى الشيخ دبوس ويقبل يده ففعل. ثم أومأ إليهأن يتبعه فمشى في ممرات وطرقات والحرس وقوف في جوانبها بالحراب حتى أطل علىرواق يؤدي إلى باب كبري عليه ستر وبجانبه حارسان عظيما الهامة كأنهما من الجان.فلما اقترب عبد الرحيم منهما أومأ إليهما بالإشارة (لأنهما أخرسان) أن يأذنا له فيً. فوقف وهو مطرق يترددالدخول وهما يعرفانه فأذنا له، واستبقيا عبد الجبار خارجابني الندم والعزيمة وإذا بصديقه قد عاد وقال له: «إن الشيخ مشتغل بمحاكمة الكرديالقاتل لكنه أذن لنا في الدخول».
    ومشى فتبعه عماد الدين فدخلا قاعة مظلمة في صدرها كرسي كبري قد جلس عليهالشيخ الأكبر وإلى جانبيه رجال من خاصته وقد غطوا وجوههم ما عداه.
    عماد الدين أن يتعرف الوجوه هناك إلا بعد قليل ريثما تعود النظر في الظلام فرأى ذلك ًالكردي واقفآ وهو موثق اليدين. وفي وسط القاعة جثة القتيل ملطخة بالدماء. فأشار عبد الرحيم إلى عماد الدين أن يقف معه في ناحية ففعل وأخذ يتفرس في راشد الدينً أسود يغطيه كله إلا وجهه وقد بانت الشيخوخة في ذلك الوجهفإذا هو يرتدي ثوبابتجعده وبياض لحيته لكن عينيه تبرقان كالسراجني ويكاد الشرر يتطاير منهما. وماً في جوارنا؟»عتم راشد الدين أن صاح بذلك الكردي قائلاً: «أتجسر يا هذا أن تقتل نفسا.

    فصاح الرجل: «إني لم أقتله يا مولاي وإنما هم يتهمونني زوراً؟ أتحسب أن ذلك ينطلي علينا، ألا تعلم أننا نفحص القلوبقال: «وتكذب أيضاونعرف أسرارها؟»ً، فإذا شئت فإني آتيفعاد الرجل إلى الإنكار وقال: «إنهم يتهمونني يا سيدي زورابالشهود، أو أقسم لك ببراءتي».قال: «لا حاجة بنا إلى شهود أو قسم، أنا أسأل هذا القتيل وهو ينبئني بالحقيقة».فلما قال ذلك أجفل عماد الدين، ونظر فرأى راشد الدين قد وقف وانتصب كالصنمثم خطا خطوة نحو القتيل وصاح به وهو يشري إليه بإصبعه كأنه يهدده: «الم يقتلكهذا الكردي؟ قل!»ً إلى ما يكون فسمعواً على الحضور وقلوبهم تخفق تطلعاكان السكوت مستولياالقتيل يقول بصوت ضعيف: «بلى هو قتلني!»ً: «بماذا قتلك؟»فسأله ثانيافأجاب: «بخنجره!»فلما سمع عماد الدين ذلك اقشعر بدنه. كيف لا وقد سمع امليت يتكلم وهو علىثقة من تلك الحادثة لأنه رآها بنفسه. أما راشد الدين فرجع إلى مقعده وأشار إلى بعضالوقوف بني يديه من رجاله أن يذهبوا بالرجل إلى السجن وأن يدفنوا القتيل ففعلوا. وقداستولت الدهشة على الحضور ولاسيما عماد الدين.وبعد قليل أشار راشد الدين إلى الوقفني في مجلسه بالانصراف ولم يبق غري بعضخاصته امللثمني، وأومأ إلى عبد الرحيم أن يقدم عبد الجبار فقاده بيده حتى أوقفه بنييديه فوقف وركبتاه ترتعدان من التهيب وقد عظم أمر راشد الدين في خاطره.فوجه هذا كلامه إلى عماد الدين قائلاً: «وأنت يا عبد الجبار أرجو أن تصدقنا ولاً لكنني أقرأ في وجهك الصدق. أنت تطلبتفعل كما فعل ذلك الكردي، أنت كردي أيضاالانضمام إلى رجالنا؟». قال: «نعم يا سيدي».

    قال: «وهل تعلم ما أنت مقدم عليه من الأمر العظيم؟». قال: «نعم».ً ارجع من حيث أتيت. ونحن إنماً أو خائفاقال: «لا تخدع نفسك إذا كنت مترددانطلب رجالاً أهل بسالة وصدق. وهل تعرف الخطر الذي يحدق بك؟»قال: «نعم».فتنحنح وقال: «وما الذي حملك على هذا الأمر؟». قال: «أن أتشرف بخدمة مولاناالشيخ الأعظم».قال: «من أين أتيت؟». قال: «من بيت املقدس». وخاف أن يسأله عن حقيقة غرضهفيكشف أمره ويقع في خطر املوت. فارتعدت فرائصه لكنه تجلد وصبر.فقال له راشد الدين: «أنا أعلم أنك قادم من بيت املقدس الآن ولكنني أحب أنتخبرني عن املكان الذي جئت منه قبل بيت املقدس»فتحري في الجواب وسكت وهو يفكر في هل يصدقه أم لا. وخاف أن تكون كرامةراشد الدين دلته على حقيقة غرضه الذي جاء من أجله فتلعثم لسانه. فلم يصبر راشدالدين عليه فقال: «يظهر أنك خائف. لا تخف يا بني. إنك شاب شهم ولست من طبقةً، وإنما أستفهم شعرة من شعركأولئك الزعانف الجهلاء. أنا لا أكلفك أن تقول شيئاوهي تنبئني». وأشار إلى عبد الرحيم أن يأتيه بشعرة من ذؤابة عماد الدين فجاءه بهافتناولها بني السبابة والإبهام وجعل يخاطب الشعرة قائلاً: «يا شعرة عبد الجبار قوليلي أين كان صاحبك قبل بيت املقدس؟»


    فسمع عماد الدين الجواب آتيا
    من ناحية الشعرة ضعيفا
    كأنه صادر عن وتر رنان
    وهو: «من القاهرة!».


    فقال: «قولي لي أين كان صاحبك هناك ومن هو؟»فقالت: «كان عند يوسف صلاح الدين وهو من رجال خاصته».فلما سمع عماد الدين ذلك أوشك أن يسقط على الأرض من الارتعاد وأطرق لا يحريً. وخاف أن يواصل الأسئلة ويطلع على سر قدومه إلى هناك. مرت عليه دقيقتانجواباهما أطول من سنة. ثم رأى راشد الدين تنهد عند سماع اسم صلاح الدين ورمى الشعرةمن يده وقال: «صلاح الدين يوسف؟ أطال الله بقاءه».ً. فقال راشد الدين:فاستغرب عماد الدين قوله وانتعشت آماله لكنه ظل ساكتا«كيف فارقت صلاح الدين، هل هو في صحة وسلامة؟» قال: «نعم يا سيدي».
    قال: «أتعلم ماذا يطلب منك؟». قال: «لا، لكني طوع أمر مولاي فيما يريد».ً من انقباض سحنته وقال: «أعجبنيفابتسم راشد الدين ابتسامة لم تغري شيئاجوابك يا عبد الجبار. وأنت إذا أتيح لك أن تكون من رجالنا كسبت الدنيا والآخرة. لكنذلك ليس بالأمر الهني». قال ذلك ووقف وأشار إليه أن يتبعه فتبعه وهو يسترق النظرً برأيه ولو بالإشارة. فرآه يشجعه ويطمئنه. حتى وصل راشدإلى عبد الرحيم استئناساالدين إلى جانب من جوانب تلك القاعة الواسعة املظلمة فوقف وقال لعماد الدين: «انظرهنا». وأومأ بإصبعه إلى حفرة بين يديه.

    فنظر فإذا هو على شفا هوة لا قرار لها. فقال له: «إذا كنت صادقا فيما تقوله فألق بنفسك في هذه الهوة!»

    ونظر عماد الدين إلى الحفرة فلم يشك في أنه إذا أطاعه فسيقتل لا محالة. فالتفتإلى عبد الرحيم خلسة فإذا هو يشجعه ويشري إليه بعينيه أن يخطو. وهو واثق بصدقصديقه لكنه خاف أن يكون في الأمر دسيسة وأن راشد الدين اطلع على حقيقة مهمتهفأراد الانتقام منه على هذه الصورة. على أنه تذكر ما نبهه إليه عبد الرحيم من قبل وهوً بوعدهلم يتعود الخوف أو التردد فسبقت قدمه إلى الوثوب نحو فوهة تلك الهوة مدفوعاوشجاعته. فإذا هو قد تلقته عارضة برزت وغطت تلك الفوهة. وفتحت فوهة أخرى في.ًاملكان الذي كان واقفا عليه. فلم يصدق أنه لا يزال حيا
    أما راشد الدين فأمسكه بيده وهو يقول: «الآن تأكدت صدقك. ولو لم تصدقنيلقتلت لأن فوهة الهوة تحولت إلى موقفك الأول». وأشار إليه أن يتحول نحو القاعة وهويقول: «استحققت النعمة التي تطلبها. إنك منذ الآن من أبنائي الصالحين».


