العـــراق.. بيـن التقسيـــم و التحريـــر
وبالنسبة للعراق، لم تعد أهداف أمريكا بخافية على أحد، وهي ذات الأهداف التي لم تنجح في تحقيقها قبل انسحابها المذل عام 2011، فامتطت حصان “داعش” لفرضها هذه المرة بالابتزاز، وعلى رأسها إقامة قواعد عسكرية على امتداد الجغرافية العراقية، والحصول على الحصانة لجنودها، وتقسيم العراق إلى أقاليم في إطار فيدرالية، يسمح لها بالتعامل مباشرة مع المكونات الطائفية من دون المرور بالحكومة المركزية، وتقوم حاليا بمحاولة افتعال حروب طائفية بين مختلف مكونات العراق الإثنية والمذهبية، كمقدمة لتجسيد مشروع التقسيم على الأرض، ويساعدها في ذلك بعض العملاء كأسامة النجيفي والرئيس معصوم بالإضافة لعديد القيادات التي مهدت في السابق لدخول “داعش” إلى الموصل وعلى رأسها أثيل النجيفي، وتبين أن مسعود برزاني كان هو أيضا متورطا في المؤامرة بمعية السعودية والأردن.
وتركز أمريكا حاليا على تدريب جيش من العشائر السنية بقيادات بعثية ونقشبندية ليكونوا نواة “الجيش السني” الذي سيتشكل في الموصل والأنبار تحت مسمى “الحرس الوطني”، ويكون له الفضل في تحرير الموصل كمقدمة لإعلانها عاصمة للإقليم السني، والخطورة تكمن في أن هذا المشروع المشبوه يلقى دعما سياسيا من ممثلي وقادة العرب السنة في الحكومة ومجلس النواب.
كما وأن البصرة أيضا انتفضت قبل أسابيع وخرجت مظاهرات حاشدة تطالب بإقليم خاص بأهلها، وزاد الطين بلة قيام حزب العمال الكردستاني بمعية شخصيات إيزيدية بإنشاء مجلس وإدارة ذاتية في منطقة سنجار التي يقطنها الإيزيديين الذين نكلت بهم “داعش” ولا زال العديد من مختطفيهم في قبضتها، وهو الأمر الذي لاقى استنكارا شديدا من حكومة إقليم كردستان التي اعتبرته مخالفا للدستور وتدخلا سافرا في شؤون إقليم كردستان العراق، ويبدو أن الخلاف اليوم قائم على أشده بين البشمركة والكردستاني، الأمر الذي لا يساعد البرزاني على تحقيق وهمه بالإنفصال.
من جهتها، تتعامل الحكومة مع هذه الأوضاع بحساسية كبيرة وكأنها تسير في حقل ألغام، لكن موقفها من القواعد الأمريكية، ومسألة الحصانة للجنود الأمريكيين، وتسليح عشائر الأنبار والموصل من دون موافقة السلطة المركزية في بغداد أمر مرفوض بالمطلق، ومن لهم الحصانة هم العناصر التابعة للسفارة الأمريكية في إطار البروتوكولات الديبلوماسية فقط لا غير، وفق ما تقول الحكومة، وإن كان عددهم يثير الشك والريبة.
وفي مواجهة هذا المخطط التفتيتي الأمريكي، تعمل إيران بصمت وثبات لدحر الإرهاب في العراق وإفشال المخططات الأمريكة، وذلك بتنسيق وثيق مع الحكومة العراقية ومشاركة فعالة من الجيش العراقي النظامي والحشد الشعب الذي يضم عديد فصائل المقاومة الشعبية التي واجهت الإحتلال الأمريكي في السابق، مع التركيز على إسقاط العامل الطائفي التي تشتغل عليه أمريكا من معادلة الصراع في العراق.
وقد نجحت هذه الإستراتيجية التي وضعها ويشرف على تنفيذها الجنرال قاسم سليماني في قلب المعادلات رأسا على عقب، وتم تحرير عديد المدن والقرى والمناطق العراقية من كلاب “داعش” بشكل سريع ومتتالي أدهش الأهالي، بل وفاجأ الأمريكي أيضا، وخصوصا في بعض المناطق السنية كالضلوعية والبغدادية والأنبار ومحافظة صلاح الدين باستثناء الجهة الشمالية على سبيل المثال لا الحصر، حيث بمجرد تحرير هذه المناطق، سلم الأمن فيها لأبنائها من العشائر السنية وانسحب الجيش وقوى الحشد إلى الحدود لحمايتها من عودة الدواعش، الأمر الذي أدهش السكان وأسقط الإشاعات السوداء التي كان يروج لها عملاء السعودية والأردن بأن الحشد الشعبي يرتكب المجازر في حق السنة، وخلف حالة من الارتياح، وفهم الناس أن الرهان هو على وحدة العراق الوطن باعتباره وعاء جامعا لكل أبنائه، وأن لا مكان للطائفية في عقيدة المقاتلين سواء من الجيش العراقي أو الحشد الشعبي.
