معركة ستغير وجه العالم
سمير الفزّاع
=كليمنصو: إنني حريص ألا تكون هناك خلافات كبيرة بيننا فما زالت أمامنا ظروف تقتضي لقاءنا المستمر، إن تحالفنا نجح في تجربة الحرب، وليس من المعقول أن يرسب في تجربة السلام!… دعنا نسوي الأمور بيننا مباشرة، وقل لي ما الذي تقترح أن نبحثه معاً الآن.
-لويد جورج: دعنا نبحث مصير العراق وفلسطين!.
=كليمنصو: إذن قل بصراحة ماذا تريد؟.
-لويد جورج: أريد الموصل!. أنتم تطالبون بهذا الإقليم، ونحن نعتبره تكملة لجنوب العراق الذي إتفقنا على أن يكون من نصيبنا!.
=كليمنصو: حسناً، لك أن تأخذ الموصل، سوف نتركه لكم… هل هناك شيء آخر!؟.
-لويد جورج: نعم، أريد القدس… إنكم تثيرون المتاعب لنا، وتطالبون بالحق في فلسطين بإعتبارها جنوب سورية!.
=كليمنصو: لك أن تأخذ القدس أيضاً، هل هذا يرضيك؟!.
-جورج: هذا شيء طيب. كليمنصو: إن بيشون “وزير خارجية فرنسا” سوف يثير لي مشاكل بسبب الموصل، وأرجوك أن تساعدني إزاءه.
جورج: ماذا أستطيع أن أفعل لك؟.
=كليمنصو: إتركوا لنا سورية، شمال فلسطين، دون أن تثيروا المتاعب في وجهنا، أنا لا أعني المنطقة المسيحيّة في لبنان فقط، ولكن أريد سورية الداخل أيضاً: دمشق وحلب وحمص وحماه!.
-جورج: ليست لنا مصالح حيويّة في هذه المناطق، ولن نعارضكم عندما تضعونها جميعاً تحت حكم فرنسي واحد!.
وأنتهى كلام الرجلين هنا بسبب إنضمام رئيس الوزراء الإيطالي لهما في صالة السفارة الفرنسية في لندن. من مذكرات اللورد هانكي-وثيقة مجلس الوزراء رقم14/116، بتاريخ 1/12/1919.
هكذا وبكل بساطة كان حال منطقتنا، والأمة العربية عموماً، وتلك هي البيئة الإستراتيجية الحاكمة والمسيطرة على التاريخ والجغرافيا. رجلان يقفان في بهو سفارة، ويقرران مستقبل المنطقة بالكامل، وبذات اليسر الذي نطقا به تلك الكلمات، يتم فرضها حدود وخرائط وشعوب ومناطق نفوذ وأنظمة!. بقيت تلك البيئة الإستراتيجية للمنطقة (من تقسيم وتفتيت وتقاسم نفوذ…) مستقرة، ثابتة… لمائة عام تقريباً دون تعديل يذكر.
* لماذا حاولت واشنطن تمزيق “تركة” كليمنصو-لويد؟.
في السنوات الأربع الماضية، تعرضت خرائط النفوذ والحدود… إلى ضرر كبير تحت عنوان “الربيع العربي”، حيث خفّ سطوع تلك الحدود، وأصيبت قدرتها على منع الحركة فوقها بعطب شديد، بفعل رغبة جامحة لواشنطن وحلفائها في النيتو وأدواتها في المنطقة… بإنتاج بيئة إستراتيجية جديدة في المنطقة تقوم على أنقاض تلك البيئة التي أنتجها تفاهم كليمنصو-لويد. لم تكن هذه الرغبة الجامحة وليدة الصدفة؛ بل جاءت في سياق سباق محموم مع بيئة إستراتيجية أخرى “معادية”، أصحابها والساعون إليها، حلف المقاومة وروسيا، وواسطة العقد فيها سورية. سعت سورية وحلف المقاومة، وروسيا، لإنتاج هذه البيئة إستناداً إلى معطيات وإرهاصات سياسية وإقتصادية وميدانية… واقعية تماماً، تبشر بتداعي تفاهم كليمنصو-لويد، منها:
1- أفول عصر تفرد النفط كمصدر أول، وشبه وحيد للطاقة في العالم: ظهور بدائل جديدة للنفط، أفرز دول ومناطق مختلفة عن تلك الي تحكمت لعقود بمفاصل الإقتصاد وحياة الإنسان، وأتاح ظهور عواصم جديدة تتراكم فيها ثروات مالية هائلة كعوائد من هذه الطاقة البديلة… ويقف على رأس قائمة البدائل الأكثر رخصاً وأمناً ونظافة… الغاز، والذي يتربع على رأس قائمة منتجيه ومورديه، عدو واشنطن اللدود، روسيا.
