صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 18
الموضوع:

الاحساس بالوطن .. في الشعر الجاهلي

الزوار من محركات البحث: 4523 المشاهدات : 9610 الردود: 17
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من المشرفين القدامى
    تاريخ التسجيل: September-2014
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 4,511 المواضيع: 216
    التقييم: 1659
    آخر نشاط: 8/November/2016
    مقالات المدونة: 2

    الاحساس بالوطن .. في الشعر الجاهلي

    الإحساس بالوطن
    عند الشاعر العربي الجاهلي
    ا.م الشيخ ضياء علي
    الاهداء
    الى الغرباء في اوطانهم ..... لفقد الاحبة ......

    المقدمة
    الحمد لله ... والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله آل الله .
    اما بعد ..
    يُعد الوطن عند العرب كياناً يحرصون كل الحرص على اثبات وجوده ، وذاتاً يعتدون بالانتماء اليها ويلهجون في التعبير عن هذا الانتماء . وكان همهم الاكبر وشغلهم الشاغل الذي لا يكاد يفارق وجدانهم طرفة عين وهذا ما نراه واضحاً في تعبير شعرائهم عن الارض والتعريف بكل ما يتصل بها من قريب ومن بعيد .... حتى اصبحت هي الفكرة المهيمنة على احساسهم ووجدانهم وجعلتهم يتخذون من المكان المفقود تقليداً سائداً متمثلاً بالوقفة الطللية .. وتأتي مواقفهم الوجدانية شعراً مُلحاً ومُعِّبراً عن كل ما يتعلق بالمكان ثم يتعزز تعبيرهم ويتجلى واضحاً عند اهم شرط من شروط الانتماء وذلك في الحديث عن القبيلة لتي هي عنوان كبير لوجودهم ، فالارض والقبيلة هما بمنزلة الدار وساكنها ... ومن الاثنين يتشكل الوطن المادي والمعنوي ... وقد تحدث الشاعر الجاهلي عن ارضه كثيراً ورسم لوحاتٍ فنية من المشاهد الحية والصور الدقيقة المتحركة لكل ما وقعت عليه عينه وشهدته جوارحه ...وفي الوقت نفسه عّبر عن احساسه بالقبيلة ورأى فيها ذاته ووجوده دالاً بذلك على صدق الانتماء الى وطنه في اهم عنصرين من عناصر تكوينه اللذين كانا حاضرين في نفسه ووجدانه وكاشفين عن عمق انتمائه الى الوطن والوفاء لكل مَن وما فيه ...

  2. #2

  3. #3
    من المشرفين القدامى
    ما هو الوطن ؟.
    يفيد المعنى اللغوي للفظة ((وطن)) الاستقرار والثبات في المكان ،ففي المعجم اللغوي العربي أن ((الوطن مربض الغنم))([1])، ثم تطور هذا المعنى إلى أن اخذ يُطلق على كل ما له صلة بالثبات والاستقرار فشمل الدار والموضع والموقف والمنزل والمعهد والمشهد والمعرّس كما هو وارد في الشعر([2]) الجاهلي.أما المعنى الاصطلاحي للوطن فيدور حول الملازمة للشيء والسكينة إليه، فأي شيء يُحرز فيه الاكتفاء من ضرورات الحياة وشروط البقاء هو وطن ،فالمكان وحده لا يسمى وطناً إذ انه يبقى مفتقراً إلى شروط أخرى وهذه الشروط مقرونة بالمكان اقتران الشيء بذاته، فلا بد ـ إذن ـ من الاطمئنان النفسي والوجداني في الوطن والا فسوف تبقى دلالة المكان قاصرة ولذلك قيل ((الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن))([3]) وقيل ((لا وطن مع الظلم))([4]). والحديث في ما سيأتي ينصبُّ على إحساس الشاعر الجاهلي بأشيائه الملازمة له في حَلّه وترحاله والوقوف ما أمكن على آثارها في نفسه وسلوكه ووجدانه وفنه. فكانت الأرض أول الأشياء التي يسكن إليها ثم الانسان الذي هو سبب عمارتها وبعث الحياة فيها .
    أ- الإحساس بالأرض
    إن الموروث التاريخي والأدبي لحياة العرب قبل الإسلام يؤكد حب الإنسان العربي الجاهلي لأرضه وإحساسه بالانتماء إليها .ويتبين ذلك عند تأمل المواقف المأثورة والقصص المشهورة والأمثال السائرة التي بين أيدينا ففيها ما يدل دلالة واضحة على عميق حب العربي لأرضه وشديد تعلقه بها . ومن ذلك ما يُروى أن أعرابياً سُئل:
    أتشتاق إلى وطنك؟ فأجاب((كيف لا اشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها ورضيع غمامها))([5]). وسُئل آخر عن موقفه في ما لو انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله فأجاب قائلاً: (( وهل العيش إلا ذاك ؟! يمشي أحدنا ميلاً فيرفضّ عرقاً كأنه الجمان ، ثم ينصب عصاه ويُلقي عليها كساه وتُقبل الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى )). وكانت العرب إذا أراد أحدهم سفراً (( حمل معه من تربة بلده رملاً وعَفْراً يستنشقه عند نزلة او زكام او صداع)). أما العلامة التي يعرفون بها صدق انتماء المرء لوطنه فتكمن في النظر إلى ((حنينه إلى أوطانه وتشوّقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه)) ([6]). وإذا نظرنا إلى الشعر الجاهلي خاصة وجدنا مواقف لا حصر لها لمثل هذه المعاني وفي كلّ يبدو الشاعر متيَّماً بحب أرضه دائب الحنين إليها لا يبرح يذكرها ويذكر أيامه الخالية فيها ويحصي مواضعها موضعاً موضعاً ويقتفي آثارها اثراً اثراً. واكثر من ذلك لقد أحب في أرضه حتى الذئاب الجائعة وأنِس صحبتها وطاب له أن ، يعيش قريباً منها وهي صورة متكررة في أكثر من شاهد في شعرهم فأمرؤ القيس يخاطب ذئب الصحراء وكأنه صديق له : ([7])
    ووادٍ كجوف العير قفرٍ قطعته به الذئب يعوي كالخليع المعّولِ
    فقلتُ له لما عوى :ان شـأننا قليل الغنى ان كنت لما تمـوّلِ