    وعاد راشد الدين إلى مجلسه وأشار إلى واحد من الخدم الوقوف بني يديه بالإشارةأن يتبعه بقدح فأتاه به فتناوله وصب فيه سائلاً من إناء بجانبه وقال: «هذا ماء الحياةً. فإذا كنت على وعدكً وهو سم قاتل إذا كنت كاذباوطريق النعيم إذا كنت صادقابالطاعة وصدق النية فاشربه».فتناوله وتردد لحظة وهو ينظر إلى صديقه عبد الرحيم فرآه يشجعه فشرب ما فيالقدح وأومأ إليه الشيخ أن يقعد. فقعد وأحس بعد قليل بالخدر ثم غاب عن رشده.
    ولا تسل عن دهشته ملا أفاق من غيبوبته وفتح عينيه فرأى نفسه في حديقة كالجنةبما يصفونها به من جري الأنهار وتعانق الأشجار وتجاوب الأطيار من صادح وسابح.وأول ما نبهه من رقاده نسيم مر على وجهه ويد ملست جبينه. فإذا هي يد غادة أوحورية كأنها البدر عليها ثوب يجللها لكنه لا يكسوها لشفافته. وبيمناها مروحة منريش النعام تروح له بها. وقد وضعت يسراها على جبينه كأنها تمسح عرقه فظن نفسهأول وهلة في حلم وخاف إذا نهض أن يفقد تلك املناظر البديعة فصبر قليلاً فإذا بتلكالحورية تخاطبه بصوت رخيم قائلة: «انهض يا حبيبي إلى متى الرقاد؟»ً يشبه أثواب الأمراء لم ير على السلطانفنهض ونظر إلى نفسه فرأى عليه ثوباصلاح الدين أحسن منه. وعلى رأسه عمامة من نسيج مزركش بالقصب. وقد جلس علىبساط من أجمل أبسطة عصره عليه الصور املنسوجة بالذهب. وقضى برهة وقد أخذتهً إلى تلك الحورية وآونة ملا بني يديه أو ملا يقع عليهالدهشة ينظر تارة إلى نفسه وطورابصره من الأشجار والأزهار وما يسمعه من خرير املاء وتجاوب الأطيار، وما يفوح منالروائح العطرية مما لم ير مثله ولا خطر بباله
    وبينما هو يفكر في ذلك تقدمت إليه تلك الغانية وقد أزاحت نقابها عن رأسهاوأرسلت شعرها الذهبي على كتفيها وهي تنظر إلى عماد الدين بعينني تكادان تنطقانبعبارات الحب وتشكيان لواعج الغرام. على أنه تجلد ونظر إليها وصبر ملا يبدو منهافمدت يدها للمصافحة فناول يده وهو مازال يحسب نفسه في رؤيا فقبضت على أناملهوهي تقول: «ما بالك يا عبد الجبار مازلت تحسب نفسك في منام؟ أنسيت أنك شربت ماءالحياة من يد مولانا الشيخ الأكبر؟ إنك في الجنة الآن التي لا يدخلها إلا املستحقون؟».فتذكر القدح الذي شربه من يد راشد الدين فغلب على اعتقاده صدق دعوى ذلكالرجل وأنه في الواقع انتقل إلى الجنة بأنهارها وأشجارها وأطيارها، وأن هذه املرأةحورية من حورها. ثم تذكر سيدة امللك فأجفل وقال في نفسه: «ما لهذه املرأة تهم بقلبيلتختطفه وهو ليس لي؟». وتباعد عنها فتباعدت، وبان العتب في وجهها وتحولت عنه ثمغابت عن عينيه.
    فتركها ومشى على أرض مكسوة بالعشب الأخضر اللون كالبساط املزركش وقدً كأنهفاحت منه الروائح املنعشة فوقع بصره عن بعد على قناة يجري فيها املاء لامعاالزلال وعلى ضفتيها أشجار الفاكهة وقد وقعت أشعة الشمس من خلال الأغصان علىذلك املاء وهو يجري فتلون بألوان قوس قزح. فدنا من تلك القناة ووقف على ضفتها

    ينظر إلى الأشعة الواقعة على الحصى في قاعها كيف تتكسر وتتلون. وأنه لفي ذلك إذ رأىفي الجانب الآخر حورية برزت من بني الأشجار ومشت نحوه وهي تبتسم له. فسره أنبينه وبينها قناة تحول دون وصولها إليه وتوقع أن تقف على الضفة الأخرى وتخاطبه.فإذا هي تجاوزت الضفة ولم تزل ماشية إليه فوق سطح املاء ولم تبتل قدماها.

    وتعاظمت دهشته ملا رآها وصلت إليه وقدماها العاريتان تنتقلان فوق سطح املاءالجاري لا تقع فيه ولا تعكره أو تعيق سريه. فتحقق لديه أنه في مكان غري الأرض،وأن أولئك الحور من امللائكة. وصلت تلك الحورية إليه والهواء يعبث بشعرها ويلاعبأطراف ردائها. وبسطت يدها نحوه كأنها تستقبله وهو يحارب هواه ويتذكر سيدة امللكً يشبه ملامح حبيبته فذعروحبها إياه ويهم بالابتعاد، فرأى وجه تلك الحورية شيئاً وحدثته نفسه أن تكون هي بعينها وأن مجيئها إلى تلك الجنة منوتفرس فيها جيداجملة معجزات راشد الدين. فوقف ريثما وصلت الحورية إليه ومدت يدها نحوه فمديده وتصافحا وهو يتفرس في وجهها فكانت كلما دنت منه بعدت املشابهة بينها وبنيسيدة امللك. لكنه استأنس بها وأحب أن يحادثها عما يراه. فلما دنت منه فاحت رائحةالطيب من ثوبها فوضعت يدها على كتفه فاقشعر بدنه فقال لها: «من أنت يا هذه وأينأنا؟»

    قالت: «ألا تعرف أين أنت؟ إنك في جنة شيخ الجبل مولانا الإمام الأكبر».قال: «وهذا مقر أتباعه أجمعني؟».قالت: «نعم. ولكن لا يمكث فيها إلا من أحسن البلاء في طاعته».وأمسكت بيده ومشت فمشي وأومأت إليه أن يتبعها فوق تلك القناة فتردد هنيهةفجذبته بيده وهي تقول: «لا تخف امش». فمشى فإذا هو يخطو على شيء صلب يفصلبني قدميه وبني املاء. فظن املاء جمد تحت قدميه. ووصل إلى الجانب الآخر وسار معالفتاة وهو شديد الرغبة في معرفة حقيقة ما يراه، فلما سمع قولها قال: «هل أنا باقهنا؟»قالت: «أنت حديث العهد، وإنما جئت لترى ما أعده املولى لأتباعه ومريديه إذا قاموابأوامره. وعسى أن تكون من املستحقني».فعلم أنه هناك إلى أجل ولا يلبث أن يعود. فمشى لترويح النفس وعيناه تنتقلانبني الأشجار والرياحني ويرى الأطيار تتنافر بني أيدي تلك الحورية وفيها الكراكيوالطواويس بألوانها الجميلة. والبلابل والحساسني تتجاوب بالتغريد أو الزقزقة. والفتاةتناديها فتأتيها وتقع على كتفيها أو على يدها وتنتقل كما تأمرها كأنها تفهم لغتها.

    ثم سمع عماد الدين زئيرآ علم أنه زئيرالأسد وكان قد سمعه مرارا قال أليس هذا زئير الأسد ؟
    قالت: «بلى، وهل خفته؟ إن الأسود لا تؤذي أهل هذه الدار». ومشت حتى دنتمن مربض لأسد تحت شجرة، فإذا هو مقع وعيناه تبرقان لكنه لم ينتقل من مكانهفتقدمت الفتاة إليه ومدت يدها إلى رأسه وعبثت بشعره كما تعبث بشعر الهر فلميتحرك، فاستغرب عماد الدين ذلك أيضا.

    وجاء إلى السير فوقع نظره في بعض جوانب الحديقة على غرف مفردة تغطيهاالأزهار والأغصان فسألها عنها فقالت: «هذه مساكن الذين استحقوا البقاء هنا يتمتعونبامللذات والنعيم لا يعكر عليهم ذلك أحد».وبعد املسري برهة بني صعود وهبوط وقفت به الفتاة عند حائط وقالت له: «انظرإلى هنا». فنظر من كوة في الحائط تشرف على واد أجرد لا شيء فيه من املاء ولا الخضرة.فأجفل ملا رآه هناك من الثعابني والوحوش املفترسة تسرح بني جماجم البشر فقال لها:«أظن هذه هي الجحيم».قالت: «نعم هذه هي، فلو لم تطع الشيخ الإمام لكنت في عداد املغضوب عليهمهنا».

    لم يشأ أن يقف هناك طويلاً. فتحول وعادت معه حوريته وهي تلاطفه وتقطفًمن الثمار وتعطيه وهو كالتائه في أفكاره لا يدري ماذا يرى. وإذا هو يسمع صوتااهتزت له جوارحه وجمد الدم في عروقه لأنه صوت سيدة امللك كأنها تستغيث به. فأخذً وشمالاً وهو يحسبها على مقربة منه والحورية تنظر إليه بذهول قائلة: «مايتلفت يميناً؟». قالت: «كلا، ماذا تسمع؟»بالك ما الذي أوقفك؟». قال: «ألا تسمعني شيئاً. فرجح عنده أنه مخطئ وأنه سمعفأطرق وهو يصيخ بسمعه فلم يعد يسمع شيئاما سمعه لفرط تفكريه في سيدة امللك فأتت روحها لزيارته أو هو صوتها جاء للسلام.لكنه لم يطمئن إلى هذا الفكر والصوت الذي وصل إليه صوت استغاثة، وساءل نفسهأهي في شدة؟ وإذ كانت كذلك فما أجدره أن يسعى في إغاثتها.وكان قد شعر بارتياح إلى تلك الحورية لحسن أدبها وكثرة ما بذلته في سبيلاسترضائه واجتذاب قلبه، وهو شاب في مقتبل العمر، فغلب علي اعتقاده أنه في جنة أومكان يشبه الجنة جاءه بكرامة أو معجزة من معجزات راشد الدين، وأوشك أن يشتغلعن سيدة امللك. فلما سمع ذلك الصوت توهم أنه صوت ضميره يناديه بالثبات على حبحبيبته فلا يشتغل عنها بسواها فأحس بانقباض، وود الخروج من ذلك النعيم
    وفيما هو يفكر في ذلك لا يلتفت يميناًً كالبدر طلعة وبهاءً قد تمنطق بمنطقة من الخز أرسل جانبارفيقته فالتفت فرأى غلامامنها إلى الأمام كاملئزر، وأرسل شعره ضفائر ذهبية وعليه ثوب سماوي اللون، فلما دنامن عماد الدين انحنى انحناء الاحترام وقال بصوت رخيم: «ألا يتفضل املولى لتناولالغداء؟»
    وكان في شغل عن الطعام فلما ذكر له أحس بالجوع. فمشى في طرقة مسواة كأنهافرشت بالزعفران يحف بها من الجانبني سياج من الأزهار الجميلة ينتهي في آخره ببابكباب القصر الفخم. وقبل الوصول إلى الباب فاحت روائح الطعام الشهي مما لم يعرفمثله إلا في قصور الفاطميني في أثناء الأعياد. وملا اقتربوا من ذلك الباب فتح بنفسه،وتقدم غلامان آخران يرحبان بالقادم ومشيا بني يديه من باب إلى باب حتى وصل إلىغرفة املائدة وهو يلتفت إلى الجانبني، وقد أدهشه ما على جدران املمرات من الستائراملصورة تمثل البساتني والقصور ومواقف البذخ والرخاء، وتلفت النظر وتجتذب القلب.وأما غرفة املائدة فقد ذهبت برشده وأوقفته موقف الحرية ونسي مكانه لأن جدرانهاالأربعة مكسوة باملرايا على طول الحائط. فيظهر الشخص الواحد عشرات من املرات منكل جانب.

