في زمن انقلبت فيه الموازين الأخلاقية، وتغيرت فيه المعادلات الانسانية، وتراجعت فيه القيم والمبادئ أمام ضغط المصالح والانانيات السياسية والشخصية، وراح فيه أراذل البشر من الارهابيين، يذبحون الشرفاء والابرياء والمؤمنين والمسالمين بخناجر احقادهم وسادياتهم الدموية وعقدهم الجنسية الملوثة بعصارة قذارات التاريخ وهم يصرخون بهستريا الدم المجنونة بملئ افواههم الآسنة باسم الله الواحد الاحد في الوقت الذي يلوثون فيه بيوت الله وينتهكونها ويحرقونها، وحيث أمسى طوفان الفساد هو القاعدة وتراجعت النزاهة منكفئة على نفسها حتى تكاد أن تكون في بعض الدول (الديمقراطية جدا، صاحبة التجارب الثورية جدا جدا، وعلى ايدي بعض القادة التأريخيين الشرفاء جدا جدا جدا ) استثناء، تومض من بين تراكمات الفساد وهياكله السود ومساوئه الخطيرة وارهاصاته المريرة تجربة شريفة هنا ومبادرة نزيهة هناك، لتؤكد أن رحم الانسانية لم يصرعه الاحباط بعد ولم يتمكن العقم منه، وأن بويضات الشرف والاستقامة لا يزال بامكانها أن تجد من يخصبها من حوينات القيم والاخلاق والمبادئ المنوية لتمنح الحياة للآلاف من اجنة النزاهة في ارحام الجيل الحالي والاجيال القادمة ولتضع المزيد من الولادات الحية التي تمتلك جينيا الحصانة الاسرية والاجتماعية والاخلاقية والدينية والانسانية ضد كل فايروسات الفساد مهما بلغت قوتها وحدتها وخطورة اسلحتها وعنف هجماتها وسعة اغراءاتها.
واذا كان رئيس الاورغواي (خوسيه ماخيكا) قد ضرب أروع الامثلة ليس في النزاهة حسب، وانما في انسانيته المفرطة وحبه النقي الصادق غير المحدود لشعبه واستحق بجدارة لقب افقر وأسخى رئيس في العالم وهو يتبرع بــ90% من راتبه الرئاسي البالغ اثني عشر الفا ومائتين وخمسين دولارا (وهو اقل من راتب أي عضو من اعضاء مجلس النواب لدينا) ، لصالح الاعمال الخيرية مكتفيا من راتبه بمبلغ (1250$) الف ومائتين وخمسين دولارا فقط، فضلا عن تحويل أجنحة قصره الرئاسي الى مأوى للفقراء والمشردين ولمن لا سكن لهم، مما ادى الى انخفاض معدلات الفساد في بلده الى ادنى مستوياتها وفقا لمؤشر منظمة الشفافية العالمية، فقد انبرت رئيسة افريقية اخرى لتنافس الرئيس ماخيكا في ميدان النزاهة ومحاربة الفساد والانتصار للفقراء والجياع والمشردين والمسحوقين، تلك هي (جويس باندا) رئيسة مالاوي، وهي تجسد عمليا درسا من دروس الوفاء الفعلي للقَسَم الرئاسي.
فما ان استلمت رئاسة البلاد وفي ضوء تلمسها لحالات الفقر والجوع والمعاناة المعاشية لقطاعات واسعة من شعبها حتى بادرت لبيع الطائرة الرئاسية التي سبق لسلفها الرئيس (بينجو وان موثاريكا) ان اشتراها لتنقلاته الرئاسية بمبلغ خمسة عشر مليون دولار، لشراء مواد غذائية أساسية بهدف توفير الطعام لأكثر من مليون مواطن في بلدها يعانون من نقص مزمن في الغذاء، كما تنوي ايضا بيع (35) سيارة مارسيدس تعود للحكومة لتوفير الاحتياجات الاساسية لشعبها.