    ([1]) الصحاح 6/2215 وانظر لسان العرب _ وطن 3/415.

    ([2]) راجع ديوان طرفه ص12 ،امرئ القيس ص144 وعنترة ص194،56.

    ([3]) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 8/190.

    ([4]) من أقوال (لابروبير )انظر بين علي والثورة لفرنسية ص121.

    ([5]) ديوان المعاني ص87 ومطالع لبدور 2/292 وفي الحنين إلى الأوطان فحضنتني أحشاؤها وأرضعتني أحساؤها .

    ([6]) مطالع البدور 2/292.

    ([7]) ديوان امرئ القيس ص73.

  4. #4
    من المشرفين القدامى
    ولعل في المقدمات الطللية التي يصرّح فيا الشعراء بذكر مواضع الديار ما يكفي شاهداً على عميق الإحساس بالأرض ويتجلى ذلك في الدقة في تحديد مواقعها وتوزيعها توزيعاً جغرافياً يدل على أمانة المشاعر في التعبير والوفاء لما يحمله الشاعر الجاهلي من صدق إحساس وحرارة عاطفة لوطنه . ولا يخفى ما في التحديد من دلالة موحية بما وراءها من مقاصد وما يصحبها من تداعيات سيأتي الحديث مفصلاً فيها ـ ان شاء الله. أما موقفه الوجداني فيتجلى في الحنين الدائم إلى الديار وما يتبعها من آثار مشتاقاً إلى تربها ووحشها ونباتها ورمالها ونؤيها ووهادها ووديانها حتى ينتهي به الأمر إلى ذرات التراب وحبات الرمال والحصى لا يبرح قاعداً عندها يشرح وجده ويسكب العبرات التي لا تنقضي .يقول امرؤ القيس :
    ظلِلْتُ ردائي فوق رأسي قاعداً اعدّ الحصى ما تنقضي عبراتي
    ويجعل ترب أرضها كأذكى عطر ونسيمها كأطيب مسك . يقول عنترة:([1])
    ارض الشربّة تُرْبــها كالعنبر ونسيمها يسري بمسكٍ اذفَرِ
    ويكثر الشعراء الجاهليون من ذكر المواضع ذات الصلة بماضيهم من قريب وبعيد ويحرصون على الإمعان في وصف مظهرها وتحديد موقعها ولطالما تضمنت المقدمة الطللية سرداً لأسماء كثيرة للديار قد لا يكون الشعراء وطئوها بأقدامهم، وهذا يدل على حضور الطلل في أنفسهم وانطباع صورته الدائمة في وجدانهم. يقول امرؤ القيس: ([2])
    غشيتُ ديار الحي بالبكراتِ فعارمة فبرقــــة العيراتِ
    فغولٍ فحِلّيت فأكناف منعجٍ إلى عاقلٍ فالجبّ ذي الأمراتِ
    ويقول زهير : ([3])
    عــفا من آل فاطمة الجواءُ فيُمنٌ فالقوادمُ فالحــسـاءُ
    فذو هاشٍ فميتٌ عرتيــنات عفتها الريح بعدك والسمـاءُ
    فذروة فالجنابُ كأن خنس الـ نعاج الطاويات بها المـلاءُ