هذا المعطى وفق من كشف عنه رئيس لجنة الأمن والدفاع في محافظة ديالى العراقية وعضو المكتب السياسي بمنطقة بدر الدكتور صادق الحسيني لموقع العهد قبل أيام، بموازاة الانتصارات الحاسمة والسريعة المباركة التي تحققت في عديد المناطق، فاجأ الأمريكي الذي كان يراهن على الوقت لإتمام فصول المؤامرة، وخلفت جوا من الارتياح والطمأنينة لدى المواطنين، ما دفع بالعشائر السنية للالتفاف حول الجيش، وتشجيع أبنائها على التطوع للقتال إلى جانبه بمعية الحشد الشعبي “الشيعي”، ليتحول الجميع إلى شركاء في الدم والسلاح من أجل عراق المستقبل، فتحول منطق الدولة بديلا عن منطق الطوائف.
هذه الإستراتيجية الناجحة مع بعض الاستثناءات التي لن تغير من الواقع شيئا، وفق ما تناقلته وسائل إعلام عرقية، أدخلت البهجة إلى قلوب الناس، لدرجة أن أمهات عراقيات من الطائفة السنية الكريمة، طالبن من أبنائهن الانخراط في القتال إلى جانب إخوتهم في الجيش والحشد الشعبي “الشيعي”، وعدم العودة إلى بيوتهم إلا شهداء في الأكفان..
وهنا يجب التذكير أن محور المقاومة يعمل بصمت لكن بفعالية وفق خطط مدروسة، ولا يعير أدنى اهتمام لما تروجه أقلام الزيت من ترهات، لإيمانه أن العبرة بالنتائج، وأن الحسم يكون في الميدان لا على صفحات الجرائد الصفراء أو النباح عبر فضائيات الزيت والغاز.
ما يحدث في العراق من ملاحم، وإن كانت لا تحظى بتغطية إعلامية موضوعية، يذكرنا بالجو النضالي الجميل الذي كان سائدا في العالم العربي إبان حروب التحرير، وهذا بالتحديد هو المطلوب للقضاء على آفة الطائفية البغيضة، لأن الانتصار والتحرير يعطي المواطن شعورا رائعا بقيمة الوطن، وعزة الإنسان وكرامته، وحلاوة الاستشهاد من أجل الحرية والسيادة، وعظمة الشعور بواجب أن يضحي الإنسان بنفسه لتقطف الأجيال الثمار، وهذا هو معنى صناعة المستقبل.
هذا التكامل الذكي بين قتال العدو بالسلاح وبالعقيدة الوطنية الجامعة رفع من معنويات العراقيين مع بعض الاستثناءات المعروفة بولائها للأجنبي، وساعدهم بشكل كبير على هزيمة الخوف والتوحش ودحر كلاب الجحيم الذين يعبثون بأمن العراق ومصير العراقيين خدمة للعدو الأمريكي والصهيو – وهابي.. وهذه العقيدة الجميلة هي الكفيلة بتحرير العراق من رجس الإحتلال، وتطهيره من سرطان التكفير، وكوليرا العمالة والخيانة والفساد.
وتجري اليوم الاستعدادات على قدم وساق لتحرير الموصل وما تبقى من معاقل الإرهاب في تكريت والفلوجة وشمال الموصل وبعض المناطق المتفرقة الأقل أهمية، لتوجيه ضربة عسكرية قاسمة لـ”داعش” وهزيمة منكرة لمشروع من وظفوها لتقسيم العراق، وذلك في غضون 4 أو 5 أشهر القادمة وفق تقديرات الحكومة وبعض الخبراء العراقيين.
ويدور حديث جديد عن مشروع لدمج القوات الشعبية وأبناء العشائر بعد التحرير في فرق خاصة تكون على شاكلة “الحرس الثوري” الإيراني، لحماية العراق من أي خطر قد يبرز مستقبلا بعد التحرير.. ويبدو أن إيران ومحور المقاومة عازمين على عدم السماح لأمريكا وأدواتها وخصوصا تركيا، العبث بأمن العراق وسلامة أراضيه مهما كلف الثمن.. ويعتبر مشروع “الحرس الثوري” بديلا عن مشروع “الحرس الوطني” الذي تريده أمريكا لتقسيم العراق من خلاله، ويجد صعوبة لتمريره في البرلمان برغم مصادقة الحكومة على قانون إنشائه، وهي لعبة سياسية يبدو أن السيد العبادي يتقنها بشكل ذكي دون أن يصطدم مع الأمريكي ودون أن يفجر الإجماع السياسي الوطني الحاصل اليوم بشكل صوري.