2- ظهور المنافسون وتزايد نفوذهم: ظهرت تشكيلات وأحلاف إقليمية ودولية، أغلبها قام على خلفية إقتصاديّة، ولكنها سرعان ما أخذت طابعاً سياسيّاً وأمنيّاً إلى جانب بعدها الإقتصادي، مثل منظمة بريكس. وبحكم الرغبة الأمريكية القوية على التفرد بإدارة العالم سياسيّاً، والسيطرة الأحادية على مقدراته إقتصاديّاً… دخلت هذه المنظمات والأحلاف في صدام حتمي مع واشنطن وحلفائها، وبدأ التنافس يأخذ طابعاً صراعيّاً مع الوقت… وهذا ما شهدناه في يوغسلافيا السابقة وأوكرانيا وسورية والعراق وليبيا… .
3- إنحسار القدرة على شنّ الحروب: بالرغم من الخلل الكبير في موازين القوى الدوليّة، إلا أن هناك تراجعاً واضحاً في عدد وحجم الحروب الكبيرة، وحصول تطور جذري في التعبير عن حالة الصراع بين الدول، والإعتماد بشكل متزايد على آليات العقوبات الإقتصادية والمالية- كما يحصل في إيران وروسيا- والحروب غير المتماثلة-كالحرب بأدوات إرهابية كما يحصل في سورية والعراق- والذي يمكن تفسيره بعدد من العوامل منها، الكلفة البشرية والمالية الخيالية للحروب، وإستحالة الحسم السريع بفعل تطور وسائل دفاعيّة رخيصة نسبيّاً وفعالة، كالمنظومات الصاروخية المتعددة الإستخدامات، قصف عمق العدو، الدفاع الجوي، المضادة للدروع… .
4- بروز ظاهرت التنظيمات الشعبية المسلحة: لقد كان لبروز هذه الظاهرة وتنامي دورها في المعادلات المحليّة والإقليميّة والدوليّة، بفعل التضحيات الجسام التي قدمتها، والتاريخ الطويل من مقارعة المحتل ومخططات الغرب وأدواتهم العربية… ما أعطاها دور حاسم في إسقاط الكثير من مخططات الغرب للإمساك بمناطق محددة من المنطقة والعالم تمثل السيطرة عليها حاجة حيويّة له، لأسباب جيوسياسية أو إقتصادية… مثل حركات المقاومة في فلسطين والعراق، وحزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن… .
* كيف إستغلت جبهة المقاومة العبث الأمريكي؟
بات واضحاً للجميع أن واشنطن أوباما ومن خلفها أوروبا، تسعى جاهدة إلى إعادة رسم الخرائط، وتقاسم النفوذ، والسيطرة على الثروات… على مستوى العالم، بأدوات صراع مختلفة عن المراحل السابقة. في ظروف سيطرة واشنطن على النظام المالي العالمي، تعتبر العقوبات الإقتصادية وسيلة فعالة في “خنق” الخصم وقطع الأكسجين “المال” عن أوردته، وهذا أحد أهم أسلحة واشنطن والغرب عموماً. كما أن إستخدام التنظيمات المحلية المرتبطة بأجهزة الإستخبارات الأمريكية، والغربية عموماً، أداة فعالة أيضاً في خلق الفوضى وإسقاط الحكومات… أي بما يسمى الثورات الملونة، وإن فشلت هذه الأداة بتحقيق أهدافها تلجأ إلى الحروب اللامتماثلة، والتي يخوضها “ثوار واشنطن” كما يجري في سورية والعراق وأوكرانيا… بعد أن تفشل ثوراتهم الملونة. ويمكن إضافة عدة آليات لا تقل فتكاً وضرراً إلى هذه القائمة الشيطانية الغربية الطويلة لإخضاع الشعوب والأمم، كالعزلة السياسية والشعبية والإعلامية، وخوض الحروب النفسية المركزة، والمضاربة بالعملات الوطنية للخصم… . ربطاً بما سبق وتأسيساً عليه، كيف تصرف حلف المقاومة، وسورية تحديداً، خلال الفترة القليلة الماضية، وما تجلّى واضحاً فيما أطلق عليه معركة “شهداء القنيطرة” في المنطقتين الغربية والجنوبية؟. هذه بعض التجليات المبدعة والتاريخيّة:
1- تكامل الجبهات وتوحيدها: إنجاز تبدل جذري في معادلات الصراع مع العدو الصهيوني تظهر للمرة الأولى منذ العام 1973، عندما إضطر العدو أن يأخذ موقف المتلقي لضربات الجيشين السوري والمصري بمشاركة بعض التشكيلات العسكرية العربية، على جبهتي الجولان وسيناء. إن كيان العدو سيكون مجبراً عند إندلاع أي حرب قادمة على التعامل مع ثلاثة جبهات على الأقل، الجولان وجنوب لبنان وغزة، وربما تلتحق بهم قريباً جبهة الضفة الغربية، وهذه هي المعادلة الأولى التي إتكأ عليها صانع القرار السوري وحلفائه في جبهة المقاومة لإستعادة ريفي القنيطرة ودرعا، وإطلاق المقاومة الشعبية المسلحة في الجولان.