    فتقدمت الفتاة أولاً وأشارت إلى عماد الدين أن يتفضل فجلس على مقعد مغشىبالديباج املزركش، وبني يديه مائدة مكسوة بملاءة من الحرير الوردي ولم تمض دقائققليلة حتى تواردت الأطباق وعليها الألوان من اللحوم والفاكهة. وجلست تلك الحوريةبجانب عماد الدين وهي تلاطفه وتقدم له اللقمة بعد اللقمة وتبالغ في إكرامه، والغلمانوقوف بني أيديهما للقيام بالأوامر، فعاد عماد الدين إلى نسيان سيدة امللك وقد سحرتهتلك الفتاة بجماله ولطفها. ولاسيما بعد أن دارت الأقداح وفيها الخمور اللذيذة فأصبحلا يعرف غري تلك الساعة وقام في ذهنه أنه في النعيم الحقيقي.

    وملا رأت الفتاة ميله ورضاه أخذت في الإعراض عنه وهو يزداد شغفاً حتى أصبح يتزلف إليها ويغازلها وهي تتمنع فلما تحققت افتتانه بهاالخمور اندفاعاقالت: «لا تخرج عن حدك فأنت إنما جئت إلى هنا على سبيل التجربة. وليس الوصولإلى ما تطمع فيه سهلاً. إن من دونه بذل النفس في طاعة الإمام الأكبر».

    قالت: «كلا ولكن لابد أن تأتي عملاً يؤهلك إلى املقام في هذا النعيم دائماأكون طوع إرادتك، وإذا خاطبت الأطيار أجابتك، وتجد النعيم الحقيقي من كل شيء.ً من ذلك النعيم فعسى أن تعمل عملاً يؤهلك لبلوغه. والحقوليس ما تراه إلا مثالاً صغريايقال أني فتنت بجمالك وبسالتك وشعرت نحوك بما لم أشعر به قبلاً نحو أحد. ولكننيً لأنه فاحصً يخالف رضى مولانا، ولا أقدر أن أخفي عليه شيئالا أقدر أن آتي أمراً لعلائق املودة بيننا أدهن شعرك بطيبالقلوب يطلع على خفايا السرائر، ولكنني تأكيداخاص بي». قالت ذلك واستخرجت علبة من بني أثوابها فتحتها ففاحت منها رائحة لميشم مثلها في حياته. فأخذت بعض الطيب ودهنت به يديه وشعره. فلذ له ذلك وطابتً بيننا حتى نلتقي اللقاء الدائم إن شاء الله».نفسه. ثم قالت: «احفظ هذه الرائحة تذكاراً من ذلك الشيخ العجيب، فسكت.وبان الإعجاب في عينيها فازداد هو تهيبا

    وأفاق في اليوم التالي فإذا هو في قاعة راشد الدين كما كان من قبل وعليه الثوبً وشمالاً وينظر في ثوبه فتبادر على ذهنه أولالأبيض وشعره محلول. فجعل يتلفت يميناً. ثم ما لبث أن شم رائحة الطيب في شعره ويديه فلم يبق عنده شكوهلة أنه رأى حلماً كما تركه، ورأىأنه رأى ما رآه حقيقة. وانتبه بعد قليل لنفسه فرأى راشد الدين جالساصديقه عبد الرحيم بجانبه. فهش له وضمه إلى صدره فقال له عبد الرحيم: «إن رائحةً لك وعسى أن يتاح لك النعيم الدائم. قم واجث عند قدميالجنة تنبعث من شعرك، هنيئامولانا وقبل ركبته وادع بطول بقائه».

    فنهض وترامى على قدمي الشيخ عن اعتقاد صحيح بكرامته. وقبل ركبته فمنعهودفع إليه يده فقبلها ثم قال له الشيخ: «أنت الآن من أبنائنا الفدائيني ويلوح لي أنكلا تلبث أن ترتقي إلى مصاف املستنريين. قم إلى غرفتك وقد أوصيت الشيخ دبوس بكً. ولكنني أحب قبل خروجك أن أزودك بعهد مني». قال ذلك ونهض وأنهض عمادخرياالدين معه وهو يحدق في عينيه وعماد الدين يشعر بقوة تنبعث من عيني ذلك الرجل.ًً شديداوتوشك أن تغلبه على أمره. وقد قبض الشيخ على يدي عماد الدين بيديه قبضا


    على أنه حاملا عاد من دار النعيم التي كان فيها، عاد إلى ذكرى صلاح الدين وسيدةامللك فأصبح همه أن يخلو بعبد الرحيم ليسأله سؤالاً شغل خاطره بالأمس، وهو قولراشد الدين: «أطال الله بقاء صلاح الدين». فإنه لم يقدر على تعليله وهو يعلم تعمده.ًقتله مراراأما عبد الرحيم فاستأذن صديقه عبد الجبار في الغياب تلك الليلة التي عينوهالترقيته إلى درجة املستنريين. فبات عماد الدين على أحر من الجمر وقد تراكمت عليهالهواجس وأخذته الغرائب. وكلما تضوعت رائحة الطيب من شعره تذكر تلك الفتاة ومالقيه هناك من أسباب السعادة.ً وما كاد يطلع النهار حتى جاء صديقه عبد الرحيمً متقطعانام تلك الليلة نوماوالبشر يتجلى في عينيه فنهض عماد الدين وقبله وقال: «قد أصبحت منذ الآن أرقى منيولا يحق لي أن أناديك أخي كما كنت أفعل».
    فابتسم عبد الرحيم وهو ينظر إلى عماد الدين ويهم بالكلام ويمسك نفسه، فلمارآه عماد الدين يتردد قال له: «إذا كنت تعرف الحقيقة فأرجو أن تخبرني بها لأن ذلكيهمني كما تعلم. ولعلك من أعلم الناس بأمري مع هذا السلطان».فاعتدل عبد الرحيم في مجلسه وأظهر الاهتمام وقال: «اعلم يا صديقي عماد الدينأن عبارة الشيخ الإمام التي ذكرتها كانت مغلقة على إلى مساء الأمس، فلما صرت منً اؤتمنت عليه مثل سائر أسرار هذهاملستنريين دخلت في جملة ما عرفته. وليست هي سراً، ولذلك لا يمنعني الواجب ولا الخوف من أن أجيبكالعشرية لكنني أطلعت عليه عرضاعن سؤالك».فتطاول عماد الدين بعنقه وقال: «قل باهلل. هل يريد الشيخ الأكبر حقيقةً أن يطولبقاء مولاي صلاح الدين؟».
    قال: «نعم إنه يتمنى ذلك من كل قلبه وهو يطلبه ليل نهار».قال: «يا للعجب كيف يبعث من يقتله ثم هو يدعو بطول بقائه!».قال: «لعلك تعني ما حدث لصلاح الدين قبيل خروجك من مصر إذ نهض فيالصباح فوجد الخنجر فوق رأسه ورسالة التهديد بجانبه».قال: «نعم هذا ما أعنيه».قال: «هذا دليل على رغبة الشيخ الأكبر في طول بقاء صلاح الدين، ولولا ذلك لأمرالفدائي الذي تمكن من الدخول عليه حتى غرس الخنجر في وسادته عند رأسه بأنيغرسه في صدره ولم يكن ثمة ما يمنعه. ولكنه أمر أن يكتفي بالتهديد لرغبته في بقائه.«ًحيافاستغرب عماد الدين ذلك وقال: «لكنني لم أفهم الباعث على تلك الرغبة وهذاشيخنا حفظه الله قد اشتهر فتكه بامللوك والسلاطني. ولم يبق فيهم من لا يخافه حتىصلاح الدين نفسه فكيف هو يحب بقاءهم أحياء و..»فقطع كلامه قائلاً: «لا. لا. إنه لا يلتمس طول البقاء لأحد من هؤلاء غري صلاحالدين».فقال: «لماذا؟ أرجو أن تفصح لي».
    قال: «السبب يا أخي أن شيخنا أيده الله علم بالوحي أنه يموت في نفسه السنة التييموت فيها صلاح الدين فمن مات منهما قبل صاحبه لابد للثاني أن يتبعه في تلك السنة.فهو لذلك حريص على حياة صلاح الدين حرصه على حياة نفسه. وهل عندك شك فيصدق هذا الشيخ العظيم. قد رأيت من معجزاته ما يكفي وإن كان قليلاً من كثير».


    فأطرق عماد الدين وأخذ يفكر فيما سمعه، وما لبث أن صدق ما قاله راشد الدينبعد ما شاهده بنفسه. فاعتقد موت الرجلني في سنة واحدة، ورأى أن من مصلحة صلاحالدين أن يطول عمر راشد الدين. فتحولت همته إلى املحافظة على حياة هذا الرجل لاقتله. وعد مهمته قد انقضت وأصبح يميل إلى الخروج من ذلك الحصن والإسراع إلىصلاح الدين لينقل إليه تلك البشرى ويرى حبيبته سيدة امللك. واعترضت أفكاره رائحةالطيب ومناظر تلك الجنة لكن الحقيقة تغلبت على الوهم واشتد ميله إلى الخروج، ولاسبيل إلى ذلك إلا أن يرسله راشد الدين في مهمة لقتل أحد امللوك أو الأمراء، فالتفت إلىصديقه عبد الرحيم والامتنان باد في وجه وقال: «لا أنسى صداقتك يا عبد الرحيم، إنيً يكاد يلمس باليد. ولذلك كانت ثقتي بك عظيمة فلا ينبغيأشعر بصدق مودتك شعوراً فهل تأذن لي في أن أستخدم تلك الثقة؟»لي أن أخفي عليك شيئاقال: «هل ما بدا لك فأنت في موضع ثقتك».