    فالشاعر الجاهلي قد صرّح بذكر هذه المواضع ولعلَه لم يسكنها ولم يترك فيها ذكريات تبعث فيه الشوق والحنين وانما يذكرها لقربها من موضع وطنه ـ فهو إذن ـ عاشق يطيب له ان يذكر كل ما له صلة بمعشوقه ولهذا يأتي التركيز والإسهاب في أسلوب العاشقين دلالةً على عشق الشيء والتعلق به وهذا البعد المكاني يشكل ظاهرة في حديث الشعراء عن أطلالهم . أما البعد الزماني فلا يقل أثراً عن البعد المكاني في وجدان الشاعر الجاهلي العاشق .فكلاهما يشكل سمة واضحة في حديثهم عن الأطلال فنراهم يحرصون على تحديد سنوات الفراق وكأنهم بذلك يحتسبون دقائق الزمن لِما استأثرت تلك الديار من هوىً في أنفسهم اكسبها هذا الحضور الدائم عندهم فهيمن على عواطفهم وطغى على تفكيرهم فلا يملكون الا ان يطيلوا الوقوف والحديث والبكاء كمن احب شيئاً وشغف به فلا يريد ان يرى غير صورته أمامه في كل شيء وكل حين وكل حال .وفي تحديد مدة التحول من الديار عميق إحساس بها وشديد انتماء إليها وصدق وفاء لعهده الماضي فيها. ((فهي عند زهير عشرون حجة... وعند عبيد سنون ذواهب مرة وعام مرة أخرى وعند امرئ القيس حجج بغير حساب ويعرّفها النابغة بعد سبعة أعوام في حالتين وسنوات غير محدودة اكتملت عليها منذ ان كان يسكنها قوم لبيد وعند ربيعة ابن مقروم أتت عليها سنتان وبعد ثماني سنوات عفت آثار عميرة بن جعل وفي هذا التحديد بتنامي الفترات المؤنسة والزمن المرهق والحياة القاسية وقد تنتزع منه بعض الهموم الدموع او تضطره الذكريات إلى إسبال العبرات المتفاوتة في مقدارها تعبيراً عن عمق مأساته وحدة شعوره وهو يرقب فترات العمر تنثال ركاماً بين كل منعطف مغمور او ساحة مبتورة الأعشاب او دار مثلمة الأطراف)) ([4]). ويتخذ الإحساس بهذه المواضع التي صارت قطعة من نفسه الذاهبة واثراً من آثار حياته الماضية معنى الثبات حين يشبهها بالوشم في ظاهر اليد فصورة الوشم هذه ((لابد ان تعكس لنا المعنى المراد من ثبات هذا الأثر الذي يشبه ثبات الوشم ،وقد تعاود الشعراء هذه الصورة وتداولها )) .قال طرفة بن العبد : ([5])
    لخولة اطلال ببرقة ثهمَدِ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
    ويقول طفيل الغنوي: ([6])
    لمن طلل بذي حيمٍ قديمُ يلوحُ كأن باقـــــيه وشومُ
    فلم تكن ـ إذن ـ عاطفة الشاعر وهو يرى بلى اطلاله عاطفة آنية او مقترنة بموقف او مشهد يثير الإحساس ثم يختفي بإختفاء الموقف أو المشهد بل أنها إحساس ثابت بالفقد يعتري الشاعر العاشق في كل حين ما دام الوطن مفقوداً لا يرى له مكاناً تقرّ به عينه ولا حيّزاً يشغل حاجاته الوجدانية فاستقر هذا الإحساس حضوراً دائماً في الوجدان وملك عليه تفكيره أينما كان فكانت صورة الوشم أوفق لهذا الحضور الدائم وهي اقرب إلى صدق التشبيه وواقعيته. فالطلل غدا شيئاً مركوزاً في وجدان الشاعر وحقيقة ثابتة لا يعفّيها الزمن.


    ([1]) ديوان عنترة ص151

    ([2]) ديوان امرئ القيس ص73.

    ([3]) شرح ديوان زهير. ص56

    ([4]) تاريخ الأدب العربي قبل الإسلام ص152 – 153.

    ([5]) شرح المعلقات السبع ص60.

    ([6]) ديوان الطفيل ص111.