وفي خضم هذا التجاذب السياسي، وخروج منسق التحالف الدولي ضد “داعش” الجنرال جون ألين وإعلانه بأن الجيش العراقي يحضر لتحرير الموصل، الأمر الذي فهم منه أنه تحذير لـ”داعش” كي لا تفاجأ بالهجوم على غرار ما حدث لـ”جبهة النصرة” وأخواتها في الجنوب السوري، وتنبيه بوجوب أن تقوم “داعش” بافتعال معارك جانبية في مناطق مختلفة من العراق لإفشال خطة تحرير الموصل، استنكرت الحكومة العراقية هذا التسريب، وقالت أن لا أساس له من الصحة، ولا يوجد تنسيق بينها وبين الأمريكي في هذا الشأن، وأن خطة تحرير الموصل لم تكتمل بعد، وأن الجيش العراقي يريدها معركة رد الاعتبار بعد الإهانة التي لحقت به جراء مؤامرة سقوط الموصل، وأن المعركة ستكون في غضون أسابيع لم يحدد عددها بعد، وسيشارك فيها الحشد الشعبي وضباط مقاتلين من محور المقاومة، وأن البشمركة سيقتصر دورهم على حماية حدود إقليم كردستان مع الموصل حتى لا يهرب الدواعش نحو الشمال، وأن هناك قرارا حاسما برفض مشاركة أية قوات برية أجنبية في عملية التحرير.
إعلان الجنرال جون ألين أفقد خطة تحرير الموصل عامل المفاجأة، هذا في الوقت الذي لوحظ تحرك الجيش العربي السوري على جبهة الحسكة والرقة والقامشلي أيضا، فيما يبدو أنه مخطط وضع من قبل محور المقاومة بتنسيق سري مع الجيش العربي السوري والجيش العربي العراقي، هدفه قطع أوصال “دولة” الدواعش وحصارهم كي لا يفروا كالنعاج في الاتجاهين بين حدود البلدين، خصوصا وأن الرقة تعتبر المركز الرئيس لـ”داعش” في سورية. ويلاحظ أن “داعش” وبعد تصريح الجنرال الأمريكي جون ألين، بدأت تزحف نحو شمال حمص تحسبا للاحتماء وراء الحدود التركية في حال انقلبت المعارك في غير صالحها.
ومن الواضح والحال هذه، أن أمريكا لا تريد لمشروع “داعش” أن ينتهي من العراق وسورية قبل أن تطبخ على ناره المستعرة خرائط المنطقة، وتقبض الثمن بالجغرافية والسياسة والاقتصاد وأمن “إسرائيل”.. لكن هيهات أن يكون لها ما تريد ومحور المقاومة يقف لمشروعها بالمرصاد.
ودليل ذلك كما لم يعد خافيا على أحد ما كانت تحضر له في الجنوب السوري لإسقاط دمشق، برغم أنها كانت تقول أنها لم تعد مهتمة بإسقاط النظام، وأن لا حل عسكري في سورية، وأنها تشجع الحل السياسي، ليتبين أنها كانت تراوغ وتخادع ربحا للوقت في انتظار استكمال مؤامرة الهجوم على دمشق مدعومة من “إسرائيل والأردن، والتي أجهضها حلف المقاومة في المهد قبل أن تنطلق بقليل.
وبالنسبة للعراق، ها هو البرلمان العراقي يفجر من خلال لجنة الأمن والدفاع النقاش حول مد قوى التحالف لعناصر “داعش” بالعتاد والمؤن في أكثر من موقع ومناسبة، مدعوما بالوثائق والصور التي تؤكد قيام طائرات تابعة للتحالف الدولي بإلقاء العتاد لـ”داعش” بواسطة المظلات، مطالبة الحكومة العراقية بقصف الطائرات التي تقوم بذلك، بل الأخطر، هو ما كشفت عنه اللجنة من نشاط متزايد لهبوط طائرات التحالف محملة بالسلاح والمؤن في مطار الموصل وعديد المناطق التي تقع تحت سيطرة “داعش” كتلعفر والكيارة، ومناطق عراف اللهيبي في قرة تبه في ديالى، وناحية يثرب، وقرية الضلوعية، وملعب الفلوجة، وفي صحراء الأنبار، الأمر الذي اعتبرته اللجنة خيانة عظمى ترتكب في حق العراق وتساهم في سفك الدم العراقي، ما يتوجب على الحكومة مواجهتها بما يلزم من إجراءات بما في ذلك القصف الجوي للطائرات التي تقوم بذلك.
