بين احتراق البوعزيزي وحرق الكساسبة أوطان تحترق



في كانون الأول الماضي، نفى الأزهر فتوى منسوبة إليه تقضي بتكفير «داعش». يومها كان التنظيم الإرهابي -ولا يزال- موغلاً في جرائمه بحق السوريين والعراقيين، لم يسلم منه البشر ولا الحجر، إلى أن وصل إجرامه منذ أسبوعين إلى مكتبة الموصل التي أمسى تراثها ومقتنياتها من كتب ومخطوطات رماداً. الأزهر سوغ رفضه تكفير داعش حينها بالقول: «لا تكفير لمؤمن مهما بلغت ذنوبه».
قُتل الطيار الأردني «معاذ الكساسبة» بطريقة -لن نخوض حُكماً في وحشيتها- لكننا ببساطة سنقول إنها لا تقل وحشية عن الطريقة التي ارتكب فيها التنظيم جرائمه في العراق وسورية، يومَ صمت الجميع.. ولا يزال.
هذه المرة استنكر الأزهر، بل إنه ذهب أبعد من ذلك عندما تحدث عن ضرورة معاقبة إرهابيي التنظيم بـ«القتل والصلب وتقطيع أيديهم وأرجلهم»، أي إنها من الناحية الفقهية عقوبة «من جنس العمل»، تماماً كما اعتبر تنظيم داعش أن عقوبة الحرق هي «من جنس العمل».
لكن ما يكمِّل المشهد، هو إدانة «آل سعود» للجريمة، وكأنّ الوهابية لا تُلهم داعش بفكر تقطيع الرؤوس ونبش الأضرحة وتكسيرها، والأهم أن جامعات المملكة ذاتها تعج بدراسات عن «التّحريق بالنار» وأسسها الفقهية.
من هنا تبدأ مشكلة هذه الأمة، من هذا الضياع التاريخي، والذي لا يبدو أنها ستنجو منه حتى بأقل الخسائر، تحديداً أن ما دفع حتى الآن من أثمان يبدو باهظاً، فكيف ونحن نعد العدة لما ينتظرنا في قادمات الأيام؟
لا نستطيع كسوريين أن ننسى كيف كان يتم الرد الإعلامي بعد كل جريمة ترتكبها التنظيمات الإرهابية في سورية، تحديداً الترويج لفكرة أن كل ما يجري هو «مسرحية من النظام»، وما زال المواطن العربي المغسول دماغياً يصدق كل هذه الأكاذيب، لكنّه يرفض اعتبار فيلم مقتل الكساسبة فيلماً هوليوودياً قد يجد طريقه ولو متأخراً لترشيحات الأوسكار. ليس صحيحاً أن التشكيك بصحة الفيديو هو نوع من الإساءة للضحية، ولا حتى تبرئة للمجرم، بل إن هذا الكلام مرتبط بتشكيكنا أساساً بطريقة سقوط الطائرة والضياع في تقديم روايات رسمية وأميركية منطقية تسوغ تقديم الضحية لجلادها. هذا الأمر دفع والد الكساسبة بحديثه العفوي لاختصار كل شئ بالقول: «معاذ أُرسلَ ليُقتل».
كذلك الأمر أن الحديث عن الأسلوب الهوليوودي في إنتاج الشريط مرتبط بما تحدثنا عنها يوماً، وهي ازدواجية «صناعة الوهم» و«صناعة الغباء». إن كانت صناعة الوهم تمثلت بـ«قوة داعش»، فنحن أمام الجيل الجديد المتمثل بـ«استعراض القوة» عبر حديث النظام الأردني عن «الردود المزلزلة». أما «صناعة الغباء» التي مارستها الأنظمة على الشعوب لتصل بها إلى هذه المرحلة من التخدير، فنحن الآن أمام الجيل الجديد وهو «صناعة الغباء» التي تمارسها الولايات المتحدة و«إسرائيل» على أتباعهما في المنطقة، بانتقائية الحرب على الإرهاب تارةً، وادعاء انتصارات وهمية على داعش تارة أخرى. فكيف يتم ذلك؟
بثت الحملة الانتخابية لـ«حزب ليكود»، فيلماً ترويجياً استعداداً للانتخابات القادمة تُظهر فيه بنيامين نتنياهو وهو يلعب دور «مربي أطفال». نعلم حقيقةً ما ستكون عليه تركيبة الأطفال الذين سيتربون على يديّ نتنياهو، تماماً كما ندرك طبيعة «أطفال السياسة» من تلك الزعامات العربية الذين تربوا على يديه لدرجة باتوا فيها يشاركونه التوجهات ذاتها، فوصلوا معها إلى نقطة لم يقتنعوا فيها أن الإرهاب ليس مشكلةً آنيةً تقتضي التخلص منها، بقدر ما هو سلاح بيد العدو، وهذا السلاح يتحول تدريجياً إلى ورقة ضغط.