  5. #5
    من المشرفين القدامى
    قال زهير : ([1])
    قف بالديار التي لم يعفها قِدِمُ بلى وغيرّها الأرواح والديمُ
    أي لم يُنسِ قِدمُ الزمان حضورَها في نفسه وان اعتراها البلى بفعل الأسباب الطبيعية من ريح عاصفة وامطار متوالية وغيرها .وفي دقة تصويره لمواضع الديار وتحديد مواقعها ومدة فراقها سر آخر من أسرار إحساسه بالمكان،فمرة يتجلى في هذا التحديد الدقيق الذي يحرص فيه على التعريف به تعريفاً مفصلاً ومرة أخرى يتجلى في الإطناب في الحديث عنه وما يتصل به من قريب وبعيد ولم يكتف بذلك حتى يفصّل في عناصر ثانوية اخرى تصحب المكان كالتلال والجبال والنبات والحيوان وغيرها فتغدو الوقفة الطللية حافلة بالصور المختلفة لمظاهر الطبيعة الحية والساكنة .يقول امرؤ القيس : ([2])
    لمن طلل بين الجدية والجبلْ *** محل قديمٌ طالت به الطيلْ
    عفا غير مرتادٍ ومرّ كرحبٍ *** ومنخفض طامٍ تنكرّ واضمحلْ
    وزالت صروف الدهر عنه فأصبــحت *** على غير سكانٍ ومن سكــــن ارتحلْ
    تنطّح بالاطلال منه مجلجل *** أحم إذا احومت سحائبه انسجلْ
    بريحٍ وبرق لاح بين سحائبٍ *** ورعْد إذا ماهب هاتفه هطلْ
    فأنبتت فيه من غشنضٍ وعشنصٍ *** ورونق رندٍ والصلندد والاسلْ
    وفيه القطا والبوم وابن حبوكل *** وطير القطاط والبلندد والحجلْ
    وعنثلة والحبثوان وبرسلٌ *** وفرخ فريق ٍ والرّفلة والرفلْ
    وفيل واذياب وابن صنوبرٍ *** وغنسلة فيها الخفيعان قد نَزَلْ
    وهامٍ وهمهامٍ وطالع انجد *** ومنحبك الروفين في سيره مثلْ
    فلما عرفت الدار بعد توهمي *** تكفكف دمعي فوق خدي وانهملْ

    ان تأكيد حضور الطلل في مثل هذه الصورة الغنية بالعناصر والمفعمة بمشاهد الطبيعة ـ الحية والساكنة والتفصيل في الحديث عنها محاولة أخرى لتثبيت مكان الأشياء الحبيبة إلى نفسه على الرغم مما سببته عوامل التدمير من الهدم والإبادة .((ولعل الشاعر يبدي عبر هذه الحالة تشبثاً بالمنهار كي يستديم، بيد ان اختفاء اليقين على حضور الطلل او على الانهدام وإقناع الآخر بمثوله وتواجده حقاً لا زوراً هو الدافع الأساسي لتحديد أماكن الأطلال))([3]). ومن مظاهر الإطناب في الحديث عن المكان تكرير الشاعر من إيراد الأسماء أسماء المواضع ـ والمعروف ان ذكر الشيء مكرراً لابد ان يحمل دلالة تتصل بنفس ووجدان المتحدث وقد حاول بعض الباحثين ان يلتمس تفسيراً لهذه الظاهرة فردها إلى (( لفتات نفسية لوحظت فيها عواطف القائل ومشاعره الباطنية وأثرها في القول ذلك مثل تعليلهم لبعض الإطناب بالتكرار ان ذلك للتلذذ او التحنن)) ([4])مثل قول الشاعر:
    تمتّع من شميم عرار نجدٍ فما بعد العشية من عَرارِ
    ألا يا حبذا نفحات نجــدٍ وريّا روضهِ غبّ القِطارِ
    وعيشكَ اذ يحلُّ القوم نجداً وانت على زمانك غير زارِ
    وهذا التعليل يتجلى واضحاً في خطاب العاشقين على نحو ما نرى في قول عنترة : ([5])
    يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
    فالتركيز هنا على مكان الحبيب واعادة ذكره مرتين لا يمكن حمله الا على وجه التلذذ والتحنن في مقام يحسن فيه التكرار الذي لا يُمَل .فالعاشق لا يريد محو رسم المحبوب ويحاول بكل وسيلة ان يصنع له حضوراً كاملاً في وجدانه فيلجأ إلى استحضار مكانه لأنه أكثر شيء يلازم الإنسان ((العاشق)) وأدعى إلى استحضار صورته عند كل حديث عن الحبيب ولهذا وصفت المرأة ـ الزوج ـ بالسكن كما جاء في القرآن الكريم قل سبحانه وتعالى ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا))([6]) لأنها ملازمة للرجل في

    ([1]) شرح .ديوان زهير ص 98

    ([2]) ديوان امرئ القيس ص12.