ويشار في هذا السياق، إلى أن إيران لم تضع إلى الآن كامل ثقلها في الصراع، ويبدو أنها تلاعب الأمريكي بلطف وذكاء في انتظار ما ستسفر عنه المحادثات بشأن ملفها النووي، وأمريكا بدورها، تحاول أن تتوصل إلى اتفاق من دون رفع العقوبات كاملة عن إيران، بهدف تكبيلها إلى أن تحقق كامل مشروعها في العراق والمنطقة.. وهذه هي لعبة القط والفأر الدائرة اليوم في انتظار نهاية المهلة التي تم تحديدها لتوقيع الاتفاق أو زيادة منسوب التفجير والمرور إلى مرحلة جديدة من الحسم.. وهذا هو معنى كلام الرئيس الأمريكي أوباما الذي قال، أنه لم يعد هناك جانب تقني مختلف بشأنه مع إيران، وأن ما تبقى هو الجانب السياسي.
نقول هذا لأنه كان بمقدور إيران وفي إطار الاتفاقيات الإستراتيجية التي تجمعها بالعراق وسورية، إرسال سيول من المقاتلين غير النظاميين الذين تمتلك منهم طهران اليوم زهاء 22 مليون مقاتل من الباشيج الأشداء، لتطهير المنطقة من فلول الإرهابيين وزبالة المرتزقة في وقت فصير، لكن، حسابات طائفية ومذهبية قد حالت دون ذلك في الماضي، مخافة أن تنفجر حرب دينية تحرق الأخضر واليابس في المنطقة.
هذه الهواجس لم تعد قائمة اليوم بعد أن تغيرت المعطيات، وتبين للقاصي والداني أن الأمر لا علاقة له بالسنة والشيعة، بل بإرهاب وهابي تكفيري لا يرقب إلا ولا ذمة في الطوائف، قتل من الطائفة السنية أضعافا مضاعفة مقارنة ببقية الطوائف، هدفه الأساس خدمة المشروع الأمريكي والصهيوني لإعادة رسم خرائط المنطقة وتمزيق لحمة شعوبها وتدمير تراثها وتاريخها وحضارتها كي لا تقوم للأمة العربية والإسلامية قائمة.
وفي هذا السياق يفهم كلام رئيس الحكومة الإيرانية السيد حسن روحاني الذي قال بمناسبة ذكرى الثورة الإيرانية المجيدة، إذا أراد الأمريكي الأمن والسلام في المنطقة فعليه أن يتفاوض مع إيران.
ويأتي هذا التصريح بمثابة إعلان عن فشل المشروع الأمريكي، وانكسار الطموح السعودي، وفقدان آل سعود لنفوذهم القديم في المنطقة، حيث لم يعد لهم من حليف سوى الأردن، وها هي مصر بدورها تقرر التوجه صوب روسيا، الأمر الذي سيجر عليها الويلات، وسيسرع من تفجير النظام بها، لأن تحولا من هذا النوع والحجم لن تقبل به أمريكا و”إسرائيل” والسعودية.
وبالتالي، لن يكون في المنطقة مستقبلا من توازن إلا بين إيران الإسلامية وتركيا الأطلسية، أما العرب، فعليهم انتظار معجزة لا تبدو ممكنة في زمن ترفض فيه السماء أن تجري المعجزات على أيدي الحكام العملاء..
ولعله مؤشر خير يوحي بأن زمن الشعوب لم يبدأ بعد، لأن الأمم تتعلم من الكوارث التي تحل بها وفق ما يقول التاريخ، وأن الربيع العربي مثل فرصة لكي الوعي وكشف العديد من الحقائق التي كانت غائبة في غياهب الجهل ولجة الظلمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأن المستقبل القريب بفضل ثقافة المقاومة، كفيل بإخراج الناس من دوختهم ليتلمسوا طريقهم نحو المستقبل برؤية جديدة ومشروع نهضوي حقيقي بعيدا عن الهيمنة الغربية والثقافة الوهابية الظلامية، في ظل تعاون وتكامل بنيوي مع الجمهورية الإيرانية الإسلامية، ليتحقق مشروع الأمة الذي بشر به الرسول الأعظم (صلعم) وقال أنه سينطلق من سورية التي يحرسها عمود النور الإلهي إلى أن تقوم الساعة.
----------------------------------------
انتهى