حرب النفط الباردة ... من الخاسر ومن الرابح؟
كتب حسن غندور في سلاب نيوز ..
لعلّ الحدث الأبرز الذي وسم العامين الماضي والحالي بشكلٍ صادمٍ بعد داعش تمثل في انخفاض أسعار النفط والغاز. حدثٌ قلب الموازين الاقتصادية العالمية وأسس لنوعٍ جديدٍ من الحروب الباردة وحروب الطاقة، حيث تحوّلت نعمة الطاقة الى نقمة على البلدان التي تنتجها وتصدّرها، في ظل إرباكٍ في المشهد السياسي الاقتصادي، وفي التحليل وسبر غور هذا النوع من الصراع الجديد، والكل يسأل: من الخاسر في هذه المعركة ومن الرابح، والى متى ستستمر هذه اللعبة الخطرة؟
في الأرقام، المملكة العربية السعودية والتي تعد أكبر مصدر للنفط في العالم (أكبر مصدّر لا يعني أنها أكبر منتج، لأنّ أميركا تفوقت عليها بالإنتاج في الأشهر الماضية)، تخسر يومياً ما قيمته 350 مليون دولار أمريكي أي ما مجموعه 120 مليار دولار سنوياً وبالتالي هي أكبر الخاسرين، تليها روسيا التي ستخسر سنوياً من جراء هذا الانخفاض حوالي 100 مليار دولار، يضاف اليها 40 مليار دولار خسائر ناتجة عن انخفاض سعر الروبل والعقوبات الاقتصادية وتهريب رؤوس الاموال، ثم تأتي الجمهورية الإيرانية في المرتبة الثالثة، فالنفط يشكل 60% من عائدات صادرتها ويؤمن لها 80% من العملة الصعبة التي تمكنها من شراء كل مستورداتها الخارجية، وقد فعلت طهران خيراً بأن سارعت في احتساب سعر برميل النفط على مستوى الـ40 دولاراً في موازنتها لتفادي الفارق بين موازناتها القادمة ومدخولاتها من الذهب الأسود، أما الخاسر الرابع فهو فنزويلا، فمقابل هبوط كل برميل نفط بمعدل دولار واحد، تخسر فنزويلا ما قيمته 750 مليون دولار كل عام، يأتي بعدها الجزائر ونيجيريا وباقي دول الخليج بنسب متقاربة.
أما نادي الرابحين، فتتربع على عرشه الصين حيث يوفر انخفاض سعر النفط فائضًا ماليًا قيمته 100 مليار دولار، مما عزّز في الأشهر الستة الماضية فقط نمو الاقتصاد الصيني من 7% الى 9%، وتأتي الولايات المتحدة الامريكية في المرتبة الثانية حيث سيوفر انخفاض السعر ما قيمته 75 مليار دولار يستفيد منها مباشرةً الشعب الأمريكي وليس الحكومة فقط (سأشرح الأسباب تباعاً)، وذلك بتوفير فرق سعر النفط لتعزيز سلة الاستهلاك بما نسبته 1% من القيمة الاستهلاكية الأمريكية، ثم تأتي في المرتبة الثالثة الدول الأوروبية، فالاتحاد الأوروبي يستورد 90% من حاجاته النفطية من الخارج، وانخفاض السعر لاقى استحساناً لدى الحكومات الاوروبية والشركات الصناعية على السواء، مما يحققه من توفير يعزز القدرة التنافسية في الأسعار ويخفف من فاتورة الطاقة في القارة الباردة.
في السياسة، المملكة العربية السعودية أشبه "ببالع موس الحلاقة"، الرياض التي تستشعر خطراً كيانياً ووجودياً ناتجاً عن صراع دولي وإقليمي يدور على جنباتها والذي يرسم خرائط اقليمية ودولية جديدة تُذوّب نفوذها ومكانتها يوماً بعد يوم، لم تجد سبيلاً الى مواجهته سوى الانسياق وراء المشروع الامريكي، حليفها الاول والدائم ما دام هناك نبضٌ في شرايين أبناء آل سعود، لذا هي تسير قدماً في عملية انتحارية لا تحمد عقباها ولا تملك فيها خياراً آخر، فمنذ اللقاء الشهير بين روزفلت والملك عبد العزيز على سفينة كوينسي وضع الفريقان رباطاً وثيقاً مبنياً على أساس حماية الامريكيين لحكم آل سعود مقابل تسخير المملكة وخيراتها وسياستها للعم سام الى يوم الدين، ولكن المشكلة أنّ احتياط المملكة من العملة المخزنة والمقدر بـ700 مليار دولار لن يكفيها أكثر من 5.7 سنوات اذا استمرت في هذه السياسة الانتحارية، وقد سحبت الشهر الماضي فقط 13 مليار دولار، كل هذا عدا احتساب فاتورة الحرب "الائتلافية" على داعش والتي يقدر الخبراء أنّ متوجبات المملكة في هذه الحرب ستفوق الـ200 مليار دولار وسيكون المستفيد الأول منها الولايات المتحدة الامريكية كما حصل في حرب الخليج الاولى وحرب الخليج الثانية. وهنا يمكننا القول وبكل ثقة إنّ واشنطن والغرب لا يهدفون الى إضعاف إيران وروسيا فقط من لعبة النفط هذه، بل يهدفون أيضاً الى إضعاف دول الخليج وعلى رأسهم المملكة العربية ضمن سياق مشروع ضرب المنطقة بأكملها وتوهينها خدمةً للإسرائيلي في آخر المطاف.