    قال: «لا حاجة بي إلى بيان الأسباب التي تلجئني إلى سرعة الخروج من هذاالحصن، فأنت تعلم علاقتي بمصر، فأتقدم إليك أن تساعدني في ذلك».قال: «خروجك لا يتم إلا إذا دبروا لك مهمة تذهب في إنفاذها لقتل كبري من الكبراء».قال: «فليكن ذلك وأنا فاعل ما يأمرون به».ً أو يومني لأغتنم فرصة تساعدني».قال: «امهلني يوماقال: «إني في انتظار وعدك بارك الله فيك».قال: «واسمح لي بالذهاب الآن فإن علي واجبات تتعلق برتبتي الجديدة لابد منإنجازها وسأعود إليك بما أوفق إليه».قال: «أشكرك يا أخي».ونهض عبد الرحيم وانصرف.

    ملا خلا عماد الدين بنفسه بعد ما انتابه من الأهوال وما مر به من الغرائب، أخذً، وراجع ما كان يسمعه عن تدجيل ذلكيفكر فيما رآه وسمعه فلم يزدد إلا استغراباالزعيم فأخذ اعتقاده بكراماته يضعف ولكنه لم يستطع تعليل ما شاهده من املعجزاتتعليلاً معقولاً. كيف يطلع على الوقائع قبل وصول أخبارها؟ وكيف يكلم امليت فيجيبه؟والشعرة فتطلعه على السر؟ وهذه الجنة بما فيها من الطيبات والحور اللواتي يمشنيعلى سطح املاء فلا يعكر ويخاطبن الأطيار فتطيعهن ويلاعبن الأسود فلا تؤذيهن؟! فإذاتمثلت له هذه الظواهر لم ير مندوحة عن الاعتقاد بكرامة الشيخ راشد الدين.

    وتعب من التفكري فخطر له أن يتمشي في ذلك الحصن، ولم يبق ثمة ما يمنعهً من النباتلأنه أصبح من أهله. فنهض ومشى فرأى أرض الحصن وما يحيط به خلواإلا ما وراء ذلك الجبل من السهول البعيدة فتذكر ما شاهده بالأمس من أمثال النعيممن الأشجار والأنهار، فمال إلى استطلاع خبره وأين يمكن أن يكون. فصعد إلى بعضاملرتفعات لعله يشرف منها على تلك الحديقة فلم يوفق إلى شيء من ذلك لكنه وقع نظرهوهو يجيل بصره في السهل الذي نزل فيه يوم وصوله إلى هناك على ركب لم يستطع أنيتبني وجوههم لبعد املسافة. وملا اقتربوا وجدهم ملثمني وهم بضعة فرسان في ركابهمجماعة من املشاة كالخدم. فلم يهمه أمرهم وعاد إلى التفكري فيما هو فيه من الهواجسً لسرعة الخروج من هناك.التماساوحدثته نفسه أن يفر فوجد ذلك مستحيلاً عليه إلا بالتعرض للخطر الشديد وهوً فيفي غنى عن ذلك إذا استعان بصديقه عبد الرحيم، ولا شك عنده أنه لا يدخر وسعاسبيل إنقاذه.

    قضي ذلك اليوم واليوم التالي ولم ير عبد الرحيم، فاشتغل خاطره ولم يعرف سببً عن غرفته في أثناء ذينك اليومني.تخلفه. وزاد بلباله ملا شاهد غياب الشيخ دبوس أيضاوبلغه أنه في شغل شاغل مع الشيخ الأكبر للمباحثة في أمور مهمة حدثت بعد مجيءأناس وصلوا بالأمس. فتذكر الركب الذين رآهم قادمني أول البارحة فمال إلى استطلاعحقيقتهم فلم ينبئه منبئ. لأن هذه الأخبار لا يتناولها إلا الخاصة من املستنريين. فصبرنفسه حتى يأتي صديقه عبد الرحيم فلما استبطأه استفهم بعض الرفاق عنه فقيل لهأنه مع نخبة املستنريين في شاغل عند الشيخ الأكبر.ً من الانتظار، ومضى نصف اليوم الرابعً إلى الاستطلاع لكنه لم ير بدافازداد شوقاً وهم بالبحث عنه فإذا هو قادم نحوه،ً عظيماً وأخذ امللل منه مأخذاولم يره، فضاق ذرعافاستقبله استقبال الظمآن للماء، فأكب عليه عبد الرحيم وقبله وأخذ يعتذر عن تأخرهقائلاً: «أعذرني يا أخي، كنت في شاغل لم يكن في الحسبان وكلما عزمت على املجيء إليكيحدث شاغل جديد».

    قال: «نسيت قلقي واضطرابي حال رؤيتك، وأشعر أني أسبب لك تعبايمكنك أن تتخلص من هذا التعب بتدبري مهمة أخرج بها من هذا الحصن. هل وفقتإلى شيء من ذلك؟»قال وهو يضحك للمداعبة: «وفقت إلى نصف الطلب فقط».قال: «كيف ذلك؟»ً بالخروج من هذا الحصن لقتل أحد الأمراء وقد استصدرتقال: «أنت تطلب أمراً بقتل أحد الأمراء ولكن بلا خروج من هذا الحصن».لك أمرافاستغرب عماد الدين قوله وحمله على املزاح فقال: «باهلل قل لي الصحيح ألم توفقإلى شيء بعد؟»ً، قد صدر أمر الشيخ الأكبر لك أن تفتك بأمري هوقال: «أقول لك الصحيح تمامامقيم في هذا الحصن».ورأى الجد في عيني عبد الرحيم فانقبضت نفسه لأن رغبته إنما هي في الخروجفقط وليس في الفتك والقتل فقال: «أفصح يا أخي فإنك أزعجتني بهذه البشارة. وأنتتعلم أني أطلب الخروج قبل القتل».

    قال: «أعلم ذلك ولكن ما الحيلة وقد صدر أمر الشيخ؟ وهي ثقة كبرى فيك لأناملهمة التي سيعهد فيها إليك شاقة. وهي ستكون السبب في تعجيل ارتقائك وقد رأيتمولانا الشيخ كثري الرغبة في ذلك».فأطرق عماد الدين وأعمل فكرته فيما سمعه، ولم يجد فيه حيلة فقال: «هل أعدً لي؟»كلامك هذا بلاغاقال: «كلا. سوف يستقدمك الشيخ الإمام نفسه ويبث فيك روح العزيمة والثباتً لعلمي أنك في قلق».ويأمرك بما يريد. أما أنا فأخاطبك مخاطبة الصديق سرافقطع عماد الدين كلامه وقال: «اسمح لي يا أخي أن أقول لك أنك زدتني بهذا.«ًالخبر قلقاً لا يريد أنقال: «ستحمد عاقبة هذا القلق يا عبد الجبار». وابتسم كأنه يكتم سرايبوح به.فقال: «لم أفهم مرادك، باهلل ألا خففت بعض ما بي ولو بالتلميح أنا أعلم فضيلةاملحافظة على السر. ولا أطلب منك أن تبوح بسر مقدس اؤتمنت عليه، لكنني أرجوتخفيف قلقي بعض الشيء. قل لي من هو الأمري أو الكبري الذي سيعهد إلي في قتله وهومقيم هنا؟ إني لا أعرف كبراء هذا الحصن».

    قال: «هو ليس من كبرائنا وإنما هو طارق جاءنا منذ يومني».ًفتذكر عماد الدين الركب الذين رآهم قادمني في ذلك السهل فقال: «رأيت ركباً إلى هذا الجبل منذ بضعة أيام لعله كان فيه؟»قادما.«ًً خطرياقال: «نعم هو جاء في ركب. أعلم أني أسر إليك أمراوخفض صوته، فقال عماد الدين: «علمت ذلك ولكنني أستغرب قدوم هذا العدوليلقى حياته بني يدي عدوه».



    قال: «ليس هو عدواصغريان قبل أن تصري املشيخة إلى مولانا راشد الدين. ولعلك تعلم أن مولانا هذا قبلأن صارت إليه الإمامة كان يقيم في مكان اسمه (عقر السدن) وخدم شيخ الإسماعيليةفي (الاموت) بالديلم، وتفقه على يده في العلم والدين، ثم انتقل إلى سوريا ونزل في حلبً. وكان يجلس على صخروأخذ يعظ ويعلم واشتهر بالتقوى فتقاطر إليه الناس أفواجاويعظهم وهو جامد كالصخر. وإنما سحر الناس ببيانه فكثر أصحابه ومريدوه. وكانشيخ الإسماعيلية يومئذ رجلاً اسمه أبو محمد فخافه على منصبه وبعث إليه من يقتلهً حتى ضعف أمر أبي محمد فخلفه وانتقلفاختفى في كهف قرب حلب وما زال مختفياإلى هذا املكان. هذه خلاصة سرية مولانا. فضيف اليوم من أعز أصدقائه الذين جاهدوافي نصرته ورافقه إلى الكهف ثم شغل عنه بالأسفار. وعاد الآن في مهمة لا أعلم ما هي،فلاقاه مولانا أحسن ملاقاة واختلى به غري مرة لا أدري ما دار بينهما خلالها، لكنً وأنه من أعز أصدقائه. ومع ذلك فإنه بعثالشائع بني رجالنا أن مولانا فرح به كثرياً وأخبرني عن تقديره بسالتك حق قدرها وسألني إذا كنت تليق بمهمةإلي بالأمس سراخطرية فأكدت له اقتدارك على ذلك وأنك راغب في مهمة يعهد فيها إليك. ولم أكن أحسبً ووضع في ثقة كبرى وأسر إلي بأنهً كثرياأنها داخل هذا الحصن. فرأيته أبدى اهتمامايحب أن يتخلص من هذا الصديق القديم على يدك».
    وكان عماد الدين في أثناء حديث عبد الرحيم مصغياوكيف أنه عمد إلى الفتك بصديق قديم له، لأنه رأى بقاءه حجر عثرة في طريقه. فضعفاعتقاده بكرامته لأنه لا يعرف ولاية أو كرامة تأمر بخيانة الأصدقاء. وأخذ ظنه يتغريفيه. وأصبح يخافه على نفسه، ولكنه لم يجسر على التصريح به فقال: «الحقيقة أنهاثقة عظيمة في كلينا، ولكن هل أنت واثق أن الرجل املشار إليه كان من أصدقاء مولاناالشيخ؟»

    قال: «إني على ثقة تامة. وقد يخطر لك أن تنتقد عمل الشيخ لأنه عمد إلى قتلصديقه ولكنك ستحمد عمله بعد حني. فالآن».ً بعمله من حيث دفاعه عن سلطته فأعذرهفقطع كلامه قائلاً: «ربما كان مصيباعليه. لكنني أصبحت منذ الآن أخاف على حياتي وحياتك». قال ذلك بلحن التصريح عمافي الضمري ولو تحت الخطر.ووافق ذلك التصريح هوى في نفس عبد الرحيم فابتسم ابتسامة املصادقة وقال:ً. وهناك أمور ظهرت لي بعد انتظامي في سلك«لا ألومك على هذا الشك لأنه خطر لي أيضااملستنريين، ربما سنحت الفرصة لبيانها. وأما الآن فاملطلوب أن تعلم املهمة التي سيعقدفيها إليك، فلا تتردد في قبولها، وسترى أني ناصح لك».