    ([3]) مقالات في الشعر الجاهلي ص151

    ([4]) النقد الادبي،سيد قطب ص210.

    ([5]) شرح المعلقات السبع. معلقة عنترة

    ([6]) سورة الروم الاية 21.

  6. #6
    من المشرفين القدامى
    حَلّه وترحاله. اما التعبير عن وجود الطلل اللامحسوس في الوجدان والتأكيد على حضوره الباقي فنستطيع ان نلتمس له شواهد عديدة ومنها قـول زهير المذكور:
    قف بالديار التي لم يعفها قِدِمُ بلى وغيرّها الارواح والديمُ
    فذكر إنها باقية في حضورها الوجداني وإن كانت عافية في وجودها المكاني وهذا عين ما ذهب إليه المتنبي بعد قرون عديدة في قوله: ([1])
    لك يا منازل في القلوب منازلُ أقفرت أنت وهنّ منك اواهلُ
    وهكذا يبقى مكان الديار وأهلها الظاعنين عنها حضوراً دائماً ويدل على حقيقة وجدانية راسخة تتحدى مر الزمان ولا تستطيع عوامل الطبيعة ان تعفّي عليها فتسلبها هذا البقاء .وكأن الشاعر الجاهلي في كل ما تقدم يكشف لنا عن سر ارتباطه بالديار التي لم تعد مكاناً وحسْب يسهل العثور على بديل لها والتعويض عن وجودها المكاني بأية بقعة من بقاع الأرض الواسعة بل ان هذا الارتباط بالأرض مرده إلى تذكر الشاعر لحقائق نفسه التي خلفّها في ذلك العهد الماضي.الوجود الذاهب للشاعر نفسه ومن ثم يؤول الحديث عن الديار إلى الحديث عن الذات والتأكيد على حضورها في كل حين .
    ب ـ الإحساس بالقبيلة:
    من المعروف ان القبيلة هي النظام السائد المتعارف عليه عند العرب قبل الإسلام وهي الكيان الذي يربط الأفراد فيما بينهم برباط أساسه الدم والقرابة وعلى الفرد ان يفي بكل ما عليه من حقوق القبيلة وعلى القبيلة مثل ذلك وليس من الهين التفريط بفردٍ واحد من افراد القبيلة لأنه عمادها وسنادها وسورها الحامي ذمارها عند التعرض للأخطار او العدوان الخارجي. وفي مثل هذا النظام القبلي ((لم يكن بد من محالفات بين الفرد والفرد وبين الفرد والقبيلة وبين القبيلة والقبيلة ،لتعزيز القوة وتقوية الحماية وذلك لكثرة الحروب وتوجس الاغارات، واعتمادهم على أنفسهم في حماية العرض والمال والروح)) ([2]) .وقد يبلغ الشعور بالانتماء إلى القبيلة حد العمى فينساق وراء قبليته انسياق الأعمى الذي لا يملك سوى ان يرفع راية الانتصار لقبيلته منصفة كانت في موقفها ام جائرة منطلقاً من مبدأ جاهلي ((انصر أخاك ظالماً او مظلوماً )) ([3]) . وفي هذا الانسياق يذوب الفرد في القبيلة حتى لا يملك موقفاً فردياً وقد يصرّح بضلاله معترفاً من اجل ان لا يخسر انتماءه إلى قبيلته الضالة وفي ذلك يقول دريد ابن الصمة : ([4])
    وما انا الا من غزية انْ غَوَتْ غويتُ وانْ ترشدْ غزيةُ ارشدِ
    ان طغيان الإحساس بالجماعة لم يَدعْ للشاعر فرصة الانفراد حتى وان كان مصيباً في موقفه المخالف لموقف قبيلته فيكتفي بالنصيحة والإشفاق على مصير قومه دونما تحلل من قيود الأعراف التي كانت تشجع على قوة الجماعة في ذلك المجتمع القائم على التناحر والغزو.اما حين يتشتت رأي الجماعة فتضعف وتُقهر([5]) فالعرف الجاهلي ـ اذن ـ يقتضي قبول الخطأ وإيثاره مع الجماعة على الصواب مع الفرد وهذه سُنة جاهلية عمياء كانت(تؤرق الشاعر دريد)([6]) . وقد تلجأ القبيلة إلى خلع بعض أفرادها انْ أخلّوا بشروط الانتماء إليها حتى إذا أحسوا بكيان يستطيع النهوض بنفسه والاستغناء عن القبيلة تَشكّلَ مجتمع جديد قائم على الصعلكة وبالتالي يختفي الشعور بالانتماء إلى القبيلة ويحل محله شعور يناقضه ويقف على الضد منه ((فكان من الطبيعي ان يفقدوا ـ أي الصعاليك ـ إيمانهم بكل معاني القبيلة، وان يكفروا بتلك العصبية القبلية التي لم يعد لها قيمة في حياتهم ،بل قد ينقلبون انقلاباً تاماً فتصبح صلتهم بقبائلهم صلة عداوة …..))([7]).على انه قد يحدث احياناً ان تغمط القبيلة بحقوق أفرادها ولا تنزلهم المنزلة التي تليق بحسن بلائهم ووفائهم للقبيلة فماذا يكون رد فعل الفرد أمام هذا الغمط ؟
    قليلٌ من الشعراء الفرسان تعرضوا لمثل هذا الإجحاف لغير سبب سوى ان الله ـ سبحانه ـ خلقهم وجبلهم على صفات ليست مقبولة في الأعراف الجاهلية فاتُّخِذ منها مواقف سلبية مجحفة تظهر آثارها على الفرد انْ سلباً او ايجاباً ، وهذا ما حدث فعلاً لعنترة العبسي الذي أَنِفَ أَبوه ان ينسبه للقبيلة لسواد جلده فما كان من الشاعر الفارس الا ان تعمق شعوره بالانتماء إلى القبيلة واظهر الموقف الايجابي من قومه : ([8])
    وأُظهر نُصح قومٍ ضيعوني وإن خانت قلوبهم الودادا