بالنسبة الى روسيا، لا شك أنّ عنوان الصراع أشمل وأكبر، فروسيا لطالما حلمت وتحلم بسيادة العالم ولطالما جربت أن تثب وثبات عملاقة بهذا الاتجاه في العصرين القديم والحالي، لذلك فإنّ مفهوم الصراع مختلف معها، والنفط أحد أوجه هذا الصراع وليس كله، إلّا أنّ الروس قادرون على التكيف أكثر وهضم الأزمة، فالشعب الروسي معتاد على التقشف التاريخي والحكومة الروسية قامت وتقوم بخطوات جبارة في سبيل التخفيف من تداعيات المواجهة الاقتصادية بمزيد من التشابك المالي والاقتصادي بينها وبين الصين وباقي دول العالم مما خفف من حدة التأثيرات السلبية لهذا الانخفاض، فلو اعتبرنا كما ورد آنفاً أنّ الروس سيخسرون 100 مليار سنويًا بسبب هذا الانخفاض، فإنّ صفقة واحدة أبرمها بوتين مع الصين بقيمة 400 مليار دولار ممكن أن تعوّض خسائر أربع سنوات. ولعلّ انخفاض سعر العملة سيف ذو حدين، حيث أنه يعزز القدرة الصناعية التنافسية أكثر بينها وبين أوروبا المثقلة بسعر اليورو العالي والذي أجبر سويسرا الشهر الماضي على فك ارتباطها به وتحررها لنفس تلك الأسباب، وهناك توجه للشركات الاوروبية وشركات الصناعات الثقيلة وخصوصًا الألمانية منها (لقربها من روسيا) الى فتح مصانع لها في روسيا وتعزيز الاستثمارات فيها.
أما بالنسبة الى إيران، فإنّ سياسة "اقتصاد الحرب" التي تتبعها طهران منذ أكثر من ثلاثين عاماً مكنتها من التقدم والتطور بكافة المجالات بالرغم من الحصار الدولي والعقوبات، مما يعني أنّ طهران قادرة على التحمل أكثر في لعبة عض الأصابع بينها وبين الرياض.
أمريكياً، استفادت الشركات الانتاجية والطبقات الشعبية المستهلكة من انخفاض سعر النفط وانسحاب هذا الانخفاض على المواد الأولية كافة، أما بالنسبة للحكومة الامريكية، فأمريكا تحتاج الى 21 مليون برميل من النفط يومياً وهي تنتج الآن نصف هذه الكمية بواقع 11,250 مليون برميل، مما يجعلها المنتج الأول للنفط عالمياً، بالتالي هي حققت توازناً ما بين أرباحها الناتجة من تخفيض ما تستورد من النفط مقابل خسائرها بما تنتجه في الداخل الأمريكي مع الحفاظ على سياسة تطوير الصناعة النفطية وتحضير البنية التحتية لها، والمتقدمة جداً، في إطار سياساتها الرامية للوصول الى إنتاج 21 مليون برميل مع بداية العام 2019، لذلك، فالحديث عن أنّ أميركا تخسر الآن باستخراج النفط الصخري المكلف هو غير دقيق إذا ما قورن بالمكاسب المحققة من الاستيراد، عدا عن المكاسب السياسية التي تطمح لها من خلال هذه المغامرة.
في المحصلة الأخيرة، يمكننا القول إنّ العالم الاقتصادي يتوجّه شيئًا فشيئًا من سياسة الاحتكار الى سياسة إغراق الأسواق كمخرجٍ وحيدٍ لتأمين الواردات، مما يعني أنّ هناك خريطة اقتصادية جديدة بدأت تتشكل، نواتها الانتاج، وثمارها التنافس السعري الذي، وإن أضرّ ببعض الحكومات واستفادت منه أخرى، إلّا أنه يبقى المستفيد الأكبر من هذا الجنون، مستهلكٌ يدعو الله كل يوم أن تستمر هذه اللعبة ولا تتوقف.