تأتي صور ووثائق هذه النزاهة والعفة الوطنية المتفردة في الوقت الذي يتسابق فيه بعض المسؤولين في الدول المنتحبة والمستلبة والمنتهكة والمستهلكة بالجري الى امام ضمن مسابقة هدر المال العام، فعلى سبيل المثال، بلغت تكاليف ترميم دار او مقر او مكتب هذا المسؤول او ذاك في بعض الدول اللفطية (عفـــــوا) النفطية ملايين الدولارات في الوقت الذي تتضور فيه الملايين من الفقراء والمعدمين جوعا، و(مبــــادرة) مكتب مسؤول رفيع في دولة اخرى بمفاتحة بعثته الدبلوماسية في دولة صديقة كان ينوي المسؤول المعني زيارتها ربما ليوم او يومين، أو لساعة او لساعتين (بالزامية وضرورة وسرعة وفورية ) بناء دورة مياه شرقية قبل زيارة ذلك المسؤول ليستخدمها (سيادته او سعادته او دولته) خلال زيارته الميمونة احتراما للتقاليد الشرقية ومراعاة للقيم الشرعية دون النظر لكلفة دورة مياه قد لا يستخدمحها (فخامته او سيادته او دولته) الا مرة واحدة، وقد لا يستخدمها ابدا بسبب اصابته ربما بحالة (امساك) بسبب شدة اشتياقه وحنينه للوطن, ودون اي اعتبار للهدر والفساد وحجم المناقصة والعقود وربما الحصص والمغانم والاختلاسات التي ربما ترافق هذا المشروع (الستراتيجي) النوعي المبدئي الضخم الذي سيهز الاوضاع الدولية بعنف ويغير اتجاهات الاحداث وربما يكون القاعدة الصلبة لعملية السلام ليس في الشرق الاوسط حسب وانما في العالم اجمع ’ والسؤال الاهم ماذا لو تطلبت مهام سيادته او سعادته او دولته زيارة عشرة او عشرين دولة خلال سنة واحدة بهدف تعزيز العلاقات الثنائية ’ وكم ستكلف ميزانية الدولة مناقصات عملية بناء هذا الكم من دورات المياه الشرقية ؟؟؟ بل ربما يحفز ذلك العلماء والمخترعين والمبتكرين لاختراع دورة مياه شرقية متنقلة واطئة الكلفة وسهلة الحمل ’ بل ربما يخترعون أيضا نموذجا (متطورا) يستخدم لمرة واحدة ضمانا لعدم الاصابة بالامراض المعدية والسارية كالايدز مثلا.
الى ذلك لو ان برلمانيينا الافاضل الذين اكدوا ويؤكدون وسيبقون يؤكدون (في خطبهم وتصريحاتهم وبياناتهم الحماسية الملتهبة) عمق محبتهم وتفانيهم وحرصهم وامانتهم ونزاهتهم واستعدادهم للتضحية بالغالي والنفيس وبارواحهم ودمائهم من اجل توفير الحياة الحرة الكريمة لشعبهم الذي ما جاؤوا الى البرلمان الا من اجل تمثيله بنبل وشجاعة، والدفاع عن مصالحه بأمانة واخلاص ، لو انهم جسدوا (جـــــــــزءا) من هذه الشعارات عمليا على الارض وبادروا هم ومائتان آخرون من السادة الوزراء الافاضل وذوي الدرجات الخاصة والرواتب الخاصة التي تتجاوز العشرة آلاف دولار التبرع بخمسة آلاف دولار شهريا على سبيل المثال، لصالح الفقراء والمعدمين والارامل واليتامى والمتسولين واطفال الشوارع والمشردين كما فعل الرئيس (خوسيه موخيكا) الذي تبرع بــ 90% من راتبه، لكان بامكان دولتنا (الفقيـــــــرة) ان توفر سنويا مبلغا قدره (31,500,000) واحد وثلاثون مليونا وخمسمائة الف دولار، وهذا المبلغ وحده يكفي لبناء (630) ستمائة وثلاثون وحدة سكنية تعاونية منخفضة الكلفة للفقراء، بكلفة خمسين الف دولار للدار الواحدة، وتوفير السكن اللائق لستمئة وثلاثين عائلة من سكنة اكواخ الطين والصفيح.
ومن يدري ربما يبادر بعض النواب والمسؤولين وذوي الدرجات الخاصة بتجاوز افتراضاتنا (الخياليــــة) هذه والاقتداء بالرئيس موخيكا والتبرع بــ90% من رواتبهم، رغم ايماني بان (بيئتنـــــا التقدميـــــة) ما عادت تصلح لولادة نماذج (متخلفــــة جـــــدا) امثال رئيس الاورغواي، فضلا عن ان موسم (طيــــران الفيلــــــــة) قد انتهى منذ زمن بعيد.