    ([1]) العرف الطيب في شرح ديوان ابي الطيب ج1 ص 348

    ([2]) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص285.

    ([3]) مجمع الامثال 1/12.

    ([4]) جمهرة اشعار العرب ص122 .

    ([5]) في النقد والادب ص438.

    ([6]) المصدر السابق.

    ([7]) الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ص114.

    ([8]) ديوان عنترة ص124.

  7. #7
    من المشرفين القدامى
    ومع كل ما يلقى بين قومه من ضروب الاذى والاساءة لا ينفك ينجد قبيلته في كل موقف صعب تمر به ويفخر بها ويؤثر ان يبذل نفسه في سبيلها ويمدحها في حالاته جميعاً يقول: ([1])
    إن يلحقوا أكررْ وان يستلحموا أشددْ وان يُلفَوْا بضنكٍ أنزلِ
    ويبقى يحميهم حتى اخر نَفَس من حياته: ([2])
    واني لأحمي الجار من كل ذلةٍ وافـرح بالضــيف المقيم وابهجُ
    واحمي حمى قومي على طول مدتي إلى ان يروني في اللفائف اُدرَجُ
    ولقد يحدث للشاعر ان يسيء قومه فهمه ويختلف معهم في بعض المواقف فيُمنى بالجفاء وبالقطيعة ولكنه لا يتخذ الموقف نفسه من قومه فنراه يعبر عن إحساسه بالانتماء إليهم ويشكو ظلمهم ومع ذلك كله يؤثر الإبقاء عليهم ويعاهد نفسه للدفاع عنهم والوقوف معهم عند مهمات الأمور بل يظهر بمظهر الإقدام والغيرة عندما يقتضي موقف ما ينكص فيه الأبطال وتتراخى العزائم وهذا ما حدث لطرفة بن العبد القائل:([3])
    وقرّبت بالقـــربى وجدك انني متى يك امر للنكيشة اشهدِ
    وان ادعَ للجلّى اكن من حماتها وان يأتك الاعداء بالجحد اجَحدِ
    وفي كل حال ترى العربي الجاهلي ينزع إلى قومه ويفخر بانتمائه إليهم حتى إذا نزلت نازلة جعل نفسه وماله وقاءً لهم كما فعل حاتم مع قومه اذ يقول:([4])
    سيكفي ابنتاي المجد سعد ابن حشرجٍ واحمل عنكم كل ما حلَ من ازْلي
    ولا ينبغي لذي الفضل والسعة من أفراد القبيلة ان يبخل بفضله ويحتكر ما عنده فلا يصل نفعه إليهم، ومن يفعل ذلك فسوف يكون مصيره النفي والاستغناء عنه: ([5])
    ومن يك ذا فضلٍ فيبخل بفضله على قومه يُستغنَ عنه ويُذممِ
    اما حياة الفرد بين قومٍ غير قومه وفي وطن غير وطنه فهي حياة يكتنفها الذل والهوان وشعور دائم بالوحشة ولا يفرق بعضهم بينها وبين الموت لما فيها من فقدٍ للشعور بالانتماء وغياب الإحساس الجماعي الذي ينعم به بين قومه ووطنه.وفي هذا المعنى يتجلى بوضوح مفهوم الوطن بمعنى الانتماء الوجداني لا المكاني والذي اكد عليه قائلهم ((إذا كنت في غير قومك فلا تنسَ نصيبك من الذل )) ([6]).
    فالشاعر الجاهلي ـ اذن ـ وهو ينطلق في كل هذه المعاني من منطلق الانتماء إلى الوطن يحس إحساساً عميقاً بضرورة الوحدة والتأليف بين قلوب الأفراد واجتماع كلمتهم وفي هذا الإحساس وفاءٌ لحق من الحقوق الاجتماعية الطبيعية دون ان يصرّح بأسباب هذا الانتماء إلى قومه ودون ان يفسر هذا الانتماء الوجداني الذي ان نظرْتَ إليه متأملاً وجدته من ضرورات حياة العربي ومن شروط عيشه وبقائه .وواقع الشعر العربي القديم يحفل بالمعاني الوجدانية التي ترقى بالشعور إلى سماء الروح الصافية وترسم جواً من التسامي والشفافية يدل على ذلك مواقف كثيرة مأثورة …ألم يكن يرى العربي الجاهلي ان الحديث مع الضيف من القرى ؟او لم يتحدثْ عن تجربته الوجدانية في الصداقة فيقول : ([7])
    فلا اترك الإخوان ما عشت للردى كما انه لا يترك الماءَ شاربه
    او لم يؤثر المبيت طاوياً يكابد مضض الجوع على ان لا تمتد يده إلى ما ليس له به حق ؟!([8])
    ولقد ابيت على الطوى واظله حتى انال به كريم المأكلِ

