مقالتنا اليوم عن ملك القصة القصيرة العربية بحق ...هل قرأتم له ؟
انه يوسف ادريس ..ذو القلم الرشيق الساحر ...
يوسف إدريس الذي لقب بأمير القصة القصيرة المصرية ، وكان يجمع بين رؤية الأديب والصحفي والمفكر وذو معرفة عميقة لواقع المجتمع المصري ، يسلط عليه قلمه بالنقد والسخرية الأدبية ، قدم للمكتبة العربية أعمالا شهيرة لا تزال تتمتع بمقروئية عالية ومنها قصص "أرخص ليالي" ، "قاع المدينة" ، "بيت من لحم" ، و"جمهورية فرحات" ، وروايات منها "العيب" ،"الحرام" ، إلى جانب مسرحيات منها "ملك القطن" و"المخططين".
من مواليد 19 مايو 1927م في البيروم الشرقية.
قدم للأدب العربى عشرين مجموعة قصصية وخمس روايات وعشر مسرحيات. ترجمت أعماله إلى 24 لغة عالمية منها 65 قصة ترجمت إلى الروسية. كتب عدة مقالات هامة في الثمانينيات بجريدة الاهرام صدرت في كتاب فقر الفكر وفكر القصة.
حصل على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1966م والتشجيعية عام 1991م، يقول دنيس جونسون ديفز إن أسمه كان ضمن أسماء المرشحين المحتملين لنيل جائزة نوبل للأداب عام 1988م والتي حظي بها الأديب نجيب محفوظ . كما أنه واحد من أشهر الأطباء الذين تركوا الطب ليمتهنوا الأدب. كان يتلمس الالغام الاجتماعية المحرمة ويتعمد تفجيرها بقلمه وظل يتمتع بحيوية الرفض لكل ما يحد من حرية الانسان في كل ما يكتب.
جدير بالذكر انّ الاقصوصة في العالم العربي قبل سنوات الخمسين كانت ما تزال في مراحلها وخطواتها الأولى ، ثمّ جاء يوسف إدريس ورسّخها وثبّت أقدامها ونقلها من المحليّة إلى العالميّة. إختار يوسف إدريس مواضيع مسحوبة من حياة الإنسان العربي المهمّش. إدريس خلق أقصوصة عربيّة، بلغة عربيّة مصرية قريبة من لغة الإنسان العادي وبذلك نقلها من برجها العاجي إلى لغة التخاطب اليومي.
وقد شهد نهج يوسف إدريس في كتابة الفصّة القصيرة تغيّرًا جذريًا، في نهاية الخمسينيات وااوائل الستينيات. فالتصوير الواقعي، البسيط، للحياة كما هي في الطبقات الدنيا من المجتمع الريفي، وفي حواري القاهرة، يتلاشى، ويظهر نمط للقصّة أكثر تعقيدًا. وتدريجيًا، أصبحت المواقف ولاشخصيات أكثر عموميّة وشموليّة، إلى أن قارب نثره تجريد الشعر المطلق . ويشيع جو من التشاؤم، وينغمس أبطال القصص في الاستبطان والاحتدام، ويحل التمثيل الرمزي للموضوعات الأخلاقية والسياسية محل الوصف الخارجي والفعل المتلاحق.
واخيرا اترككم مع قصة قصيرة بقلمه بعنوان (نظرة)
كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر صينية بطاطس بالفرن وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة وكان الحوض قد انزلق برغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتى أصبح ما تحمله مهددًا بالسقوط. ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلاً كثيرة، وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من الصاج وتعود فتميل الصينية، ثم اضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرًا في وضع تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسًا وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير، لم تلتقط أذني منه إلا كلمة ستي.ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي يـُنظف بها الفرن أو حتى من رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها وهي تخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتى امتصتنني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة، وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.استأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي، شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال. أما هي فكانت واقفة على ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون ولم تلحظني ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف ، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة.
لكم التحية .