«مملكة آل سعود» وصل بها التماهي بالأهداف مع نتنياهو حتى قررت الثأر من كل صاروخ كاتيوشا سقط يوماً على الأراضي الفلسطينية المحتلة وأزعج الكيان الصهيوني، وذلك بأن يسقط الآن مقابله عشرات الكاتيوشا فوق دمشق، عبر ذراعهم الإرهابية «جيش الإسلام». لكنّ هذا لا يكفي أبداً فالمطلوب أكثر من ذلك، ومن لا يصدق فلينظر لتوقيت إعادة تعويم تصريحات الإرهابي «زكريا الموسوي» المُتهم بالتخطيط لاعتداءات أيلول قبل أمس، واتهامه أمراء «آل سعود» بتمويل هذا الاعتداء وتمويل تنظيم القاعدة منذ عام 1990عبر «تركي الفيصل آل سعود» رئيس المخابرات السابق.
أما ملك شرقي نهر الأردن، فقدم لنا استعراض قوة غير مسبوق بادعاء الخروج بالحرب على الإرهاب. خرج على طريقة «الزير» طالباً الثأر من رأس «جساس»، على حين «جساسو» جبهة النصرة الذين يؤويهم ويؤمن لهم ملاذاً وممرات عبور لا يبعدون عن حدوده أكثر من مدى المدفعية. عن أي ثأر يتحدث هذا الملك ومناطق في الأردن كـ«معان» خرجت فيها تظاهرات علنية تبايع «داعش»؟ عن أي هزيمة سيلحقها بالتنظيم وهو يعتاش على المساعدات من جهة وعلى مصائب الآخرين من جهة أخرى؟
أمّا على الجبهة المصرية، ومع تصاعد الحديث عن ارتفاع التنسيق الأمني لدرجات غير مسبوقة بين الجيشين (المصري والإسرائيلي) في سيناء، فإن الثمن سيكون في أماكن أخرى لا ينفع معها «العنتريات» بالتهديد بالتدخل العسكري في اليمن، على حين مناطق بكاملها في سيناء باتت ملعباً لداعش تفعل فيها ما تشاء مهما أصرّ الإعلام المصري على استخدام مصطلح «حراس بيت المقدس» لإبعاد شبح داعش، علماً أن هذه الجماعة بايعت داعش.
الجميع الآن يدَّعي أنه يحارب داعش، لكنهم يكذبون حتى بمجرد الادعاء أنهم يحاربون الإرهاب، لأن محاربة داعش يجب أن تنطلق من تساؤلات أساسية:
كيف قتلت داعش كل هؤلاء الأبرياء، لكنها ببساطة أفرجت عن عشرات الدبلوماسيين الأتراك الذين احتجزتهم دون أن تمس منهم شعرة؟
كيف تدّعي أميركا -حليفة الأردن ومصدر رزقها- محاربة داعش عبر قصف مقارها في الرقة، على حين أعربت عن إدانتها للضربة الموفقة للطيران السوري التي أسقطت أكثر من مئة إرهابي دفعةً واحدة منذ شهرين؟
لو أن كل أردني شريف يقرأ هذه المقاربة فقط، لوصل إليه الجواب بأن الانغماس بوهم إسقاط سورية هو من قتل معاذ، وهو الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحريق الذي لن ينطفئ في مكان حتى يشتعل في آخر، ولكفَّ عن إلقاء التهم جزافاً بأن هناك من يشمت بمصيره. عذراً لا وقت لدينا للشماتة، لكن في الوقت ذاته لا وقت لدينا للحداد ونحن في قلب المعركة؛ نقدم الشهيد تلو الشهيد، فلا يمكن لكل الإجرام الذي حصل أن يضيف إلينا شيئاً، لأن ما ترونه الآن أغْفَلتم عيونكم عنه عندما كان يلتهمنا.
صدّقتم تلك الحكومات العميلة التي غذت –وتغذي- الإرهاب في سورية وتدّعي الآن أنها ستثأر لـ«معاذ» بالحرب على الإرهاب. تلك الطغم سرقت يوماً حتى أحزاننا، ويبدو أنها عبر ادعاء تحقيقها إصابات محققة على مقار داعش، تريد أن تسرق منا الآن فرحة الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري والقوات الرديفة له من أبطال العشائر في ريفي الحسكة ودير الزور، وها هو «الوهم الداعشي» يسقط تحت أقدامهم «على الأرض»، ووجهاً لوجه والقادم يبشر بالكثير، هل تساءلتم لماذا يتجاهل إعلامكم الحديث عن هذه الانتصارات؟
بالنهاية لا بد من انتصار إرادة الدم، أمّا من لعب لعبةً لا تتوافق مع حجمه وتناسى أنه في الداخل أوهن من القيام بمثل تلك المغامرات، فليعلم أن النار لن ينجو منها أحد إلا ما رحم ربي، وإنْ كان مستثقفو الشاشات يكررون عبارة ما قبل «البوعزيزي» ليس كما بعده فإننا نقول لهم الآن: ما قبل إشعال النار في سورية ليس كما بعده، ألم يقل لكم «علي عبد اللـه الصالح» يوماً: إن حكم اليمن كمن يجلس على صندوق الثعابين؟
ها قد بدأت «الثعابين» التي تخافونها تطل برأسها مِنَ اليمن...


المصدر