    ([1]) شعر عروة بن الورد العبسي ص73.

    ([2]) ديوان عنترة ص112.

    ([3]) شرح المعلقات السبع ، معلقة طرفة بن العبد ص78.

    ([4]) ديوان حاتم ص110

    ([5]) شرح المعلقات السبع ص120.

    ([6]) محاضرات الادباء 2/385 .

    ([7]) ديوان عروة ابن الورد ص15 .

    ([8]) ديوان عنترة ص57 .

  8. #8
    روح الأمل
    almurhafa
    تاريخ التسجيل: May-2014
    الدولة: عراقي أني .. الي بعد النجم هم يقرا عنواني
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 12,360 المواضيع: 287
    التقييم: 2815
    مزاجي: معتدل
    المهنة: طالبه
    أكلتي المفضلة: ‏. . . .‏‎
    مجهود يستحق التقييم
    شكرا لك

  9. #9
    من المشرفين القدامى
    اولم يَعَفْ الشهْدَ ويُؤثر الحنظل عليه ان كان في الأول ذلة ومــهانة وفي الثاني عزة وكرامة ؟!.
    أولم يُعْنَ بحياة الذكر الجميل فيحتقر معها كل معنىً للبخل والاحتكار ؟! يقول حاتم: ([1])
    أماويُّ ان المال غادٍ ورائحُ ويبقى من المال الأحاديث والذكرُ
    أولم يكن في كل ذلك وغيره كثير قد ملأ بطون الكتب ـ دليل على ان الشاعر الجاهلي لم يكن ليحب وطنه لأن فيه استجابةً لمتطلبات جسده دون روحه ؟!.بل وجد في وطنه ما هو أسمى وأبقى فراح يتغنى بالمعاني الأخلاقية السامية التي تمجده وتباركه حتى إذا أحس بالفراغ منها في قومه آثر وطناً آخر وأبدل بهم قوماً آخرين يحيا بينهم في ظلال حياةٍ كريمة على ما فيها من احتمال الصعاب والصبر الطويل كضريبة يدفعها الحر الكريم عن الأذى .وهذا ما فعله الشنفري القائل : ([2])
    وفي الأرض منأىً للكريم عــن الأذى وفيها لمن خاف القِلى متعزّلُ
    ولي دونكم اهلـــون سيْــدٌ عملّسُ وأَرقطُ زهلولُ وعرفاء جَيْــألُ
    اما الوطن بين القوم والقبيلة في نظر الشاعر الجاهلي فهي الحياة الكريمة التي يعز بها ويُكرّم وعلى شرطها يكون صالحاً ويقوم فيه عيشه وبقاؤه.من اجل ذلك كله كان حب الجاهلي لقبيلته أي لوطنه حباً صادقاً إمّا احب وكُرْهُهُ له كُرْهاً صادقاً إمّا كره .وكم من فارس قُتل دفاعاً عن بني قومه.ولما لم تكن الحياة العربية لتستقر على حال فيشعر الفرد في ظلها بسكون الخاطر واطمئنان البال فقد راح الشاعر الجاهلي ـ كما يبدو في شعره ـ مُشمّراً عن ساق العزم لمواجهة الأخطار المحدقة وأيام العرب خير دليل على هذا التقلب وما يتبعه من حذر وتيقظ واستعداد دائم وما يصحبه للثارات التي طالما خلّفت وراءها عالماً مثقلاً بالجراح والنواح ((وبيئتهم الطبيعية والاجتماعية مؤرثة لهذه الحروب فهم يتنازعون على المرعى يسيمون فيه أنعامهم ،وعلى المنهل يُطفئون به ظمأهم في بلاد شحيحة بالكلأ صنينة بالماء …..على ان بعض الحروب كان رغبة في السلب والغارة لأن أرزاقهم في رماحهم ،ومعاشهم في أيدي غيرهم ونجد تصوير ذلك في أبيات للقطامي ـ شاعر مخضرم ـ إذ يتحدث عن الخيل والخيالة وديدنهم في السلب والغارة )) ([3]).
    وفي ظل هذا التقلب الذي يسببه هذا الاضطراب والتحول في حياة الجاهلي يتعمق شعور الفرد بالقبيلة من جهة وشعور الفرد بالفرد من جهة اخرى حتى إذا اُصيب الشاعر بقبيلته او بأحد أفرادها عظم الخطب عليه وراح يصبغ شعره بالحزن والأسى .والموروث الجاهلي من شعر الرثاء يدل دلالة واضحة على ذلك .فكانت الحروب الدامية وما ينتج عنها من فقد للأرواح والأوطان مسببة مسحة الحزن على أدبهم وأول ما يطالعنا في سلسلة المراثي الجاهلية الكثيرة من أمثلة شعرية ملآى بالعواطف الحزينة والبكاء المر الذي لا يكفكف دمعه ولا تنقطع عبراته ،هذا النص الشعري من قصيدة للمهلهل يرثي فيها أخاه كليب : ([4])
    أهاج قذاء عيني الادّكارُ *** هدوءاً فالدموع لها نهمارُ
    وصار الليل مشتملاً علينا *** كأن الليل ليس له نهارُ
    وبت أراقب الجوزاء حتى *** تقارب من أوائلها انحدارُ
    أُصرّف مقلتي في اثر قومٍ *** تباينت البلاد بهم فغاروا
    وأبكي والنجوم مطلّعاتٌ *** كأنْ لم تحوها عيني بحارُ
    على من لو نعيت وكان حياً *** لقاد الخيل يحجبها الغبارُ
    دعوتك يا كليبُ فلم تجبني *** وكيف يجيبني البلد القفارُ
    أبت عيناي بعدك ان تكفا *** كأن غضا القتاد لها شِفارُ
    وهكذا تُسهم أيام لعرب في تعميق إحساس الشاعر بالفقد وتخلق في نفسه انطباعاً لعالم ينوء بالأحزان فينعكس ذلك ادباً وتعبيراً مفعماً بالعواطف الحزينة والانفعالات الحارة.





    ([1]) ديوان حاتم ص71 .

    ([2]) اعجب العجب ص37 - ص39 .

    ([3]) الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص230 .

    ([4]) اخبار المراقة واشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام ص271.


  10. #10
    من المشرفين القدامى
    ملخص البحث
    كانت دراسة الوطن عند الشاعر العربي الجاهلي في هذا البحث الصغير مُنصّبةً على عنصرين يشكلان حقيقة الوطن للإنسان العربي الجاهلي هما : الأرض والقبيلة ، فكان للأرض حضور دائم في شعره وقد أسهب في التعبير عنها وحرص على استجلاء كل ما يتصل بها ليكشف بذلك عن عمق إحساسه بها ومعّرفاً بكل ما أمكنه من التعريف بجزيئاتها ، وكانت القبيلة هي الوجود الذي يرى فيها الشاعر نفسه ويعدها المأوى الذي يأوي إليه والظل الذي يستظل به ، ولهذا فهو يرى نفسه مُلزماً بالمحافظة على كيانها والتغني بأمجادها .
    أما تعبيره عن انتمائه إلى الأرض فقد دلّ عليه تأكيده على الوقوف على أطلالها – الوطن المفقود – وبكائها والتعريف بمواقع سكناه فيها موقعاً موقعاً ...
    واما القبيلة فكان حرصه على الاعتزاز بالانتماء اليها جعله يؤثر نصرتها وان كانت ظالمة على التخلي عنها !! كما فعل دريد وعنترة .


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال