عمليات احتيالية في تجارة الكربون
الفساد عائق خطير أمام الإدارة الفعالة للموارد الطبيعية، فهو يحرفها عن مهماتها الحيوية المتمثلة في الحد من الفقر ومكافحة الجوع والتنمية المستدامة. هذه خلاصة توصّل إليها المشاركون في مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة "ريو +20" ، تؤكد أن فعالية الحوكمة البيئية باتت رهن مكافحة الفساد المتنامي، وأن المبادرات المحلية والدولية قد تحتاج إلى إعادة تقويم. والفساد هو إساءة استخدام السلطة أو الموارد العامة من أجل تحقيق منفعة خاصة. تحديده ليس أمراً يسيراً، بل يصطدم عادة بقوانين وأعراف، وحتى بالأوضاع السياسية في بعض البلدان. وقد يكون مرتكبوه أفراداً أو مجموعات أومنظمات أو شركات ربحية.
وفق تقرير حديث لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، شهد تنفيذ قواعد الحد من انبعاثات غازات الدفيئة في البلدان المتقدمة والنامية حالات من الغش والرشى واستغلال السلطة، وأشكالاً أخرى من الفساد مثل استخدام معلومات مغلوطة من أجل الربح، والتلاعب بأسعار سوق مقايضة غازات الدفيئة. والمعروف أن هذه التجارة من أكثر القضايا دينامية في الحوكمة البيئية العالمية. وبالنسبة إلى اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ، يجب الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، بل تخفيضها، بحلول سنة 2015، لحصر ارتفاع الحرارة العالمية بدرجتين مئويتين فقط. وإن لم يحقق هذا الهدف، يتوقع أن يشهد العالم سيناريو كارثياً ترتفع فيه الحرارة 6.4 درجات مئوية مع نهاية القرن الحالي.
التجربة الأوروبية
الاتجار بانبعاثات غازات الدفيئة ليس جديداً، فقد نصت عليه اتفاقية كيوتو الموقعة عام 1992. وهو يهدف إلى إعادة توزيع الانبعاثات لتحقيق توازن عالمي، عبر إتاحة مقايضتها داخل البلدان أو في ما بينها. وثمة نوعان أساسيان من الاتجار. أولهما خطط الامتثال، حيث تقام أسواق تعمل بموجب نسب سنوية محددة مسبقاً لانبعاثات بعض غازات الدفيئة، وتفرض قيوداً اقتصادية على إنتاج تلك الانبعاثات في المصانع ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وسواها من المنشآت. وثانيهما البرامج الطوعية التي تسهّل للحكومات والشركات والمنظمات غير الحكومية والأفراد بيع الانبعاثات إلى مشترين طوعيين، شركات أو مؤسسات أو أفراد. وغالباً ما تستخدم المعاملات الطوعية لاختبار إجراءات وتقنيات جديدة، ويمكن تنفيذها بكلفة أقل من المعاملات في الأسواق الإلزامية.
يلحظ التقرير الدولي أن نتائج خطط الامتثال واعدة، لكنها ليست مرضية تماماً. فثمة تقارير عن تفشي الفساد في تنفيذ هذه الخطط أثارت مخاوف إزاء قدرة آليات كهذه على ضمان فعالية تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة وإمكانية التحقق منها. وفي هذا الإطار، تطبق دول الاتحاد الأوروبي خطة تجارة الانبعاثات (ETS) منذ العام 2005. وهي تحدد سقفاً للانبعاثات وتوزيع "أرصدة الكربون" لأكثر من 11 ألف مصنع ومحطة طاقة ومنشآت أخرى في 30 بلداً أوروبياً، بحيث لا تتجاوز سقف 21 في المئة سنة 2020. لكن الخطة لم تعمل وفق التوقعات. ففي المرحلة الأولى بين 2005 و2007، ارتفعت الانبعاثات 2.1 في المئة لأسباب عدة، بينها الفساد. وعام 2010، كشفت السلطات الأوروبية حالات "احتيال دائري" (carousel fraud) في تجارة الانبعاثات، فاقت خسائرها ستة بلايين دولار من الإيرادات المفقودة في 11 بلداً. والاحتيال الدائري هو أحد أشكال الخداع التجاري، حيث ييسّر التاجر تبادل أرصدة الكربون فيحافظ على ضريبة القيمة المضافة (VAT)، بدل دفعها إلى السلطات الضريبية وسندات الخزينة الحكومية.
دفع اكتشاف الأنشطة الاحتيالية المفوضية الأوروبية إلى إدخال تعديلات على قانون الضرائب وتحسين أمن النظام التجاري. لكن في كانون الثاني (يناير) 2011، سهّل التراخي الأمني سرقة أكثر من ثلاثة ملايين دولار من أرصدة الكربون. ولم يبلّغ عن حالات عدة في النمسا وجمهورية التشيك وألمانيا واليونان وإيطاليا ورومانيا.
مكافحة الفساد
إضافة إلى أنظمة ضبط الانبعاثات والاتجار بها، يعتمد نجاح الحوكمة البيئية العالمية على حزمة آليات لنقل الثروات والتكنولوجيا بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية. إحدى هذه الآليات تقليل الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها (REDD +) الذي يشجع مساهمة البلدان النامية عبر الحفاظ على مخزون الكربون في الغابات وإدارة الغابات بشكل مستدام وفق اتفاقية كانكون. وتكافأ البلدان المتعاونة مالياً. ومن أجل حوكمة أكثر فاعلية، صدّق معظم البلدان المتقدمة اتفاقيتين لمكافحة الفساد، واستجابت بلدان نامية كذلك. فأنشات إندونيسيا لجنة مستقلة لمكافحة الفساد، وأوجدت الفيليبين مكاتب للمظالم، وعيّنت هونغ كونغ مدعياً خاصاً. وأدت هذه المبادرات وسواها إلى زيادة كبيرة في عدد الإدانات بتهم الفساد.
وإذ يشكل الإقرار بالتحديات الجمة التي يطرحها الفساد خطوة أولى ضرورية، لا بد من متابعة جدية لتطبيق آليات مكافحته وتعزيزها. وهذه مهمة حكومية محلية ودولية بالدرجة الأولى، لكنها تتطلب جهوداً على المستوى السياسي العالمي، وكذلك متابعة بل مساءلة مستمرة من المجتمعات المدنية. فالفساد البيئي يؤثر على حياة الفقراء أولاً، لأنهم الأكثر هشاشة وعرضة لتداعيات تغير المناخ. ومواجهة هذه التداعيات هي الأكثر كلفة وإلحاحاً في مجال التنمية العالمية المستدامة.
م