    مكث عماد الدين على مثل الجمر وهو يردد ما سمعه عن راشد الدين وتغلبت عليهً اقتداره. وبينما هو في ذلك إذ جاءه خادم للشيخالشكوك في كراماته. لكنه مازال مكبراً مماأصم أبكم مثل سائر خدمه. وإنما يقتني الصم والبكم للخدمة لئلا يفهموا شيئايدور بينه وبني رجاله. فهم يحملون الأوامر بالإشارة. فلما جاء ذلك الأبكم يطلبه مشيفي أثره حتى دخل به على راشد الدين وهو في غرفة صغرية ليس فيها سواه. وقد تخففً ويداه وراء ظهره وفيه عرج قليل.ً وإيابابعمامة صغرية وجعل يتمشى ذهابافلما رآه عماد الدين، سيطرت عليه الرهبة ووقف وقفة الاحترام. فأشار راشد الدينإلى الحارس أن ينصرف. وأقفل الباب وراءه ولم يبق عنده إلا عماد الدين. فدعاه إلى أنيقترب منه. وابتسم وقال له: «انظر في عيني».فنظر فإذا هما تلمعان ويكاد الشرر يتطاير منهما.فقال راشد الدين: «ماذا ترى فيهما؟»ً يا مولاي غري النور والذكاء».فاستغرب سؤاله وقال: «لا أرى فيهما شيئاقال: «أما أنا فأرى في عينيك أشياء كثرية، إني أقرأ فيهما ما يكنه ضمريك».فخاف عماد الدين أن يطلع راشد على ما خامره من الشكوك فيه فقال: «لا غرابةفي ذلك فقد تحققناه من قبل».

    قال: «إن في هذا البيت املنفرد داخل سور هذا الحصن أمريامن هذا العالم بلا ضوضاء ولا شكوى وأن يكون ذلك على يدك. فما رأيك؟».فانحنى انحناء الطاعة وقال: «وهل للعبد رأي بني يدي مولاه؟ إنما يأمره فيفعل».فقبض على أنامل عماد الدين بكفيه وأمره أن ينظر في عينيه ثم قال له: «أريد ياعبد الجبار أن تقتل الشيخ سليمان اللعني. تقتله وتخمد أنفاسه هكذا أريد».
    فأحس عماد الدين عند سماع ذلك الصوت على هذا الشكل بقشعريرة جرت فيعروقه. وكأن شرارة كهربائية تطايرت أمام بصره. فأغمض جفنيه رغم إرادته. فقالراشد الدين: «قد أحسنت يا عبد الجبار (عماد الدين) أنك فاعل ما أريد وسوف تنالجزاء أمانتك. واعلم أنك منذ الآن خادم لسليمان أو الشيخ سليمان كما يسمونه. فالبسلباس الخدم وغري قيافتك وابذل جهدك في إرضائه حتى تغتنم منه غرة تقتله فيها ولايشعر أحد بك. وأحب أن يكون ذلك خارج القلعة. وأنت عند ذلك من طبقة املستنريين».ثم أدنى شفتيه من أذنه وقال له: «ومع الرجل امرأة بارعة في الجمال ستكون غنيمةلك مع سائر ما يمتلكه من أثاث وغريه. ويمكنك التعويل على صديقك ولدنا عبد الرحيمفي بعض التفصيل. وهذا يكفي، امض الآن إلى نائبنا الشيخ دبوس وهو يتم تجهيزكبما يلزم». قال ذلك وترك أنامله فودعه وخرج وهو يرتجف من عظم التأثر وأخذ يفكرفيمن عساه أن يكون سليمان هذا. ولم يهمه أن تكون امرأته جميلة وهو لا يرضى من.سيدة امللك بديلاً

    سار توايطلب منه فحال دخوله عليه قال له: «ادخل يا عبد الجبار واقفل الباب».فدخل ونهض الشيخ دبوس بنفسه فأعطاه لباس الخدم وأصلح شعره وقيافتهً وقال له: «تأخذ هذا الكتاب إلى ذلك املنزل وتكونً ودفع إليه كتابابحيث تغري شكله كثرياً لصاحبه كما أمرك مولانا الشيخ الأكبر، أفهمت؟»خادماً. وقبل خروجه نظر إلى وجهه في املرآةً وخرج وهو كالخادم تمامافأشار مطيعافأنكر نفسه. ونظر في بطاقة الشيخ دبوس إلى سليمان وهو يتردد في ذهابه ويقول فينفسه: «كيف أقتل هذا الرجل ولا ثأر بيني وبينه؟». ثم خطر له قول عبد الرحيم أنهسيجد في قتله راحة فوقع في حيرة

    وما عتم أن وصل إلى املنزل الذي ذكروه له فوجد الباب مقفلاً فأخذ في البحث عنالشيخ سليمان في ذلك الجوار فلم يقف له على خبر، فقعد على صخر في ظل البيت ينتظر


    قدومه لعله ذهب في حاجة لا يلبث أن يعود منها. واستغرق في هواجسه وتفقد الخنجرالذي خبأه في ثوبه لاستعماله عند سنوح الفرصة. لكنه مازال يتردد في أمر القتل.ً عن بعد وعلى رأسه عمامة خضراء اللون كبريةوفيما هو في ذلك إذ رأى رجلاً قادماالحجم وقد أرسل شعره تحتها حول رأسه إلى كتفيه وتزمل بجبة طويلة وعلق في صدرهسبحة طويلة وحمل سبحة أخرى بيده يعدد حباتها ويتمتم كأنه يصلي أو يدعو كمايفعل املنقطعون عن العالم إلى الصلوات والدعوات، فتحقق أنه الشيخ سليمان لا محالة،فجعل يراقب حركاته وهو قادم حتى دنا منه فتقدم إليه وهم بتقبيل يديه ودفع إليهبطاقة الشيخ دبوس فتناولها وفضها وقرأها وهو لم ينظر إلى عماد الدين بعد. فلما أتمقراءتها رفع بصره إليه وقال: «يقول أخونا الشيخ دبوس أن مولانا الشيخ الأكبر بعثكلخدمتنا».
    قال: «نعم يا سيدي وهل يتم لي هذا الحظ؟»قال: «إنني في غنى عن الخدم لأني أحب الخلوة بنفسي للصلاة والدعاء وطعامنايأتينا من مطبخ الجماعة. فما هي الحاجة إلى الخدم؟».وكان عماد الدين يسمع قوله وهو يتفرس في سحنته كأنه رأى ذلك الوجه وسمعذلك الصوت من قبل. فلما فرغ الشيخ سليمان من قوله أجابه عماد الدين: «قد أمرنيالأستاذ الأكبر أن أقف بباب مولاي أخدمه بما يحتاج إليه فإن كان في شاغل بالصلاة أوغريها فلا شأن لي به، وإنما ألبي أمره إذا أمرني فأجلب له الطعام أو ما يحتاج إليه منالأمور».ً. ما اسمك؟». قال: «عبد الجبار».قال: «حسناقال: «اقعد هنا وإني شاكر لأخينا الشيخ فضله. وعلى كل حال لا حاجة لي بك فيالليل فإذا غابت الشمس انصرف إلى مكانك».ومشى نحو الباب وتناول املفتاح ليفتحه وعماد الدين يراقب حركاته ويبحث فيذاكرته عما يعرفه عن ذلك الرجل وأين رآه في دمشق أو القدس أو مصر فلم يخطر لهشخص يعرفه بهذا الاسم.

    دخل الشيخ سليمان املنزل وظل عماد الدين جالساً في تصوره، فصرف فكره عنهبأمر هذا الرجل. ولم يتذكر أين رآه فظن نفسه واهماوعاد إلى التفكري في صلاح الدين والخروج من ذلك الحصن ليخبره بما عمله ولريى سيدةامللك على فراغ واطمئنان.

    وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فذهب ليأتيه بالعشاء وكانوا قد أعدوه لهفي أطباق فحملها فوق رأسه حتى أتى الباب وقرعه وطال انتظاره قبل أن يفتحه له.ً وقال له: «قد جاء الغروبوملا فتحه تناول الطعام منه وأدخله بيده ودفع إليه دينارافانصرف إلى شأنك يا عبد الجبار».فتناول الدينار وأظهر الامتنان وانصرف وهو يفكر في أمر هذا الرجل وحرصهالشديد على منزله حتى لا يأذن لخادمه بالدخول إليه. وفيما هو في الطريق لقيه عبدالرحيم فسلم عليه وسأله عما جرى فأخبره بما شاهده وما استغربه من حال الشيخسليمان، فضحك عبد الرحيم وقال: «لم يسمح لك بالدخول، لا بأس؟ ألم تتذكر أنكتعرفه من قبل؟».قال: «تصورت أول وهلة أني رأيت ذلك الوجه أو على الأقل سمعت ذلك الصوت..«ًلكنني غريت فكري لأني وجدت نفسي واهماً وستبدو لك الحقيقة بعدفقال وهو يحك عثنونه ويخفي ضحكة: «قد تكون واهماقليل. لكن كيف أشار بانصرافك الآن وهو قد يحتاج إليك في الليل؟»قال: «لا أدري ويظهر لي أنه يكتم أشياء لا يحب أن أطلع عليها. أظنك عرفت عنهًشيئآ لم تقصه علي».