2- إستثمار آليات العدو: لقد حاول حلف واشنطن صناعة الفوضى بإستخدام الحروب اللامتماثلة، لإعادة إنتاج خرائط وحدود وأنظمة تلبي مصالحه السياسيّة والإقتصادية والديموغرافية… فقام حلف المقاومة بإستغلال هذه الفوضى لتقوية عود المقاومات الشعبية المسلحة، والقفز فوق الحدود لتوحيد جبهات حلف المقاومة، وترسيخ قواعد إشتباك جديدة لهذه الجبهات… كإستخدام إيجابي ومبدع لآليات العدو في الهجوم على المنطقة، ومنها تحطيم واشنطن وأدواتها للحدود مثالاً. وهذه هي القاعدة الثانية لتفسير تطورات الميدان في القنيطرة ودرعا.
3- الإستثمار بمخاوف العدو ونقاط ضعفه: تسعى جبهة العدو الصهيوأمريكي وحلفائه في المنطقة بعد إنسداد الأفق أمام مشاريعهم التفكيكيّة والفوضويّة إلى الحرب، لكن مخاوف جديّة وحاسمة تمنعهم من شنها، ومنها تآكل قدرات الكيان الصهيوني على المبادرة والصمود. من هنا كان إستثمار سورية وحزب الله في مخاوف جبهة العدوان عقب عدوان القنيطرة قبل أسبوعين تقريباً، عندما نفذا تعبئة واسعة النطاق لقواتهما في جبهتي الجنوب والجولان لشلّ حركة العدو الصهيوني بإتخاذ القرار بالتصعيد إذا لزم الأمر، وتحت هذا العنوان نجد التفسير الثالث لتطورات جبهتي درعا والقنيطرة.
4- التوقيت السياسي: لقد جاء التحرك الضخم والواسع لجبهة المقاومة في جبهتي القنيطرة ودرعا مترافقاً مع عدة تطورات سياسيّة هامة منها:
* دعوة الرئيس بوتين الإحتياط للإلتحاق بمعسكرات التدريب، ما وضع أوروبا وأمريكا أما خيارات مرة، إما التسليم بشراكة روسيا بالقرار الأوكراني بمنح جمهورتي دونيتسك ولوغانسك الإستقلال الذاتي، ومنع تمدد النيتو إلى الأراض الأوكرانية، ومنع تسليحها… أو مواجهة روسيا في حرب لا قبل لهم بها، وستترك تداعياتها على كامل أوروبا، أي أن بوتين أيضاً يغير قواعد الإشتباك.
* زيارة بوتين إلى مصر وتوقيع عقود إقتصادية وزراعية وعسكرية… ضخمة معها، ما يضمن دوراً متوازناً لمصر في الحد الأدنى، والغمز من قناة الشراكة المصرية “المضطربة” مع واشنطن عندما قال في مؤتمره الصحفي مع السيسي: روسيا شريك موثوق وآمن.
* الإنتخابات الوشيكة في كيان العدو، وأي عمل غير محسوب في الجبهة اللبنانية أو السورية قد يعني دخوله في حرب كاسحة وطويلة في ظل أزمة سياسية داخلية.
* النصر السياسي الذي حققته إيران في ملفها النووي، والذي سيعلن عنه في شهر نيسان القادم، يجب أن يتم إستثماره وموازنته بنصر ميداني لجبهة المقاومة في سورية.
* إتخاذ جبهة المقاومة القرار بالمبادرة، والإنتقال من رد الفعل إلى الفعل. جاء هذا القرار بعد صمود طويل ومكلف من جهة، ونضوج ظروف داخليّة وإقليمية ودوليّة من جهة أخرى.
ختاماً، يمكن القول بأننا شهود على معركة ستغير وجه المنطقة والعالم، وستظهر مجرياتها ونتائجها بوضوح حجم التبدل الهائل في أقطابه ومكوناته وخرائطه… وأسماء سادته الجدد.
---------------------------------------
المصدر
رد مع اقتباس