    قال عبد الرحيم: «عرفت عنه أشياء كثرية لا أقدر أن أبوح بها كما تعلم، لكنني أقدرأن أقول لك بأنه من أصحاب املطامع السياسية وهي التي ستجر إليه حتفه، ويظهر ليً لا يوافقه عليها. وهو يعرفهأنه أراد أن يشارك شيخنا سلطانه، أو أنه طلب منه أموراً تقلل من هيبته فأحب التخلص منه. هذاً فخاف إذا أغضبه أن يشيع عنه أموراصغرياهو الذي لحظته إلى الآن وسترى الحقيقة وأنت أولى مني بكشفها».فقال: «هذا أول يوم رأيته فيه وقد صرفني ساعة الغروب وسأعود إليه في صباحالغد».ً من منزله لعله يحتاج إليك أو لعلكقال: «هب أنه صرفك فيمكنك أن تبقى قريباترى فرصة مناسبة للقيام بمهمتك».وكانا ماشيني وقد أخذت الظلال تتكاثف وأوشك الظلام أن يسدل نقابه. فقالعماد الدين: «إلى أين نحن ذاهبان الآن؟». قال: «إلى حيث تشاء».قال: «أحب أن أحادثك في بعض الأمور». قال: «تعال إلى غرفتي إنها على مقربة منهذا املكان». ومشى حتى دخل الغرفة وفيها مصباح ضعيف أضاءه له بعض الخدم.فقال عماد الدين: «أحب أن نكون في خلوة».

    فأومأ عبد الرحيم إلى خادمه بالانصراف وقعد. وأشار إلى صديقه أن يقعد فقعدوهو يتنهد. فقال له عبد الرحيم: «مالك يا صاحبي ملاذا تتنهد؟»ً وقد أطعتكقال: «أتنهد يا أخي لأني أشعر كأني في قفص لا أرى لي منه مخرجاًفي كل شيء كما رأيت ولا يمكنني أن أنكر صدق نصيحتك لي كل مرة. ولكنك تعلم أيضاأني لا أقدر على البقاء هنا طويلاً ولي في مصر أناس ينتظرون رجوعي و..». وسكت.فأدرك عبد الرحيم ما يعنيه فقال: «أتريد أن تخرج من هذا الحصن؟»قال: «نعم أريد ذلك. أرجو أن تساعدني عليه».قال: «وعدتك أني فاعل ما تريد ولكل أجل كتاب. إني مدبر طريقة لخروجنا كلينا».ً عازم على الخروج؟». قال: «نعمففرح عماد الدين بهذه البشرى وقال: «وأنت أيضا.«ًوربما اتفق خروجنا معاقال: «هذا هو الأفضل. وقد اطمأن بالي الآن. وإن كنت لا أعرف سبب رغبتك فيالخروج بعد أن صرت من خاصة الإسماعيلية واطلعت على أسرارها».
    فأشار إليه بسبابته على فمه أن يسكت وقال: «سوف نتكلم عن ذلك في فرصةأخرى. أما من حيث رغبتك في الخروج فتدبريه علي حاملا تفرغ من مهمتك. تعال إليفتجدني هنا في أكثر الأوقات وإنما يطلب منك أن تسهر على مهمتك املعلومة».ً، إني ذاهب كما قلت». وأشار إلى خصره وقال: «وهذا هو الخنجر الذيقال: «حسناسأغمده في صدر الشيخ لغري ذنب له عندي». ثم استأنف الكلام قائلاً: «ولكن الشيخراشد قال لي أن للرجل زوجة ستكون غنيمة لي فهل هي معه في هذا املنزل. وقد أوعزإلي الشيخ أن أعول عليك في بعض التفاصيل فما هو رأيك؟»قال: «رأيي أن تفتك بهذا الشيخ في أول فرصة. أما امرأته التي أشار إليها شيخنافليست هنا. وإنما هي في منزل خارج الحصن بجوار القرية القريبة منه مع سائر أهلهوخدمه».قال: «وسمعت من شيخنا أنه يفضل أن أقتله خارج الحصن. فهل هو يذهب إلىهناك؟»

    قال: «قد أذن له في الذهاب متى شاء وهو يذهب كل ليلة تقريباً وتقضي عليه ومتى قتلته أصبحت امرأته وسائر ما يملكه حلالاً لك».وجوده خارجافقال عماد الدين: «اسمح لي أن أستشريك في أمر آخر. ما قولك إذا قضيت مهمتي وأنا خارج هذا الحصن في أن أبقى خارجآ وانصرف

    قال: «نعم الرأي هو. وأنا أتبعك على عجل».فقال: «وكيف تعلم أني فرغت من مهمتي؟». قال: «متى صرت في آخر هذا السهل.«ًً وحاملا أرى املشعل من هنا أخرج إليك ونذهب معاأوقد مشعلاً مزدوجافانبسطت نفس عماد الدين لهذا الرأي وهم بالانصراف فأمسكه عبد الرحيم وجذبهإليه وقال: «احذر إن تحدثك نفسك وأنت خارج الحصن أن تفر من غري أن تقتل الشيخ.«ًسليمان. بل يجب أن تقتله ولو لم تستطع الفرار. اسمع نصحي هذه املرة أيضاً سأفعل ما تقول، ولكن هل أقدر على الخروج من باب الحصن بلاقال: «حسناإذن؟»

    قال: «بارك الله فيك — قد انشرح صدري الآن وسأذكر لك هذا الفضل في جملةأفضالك». قال ذلك ومشى نحو منزل الشيخ سليمان وقد اشتد الظلام. فلما دنا منً منه وبيده مصباح.املنزل رأى ذلك الشيخ خارجافتقدم كأنه رآه مصادفة وحياه وأكب على يده يقبلها وقال: «كيف تحمل املصباحبيدك وأنا خادمك قد أمرني مولانا الشيخ بخدمتك؟». قال ذلك وتناول املصباح منهومشى بني يديه حتى دنا من الباب ففتحوه له. فأحب الشيخ أن يسترجع املصباح منهً للثقلة عنه وقال: «إذا علم مولانا الشيخ الأكبر أني لم أقمفأبى أن يعطيه إياه تخفيفابحق خدمتك غضب علي وعنفني»

    فأطاعه ومشى ولم يعترضه أحد لأنه ذكر كلمة الخروج للبواب. ومشى بني يديالشيخ والطريق أكثره منحدر حتى إذا فرغ من الانحدار وقف الشيخ وقال: «بارك اللهفيك هات املصباح. إنني على مقربة من منزلي».قال: «إني أسري بني يديك إلى باب املنزل».قال: «لا حاجة إلى تعبك. هذا هو املنزل». وأشار بإصبعه إلى نور ضعيف لا يظهرسواه في ذلك السهل.فقال: «بل أسري معك حسب أمر مولاي».فوقف الشيخ ومد يده ليتناول املصباح منه فامتنع عماد الدين عن أن يناوله إياهفغضب الشيخ وقال بانتهار: «هات املصباح يا غلام وانصرف لسبيلك».
    فقال عماد الدين: «أهذا جزاء من يريد القيام بخدمتك؟». قال ذلك واستل خنجرهوأغمده في قلبه. فوضع الشيخ كفه على موضع الضربة وصاح: «آه. قتلتني يا لعني.ويلاه آه. ماذا فعلت معك؟».فهم عماد الدين أن يثني الضربة فأمسكه بيده الأخرى وهي ترتعد وقال: «هذهالطعنة تكفي لقتلي، فأغمد الثانية في صدر تلك الخائنة. انظر. إني مسامحك على قتلي،لأني أستحق القتل، ولكن هناك امرأة هناك في هذا املنزل حيث ترى النور امرأة أحقبالقتل مني!. باهلل ألا ذهبت إليها وقتلتها، وخذ ما في جيبي من النقود والجواهر مكافأةلك». قال ذلك وسقط وعماد الدين يستغرب قوله فأكب عليه وفتش جيبه فوجد فيهً وجواهر استخرجها وتركه يتخبط في دمه.ً ونقوداأوراقاً إلى مصر ومعه النقود. فترجحمشى وهو يفكر في هل يذهب إلى ذلك املنزل أم يسري توالديه الذهاب إلى مصر مخافة أن يكون في ذهابه إلى املنزل ما يعيقه عن املسري أو ربمابعث راشد الدين في استقدامه ليعود إلى الحصن. وقد كان في عزمه أن يفر قبل قتلالرجل لو لم يلح عليه عبد الرحيم بقتله فأطاعه وهو لا يعلم السبب لكنه استخلصهورأى في طاعته خيرآ
    فلما رجح الفرار وقف يفكر في الطريق املؤدي إلى مصر وقد اشتد الظلام وهو لايميز الطرق ولا يعرف الجهات. وتذكر وصية القتيل وغرابتها واستنتج منها أنه ناقمعلى امرأة يريد قتلها. فرأى أن يذهب إلى املنزل ويستدل من هناك على الطريق. فمسحخنجره وأغمده وأصلح من شأنه وأطفأ املصباح حتى لا يراه أحد ومشى نحو النور.وملا اقترب من املنزل جعل خطاه خفيفة كأنه يتلمس الطريق. وأصغى بسمعه وتطاولً له فيبعنقه. وخطا خطوات قليلة حتى أوشك أن يدق الباب. فسمع رجلاً يخاطب رفيقاذلك البيت قائلاً: «الم تر مصباح الشيخ؟».ً منذ هنيهة على بعد يشبه مصباحه».فأجابه الآخر: «رأيت مصباحاقال: «بل هو بعينه ثم انطفأ. ماذا جرى له يا ترى؟»قال: «لا تخف عليه. إنه طويل العمر».قال: «أراك تحسده على حياته وهو من أشقى خلق الله».قال: «صدقت لم أر أشقى حياة منه».

    فقطع الآخر كلامه قائلاً: «بل أشقى منه هذه املسكينة التي لا يبرح يعذبهاويضربها و..».

    فقال: «صدقت، مسكينة!. إن قلبي يتقطع عليها أحياناأنتصر لها..»فقال ذاك: «مالنا ولها؟ إنما نحن نلتفت إلى مصلحتنا، فإذا وفي لنا بما وعدنا بهحصلنا على السعادة الحقيقية. إذ نصري من كبار الأمراء! أليس كذلك؟»ً؟»فقال الآخر: «هل تعتقد كل ما يقوله الشيخ صحيحافقال: «إذا لم يصح إلا بعضه فإننا نكون سعداء!. يظهر أنك لم تفهم حقيقةمهمته عند شيخ الإسماعيلية».قال: «فهمتها، كيف لا أفهمها؟»ً للشيخ راشدقال: «لا. لم تفهمها كما هي. أعلم أن مولانا الشيخ هذا كان صديقاًً، وقد أعانه وارتكب معه أموراالدين سنان رئيس الإسماعيلية الآن قبل أن صار رئيساكثرية حتى تمكن راشد الدين من هذه الرياسة. فحسده صاحبنا فأراد أن يعمل عملاًيفوق به على صاحبه فذهب إلى مصر وطمع في الخلافة!».فضحك الآخر وقال: «الخلافة؟»
    قال: «نعم طمع أن يكون خليفة وسمى نفسه أبا الحسن وادعى النسب الفاطميوصدقه الناس. وملا مات خليفة مصر العاضد بايعه جماعة من املصريني. ثم انكشفأمره لصلاح الدين وقبض على رفاقه ونجا هو بنفسه وجاء الشام. وأنت تعلم ما جرىبعد ذلك، وكيف كلف بعض الفدائيني الذين يقتلون القتيل بدرهمني فاختطفوا له هذهاملرأة من بيتها وهي تكرهه ولا تطيق أن تراه».ً: «احذر أن تذكر الفدائيني بسوء. فإننا في دارهم.فقطع الآخر كلامه وقال همساوأما هذه املرأة فأنت لا تعرف من هي: مسكينة كم قاست منه قبحه الله! لا أظن لهانجاة إلا بموته».فضحك ذاك وقال: «إنه طويل الحياة، لا خوف عليه ولاسيما إذا نجح في مهمتهعند راشد الدين، والحق يقال إنه يحب هذه املرأة ويعدها بكل خري إذا أحبته. لكنها لاتحبه، ولذلك يعذبها».

    ففهم عماد من هذا الحديث أنه قتل أبا الحسن، لكنه لم يكن يعرف علاقته بسيدةامللك، وإنما يعرف أنه من الخارجني على صلاح الدين وأنه نجا من القتل. فرقص قلبهً لأنه سيذهب إلى صلاح الدين بخبرين مهمني: الأول ذهاب الخطر على حياته منفرحاراشد الدين والثاني أنه نجا من أبي الحسن. لكنه سمع في أثناء الحديث أنه يعذب امرأته
    حتى أشفق عليها الخدم. وتذكر أن أبا الحسن أمره بقتلها وأجازه على ذلك. وكان عمادالدين قد أصبح بعد تعلقه بسيدة امللك يشفق على كل أنثى لأجلها. فأحس بميل إلى إنقاذهذه املسكينة. فتقدم إلى الباب وطرقه فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: «من الطارق؟»وقال لرفيقه: «لعله مولانا الشيخ سليمان ألم أقل لك أني رأيت مصباحه؟»فقال عماد الدين: «إني رسول من الشيخ سليمان».ففتح أحدهما الباب ودخل الآخر فأتى بالنور وأدناه من وجه عماد الدين فرأياهورآهما فلم يذكر أنه يعرف أحدهما، لكنه عرف من زيهما أنهما من أهل دمشق وكانقد لحظ ذلك من لهجتهما. وكلاهما في حدود الكهولة فتقدم أحدهما وقال لعماد الدين:«ماذا تريد؟».قال: «بعثني الشيخ سليمان في مهمة ومعي هذا املصباح علامة لصدق الرسالةفانطفأ في أثناء الطريق».قال: «صدقت وما الذي تريده؟»
    قال: «أمرني أن آتيه بامرأته على بغلتها وهو في انتظارها بباب الحصن».فالتفت الرجلان أحدهما إلى الآخر لفتة الاستغراب ولسان حالهما يقول: «كيفيبعث الشيخ يطلب امرأته على بغلتها إلى الحصن وما الذي يريده منها هناك؟». فقالأحدهما: «وهل يطلب امرأته وحدها؟»قال: «يطلبها مع ما تريد حمله من متاعها وثيابها».ًقال: «علينا أن نبلغها الرسالة». ودخل الرجل والنور بيده وظل عماد الدين واقفاوقد أصاخ سمعه. وأول شيء سمعه قبل وصول الرسول أنني وتأوه وصوت ضعيفيقول: «ويلك من الله يا خائن.. ألا تخاف العقاب يوم الدين؟ أين يا موت. متى تأتيساعتي وأتخلص من هذه الحياة.. آه.. ما بالهم يتآمرون علي؟»وملا سمع عماد الدين ذلك الصوت اقشعر بدنه لأنه كثري الشبه بصوت سيدة امللك.وحدثته نفسه أن يتقدم لرياها ولكنه صبر ليسمع ما يدور بينها وبني الخادم. فإذا هويقول لها: «إن سيدي الشيخ بعث يطلب مولاتي إليه في هذا الحصن».فصاحت فيه: «إلى أين؟ من هو سيدك هذا ما بالكم تزعجونني بالأسئلة. دعونيأنم لحظة لكي أنسى فيها مصائبي».
    قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن مولاي بعث رسولاً خاصاالدين لكي يحملك إليه بما تريدين حملهفقالت: «لا. لا أذهب إلا محمولة على خشبة. دعوني منه. لعنة الله عليه. ويا ويلهمن الله ومن يوم الدين. آه. آه. حملني إلى بلاد ليس فيها من يعرفني ولم يشفق علىقلبي.. آه.. كل بلائي من هذا القلب!»وأصبح عماد الدين يرتعد من عظم التأثر لأن الصوت صوت سيدة امللك. ولو كانً بما بينها وبني أبي الحسن ملا شك في أنها هي، لكنه استبعد وصولها إلى هناكعاملاً لحبيبته لأنها منً لأمرأة مظلومة إكراماوهي في ظل صلاح الدين. وإنما أرتعد أنتصاراجنسها. وزادت نقمته لأن صوتها يشبه صوتها. ثم سمع الرجل يخاطبها قائلاً: «والآنيا سيدتي ماذا تريدين أن نفعل؟ لابد لنا من أخذك إليه حسب أمره وهذا رسوله واقفبالباب وليس في الإمكان رد طلبه، فالأوفق أن تنهضي راضية».فلما سمعت تهديده صاحت صيحة وقف لها شعر عماد الدين قائلة: «أتهددوننيً؟ يريد هذا الشقي أن يحملني على أيدي اللصوص كما خطفني من مصربالأخذ قهرابأيدي أتباعه قبل الآن؟». ثم خفضت صوتها وغصت بدموعها وقالت: «ولكن الله بعثً أنقذني من مخالب املوت وأنقذ شرفي وحياتي». ثم تنهدتً شجاعاإلي في تلك املرة ملاكاوقالت: «آه. أين أنت يا عماد الدين؟
    فلما سمع عماد الدين نداءها لم يتمالك عن الوثوب كالأسد الكاسر وقد تحقق أنتلك املظلومة حبيبته سيدة امللك وأجابها: «لبيك. لبيك. يا سيدتي».وما لبثت بعد أن سمعت صوته حتى رأته أمامها وقد أزاح الخادم بيده وتقدمنحوها وهو يقول: «مولاتي سيدة امللك أنت هنا في هذا العذاب؟»فشخصت إليه شخوص الأبله كأنها أصيبت بجنة وقد جمدت عيناها وعقد لسانهاولم تعد تستطيع النطق، لكنها تماسكت وتوهمت نفسها في حلم فقالت وصوتها يتقطعوهو مختنق: «عماد الدين؟ عماد.. الدين؟! آه.. يا ليت ذلك كان في اليقظة!»وغطت وجهها بكفيها وأخذت في البكاء، فتقدم عماد الدين نحوها وقد تقطع قلبهلرؤيتها وهي في شدة الضعف، ولو أنه شاهدها بدون أن تناديه ملا عرفها. فأمسك بيدهاوقال: «أنت في يقظة يا سيدتي. أنا عماد الدين. أنت في يقظة وروحي فداك فلا تخافي».فلما سمعت صوته فتحت عينيها والدمع يغشاهما ونظرت إليه وهو في زي غريً من الدمع فمسحت عينيهازيه. لكنها عرفت صوته وتفرست في وجهه وهي لا ترى شيئابكمها فعرفت عينيه فصاحت: «عماد الدين! أنت عماد الدين؟ من أرسلك إلي؟ لا. لا.لست عماد الدين. أنت خادم ذلك الخائن جئت لتأخذني إليه. باهلل قل لي، هل أنت عماد
    الدين؟». وضحكت كالأبله املعتوه وقالت: «أنت عماد الدين؟ إن املعجزات لا تتكرر.نعم أتى عماد الدين لإنقاذي في مثل هذا الضيق فيا ليته يأتي الآن». ثم سكتت كأنهااسترجعت رشدها ومسحت عينيها ثانية ونظرت إلى عماد الدين نظر متفرس وهو جاثبني يديها وعيناه شاخصتان في عينيها وقلبه يتفطر. فما لبثت أن تحققت أنها ترىعماد الدين فصاحت ملء فيها: «عماد الدين! عماد الدين!». وترامت عليه وقد أغمىعليها. فأنهضها وتراكض الخدم باملاء فرشها به وأخذ يمسح وجهها وعينيها بمنديله،وسقاها جرعة من املاء فانتعشت وأعادت النظر إلى عماد الدين وهي تضحك ضحك
    طفل استرجع شيئاكان يبكي لفراقه.
    لكن تلك الضحكة أبكت عماد الدين وقد شق عليه أن يرى تلك امللكة أخت الخليفةً مع ذلك الشيخقد ذهب ملكها وصارت أسرية في حيازة صلاح الدين ثم سيقت كرهااللعني، لكنه حاملا تذكر أنه قتله سرى عنه وعاد إلى تطمني سيدة امللك وقال: «صدقتإني يا سيدتي عبدك عماد الدين».فصاحت: «ألا تزال تقول أنك عبدي أنت سيدي وتاج رأسي. أنت منقذي من املوتوالعار مرتني. أنت روحي. أنت حياتي. أنت ... أه.. دعني لقد خلعت العذار». وغطت.عينيها خجلاًفانتبه عماد الدين لوجود ذينك الخادمني وكان قد عرف كرههما لأبي الحسنوشفقتهما على سيدة امللك فقال لكبريهما: «ربما استغربتما ما رأيتماه في هذه الليلة وقدعلمت أنكما ناقمان على ذلك الشرير، وإن قلبيكما مع هذه، أليس كذلك؟». قال ذلك ومديده إلى جبيه وفيه نقود أبي الحسن وأعطاهما بلا حساب.ً كمافأعجبهما كرمه وأريحيته وأجابه أحدهما: «صدقت، ويظهر أنك لست خادماادعيت، بل أنت أمري أرسلك الله لإنقاذ هذه السيدة، إنها قطعت قلبينا وأوشكنا أن نأخذبيدها ونخلصها من ذلك الظالم».فقال: «إذن أنتما مسروران بنجاتها».

    قال: «ونحن رهينا الإشارة في أي خدمة تريدها منا ولو كانت قتل ذلك اللعني».قال: «لا حاجة إلى قتله فقد كفانا الله شره في هذه الليلة. وهذه النقود التي كانتمعه أعطيتكم بعضها وهذا البعض الآخر». ودفع إليهما دفعة أخرى.فزادهما دهشة فقال أحدهما: «قتلته؟ لا رحمه الله».

    وكانت سيدة امللك تنظر إلى عماد الدين وهو يخاطب الرجلني نظر الإعجاب والحبوعيناها غائرتان من الضعف والهزال وقد امتقع لونها. فلما سمعت التحدث بقتل أبيالحسن قبضت على عماد الدين واجتذبته نحوها وهي تقول: «قتلته؟».قال: «نعم. وكنت أود أني عرفته قبل قتله لأشبعه قتلاً وأخبره وهو في حشرجةً لفظاعته».املوت أني قتلته في سبيل طاعتك انتقاماوقص عليها عماد الدين مهمته ملصلحة صلاح الدين وما قاساه من العناء وكيفانتهت بالفوز وأصبح صلاح الدين في مأمن من الفدائيني، فلما سمعت اسم صلاح الدينأشرق وجهها وقالت: «بارك الله في صلاح الدين إنه نادر املثال». فضحك وقال: «ألم أقلذلك في آخر ليلة رأيتك فيها وأنت ناقمة عليه؟».قالت: «لم أكن أعرفه. وفي كل حال فإني امتدح مروءته وعلو همته. وأما أنت فكنتتمتدحه في معرض آخر.. فهو في ذلك املعرض مازال حكمي عليه كما كان، ولاسيما إذاقابلته بعماد الدين».
    وضحكت وكانت تتكلم وعيناها شاخصتان فيه تكاد تتلقفه بهما.ً وقد توسط الليلثم جاء الخادمان وقد أعدا الركائب وشدا الأحمال فركبوا جميعاوأطل القمر من وراء جبل السماق. فتذكر عماد الدين صديقه عبد الرحيم وما أوصاهً ففعلا.به فلما أمعن في السهل أمر الرجلني أن يوقدا مشعالاً مزدوجا

    وسار الركب وبغلة سيدة امللك بجانب فرس عماد الدين وهما يقصان ما جرى لهمافي تلك املدة الطويلة، واملحب إذا غاب عن حبيبه ساعة عاد ومعه عدة حكايات يرويها.وهو يرى في ذلك لذة خاصة لا يشعر بها غري املحبني. والغريب أن املحب لا يصبر علىكتمان شيء عن حبيبه كأنه يرى في كتمانه خيانة أو كأن قلبيهما يطلبان املكاشفة فيً يلذ لهما نقل ما في قلب الواحد إلى قلبكل شيء. فكما يتشاكيان ويتعاتبان. فهما أيضاالآخر من حب أو فكر أو حكاية أو حديث.وفيما هم في ذلك وقد بعدوا عن جبل السماق سمعوا وقع حوافر جواد وراءهمً ملجيء صديقه عبد الرحيم وقدوكان عماد الدين لا يفتر يترقب سماع ذلك التماساأصبح في شوق لرؤيته ليستطلع منه ما ملح إليه به وهما في الحصن.فلما سمع وقع حوافر الفرس تباطأ في املسري ووقفت معه سيدة امللك. فأشار إليهاأن تبقى سائرة والخادمان يتبعانها فمشت وتأخر هو لحظة فوجد صديقه عبد الرحيمً يطاردونه فناداه: «عبد الرحيم». فأجابه: «عماد الدين؟».يسوق فرسه كأن وراءه أناساً هل عليك بأس؟»قال: «ما وراءك؟ أراك مسرعاقال: «كلا. لكنني خفت عليكم».

    قال: «وما الذي أخافك علينا؟ إننا في أمان».قال: «كنت في أثرك ساعة طعنت ذلك اللعني الطعنة القاضية وتربصت بعد ذلكوأنا أراقب حركاتك حتى علمت أنك دخلت منزله ثم طال انتظاري ولم أشاهد مشعالكًفخفت أن تكون قد أصبت بسوء، فركبت نحو املنزل من طريق آخر فلم أجد هناك أحداثم رأيت املشعال فهرعت إليك هل عليكم بأس؟»قال: «لا بأس علينا والحمدلله بل نحن في خير وبركة».

    قال: «هلا علمت من هو الشيخ سليمان الذي قتلته؟»قال: «نعم علمت أنه أبو الحسن صاحب ثورة القاهرة التي ذهبت بسببها إلى مصربتلك الرسالة املباركة وجئتني بذلك الجواب الثمني وقد ظهر لي من إلحاحك علي في قتلهً، وقد ظهر الآن أنك أعنتني على التخلص من هذا الشرير، وهذه بشرىأن في الأمر سراسنزفها إلى مولاي صلاح الدين ولك الفضل فيها».قال: «وسنزف إليه بشرى أخرى بأنه حياته في مأمن من غائلة الإسماعيليني». قال:ً. وسأزف إليه وإليك بشرى هي في نظري أهم مما تقدم». فقال: «وما هي؟».«طبعاقال: «لم تسألني عن هؤلاء الرفاق من هم؟»ً على سؤالك، لكنني تنبأت بأنهم زوجة ذلك الشرير وخادماهاقال: «كنت عازما.«ًوهي الآن زوجتك طبعاقال: «لا. لا. لم تكن له زوجة قط». قال: «من هي إذن؟».قال: «أتذكر الرسالة التي جئتني بها من القاهرة والسيدة التي خاطبتك وذكرتلي إعجابك بلطفها وكمالها؟»قال بدهشة: «سيدة امللك، أخت الخليفة؟»
    قال: «نعم، سيدة امللك. أختطفها هذا الخائن على يد بعض الفدائيني أصحابنا وجاءبها إلى هنا تحت العذاب الشديد وقدر لي أن أنقذها». فقال: «هذه الراكبة على البغلةسيدة امللك؟»قال: «نعم، هل تريد أن تراها؟»قال: «كيف لا.. ولكن تمهل قليلاً ريثما نصل إلى مكان ننزل فيه عند الفجر. إذلابد من الراحة».قال: «هل أنت ذاهب معنا إلى مصر؟»قال: «إذا كنتم تقبلونني».فأسرع في الجواب بلهفة قائلاً: «إن ذلك يكون من حسن طالعي. كم أحب أنً لعلي أقدر على مكافأتك، وسأخبر السلطان صلاح الدين بما كانتكون معي فنعيش معامن فضلك في إتمام هذه املهمة، وهي بشرى رابعة أزفها إليه. ولكن كيف تركت طائفةالإسماعيلية بعد أن صرت من كبار رجالها وصارت لك هذه الدالة على رئيسها العجيبالغريب. إني لا أنسى ما شاهدته من املدهشات في هذين اليومني». فتنهد وقال: «لو لمأرتق إلى درجة املستنريين لم يخطر ببالي أن أعتزل هذه الطائفة. ألم تنتبه إلى تغيري بعد هذا الارتقاء، أو بقيت فدائياً وندمت على دخولي».اطلعت عليها رأيتني كنت مغشوشافقال: «يا للعجب. ملاذا لم يفعل ذلك الذين ترقوا إلى مثل هذه الدرجة قبلك؟».قال: «لأنهم يرون في بقائهم ما يسد مطامعهم من امللذات وأسباب السعادة البدنية.لا يهمهم أن يتم لهم ذلك بتضحية الشبان الشجعان والفدائيني أمثالك. أما أنا فلا أحبهذه العيشة بما فيها من الغدر».فأطرق عماد الدين وتشاغل بتمشيط عرف فرسه بأنامله. ثم قال: «ألا تزال تعتقدكرامة الشيخ راشد الدين ومعجزاته؟»قال: «كنت أعتقدها حتى ارتقيت وعرفت سرها فأنكرتها، وفي الدنيا كثري منالظواهر املدهشة إذا عرفت سرها احتقرتها».
    قال: «إني شديد الرغبة في معرفة سر ما شاهدت من معجزات الرجل».قال: «إني أعذرك، وقد كنت أود أن أكاشفك بسرها لولا أني أقسمت الأيمان املغلظةعلى الاحتفاظ بها وأنت لا ترضى لي الحنث باليمني. لأني وإن تركت الجمعية وتخليتعنها فلم أتخل عن شرفي وضمريي. لكن هذه املعجزات ليس فيها شيء من الخوارقالتي لا يقدر عليها الناس، وليست من قبيل الوحي الإلهي أو املقدرة الخاصة كما كنانظن. والآن قد دنونا من محطة فيها ماء وخان أعرف صاحبه، فأرى أن ننزل هنا ريثمانستريح ثم نستأنف املسري».فأسرع عماد الدين إلى سيدة امللك وأخبرها برأي رفيقه عبد الرحيم فوافقت عليهوكان الفجر قد لاح فنزلوا. وتقدم عماد الدين ومعه عبد الرحيم إلى سيدة امللك فقدمه.ًلها وأخبرها عن فضله في نجاح مهمته فأثنت عليه كثيرآ



تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال