وكان جعفر بن قرط عمَّر ثلاثمئة عام، وكان أنجد فارس في زمانه، وكان في ثورة من قومه أسد بن هزان، وكان قومه هزان لهم أرض جو وهي اليمامة، وكان هزان أطول الناس أجساماً وأعناقاً وكانوا يعرفون في العرب حيث ساروا، فسارت بلقيس حتى نزلت على جعفر بن قرط وهو في حصنه العالي على نهر الحفيف من أرض الأحقاف، ونهر الحفيف هو الذي أظهر النبي هود لعاد بن لاوذ بن ارم الآية الباهرة حين هلكت عاد بالريح العقيم فآخر من بقي من هزان باليمامة كان بقي من طسم وجديس وراتش بن لاوذ بن أرم، وهلك طسم وجديس وبقي سعدانة بن هزان بعدهم وبعد قومه هزان باليمامة وكان أطول الناس جسماً وعمراً فأقعد من الكبر وهو الذي هجم عليه عبيد بن عبد العزى الربعي إلى اليمامة فأصابه جالساً وهو يأكل تمراً من نخلة سحوق..".
سعى ابن وهب الكاتب لتدوين ما يمكن أن يحفظ التاريخ ابتداءً منذ خلق الكون وانتهاءً بآخر ملوك حمير الذي أطلق اسم كتابه عليهم (كتاب التيجان في ملوك حمير)، لكنه في الوقت نفسه لم يخرج من منظومة اللغة ولا من التخييل الذي يفترض ألا يكون ضمن سرد تاريخي لتدوين أحداث زمن ما. غير أن ابن وهب كان مثالاً ناصعاً لكيفية كتابة التاريخ العربي من جهة، وكاشفاً للبلاغات التي تذهب بالتاريخ بعيداً عمَّا هو كائن من جهة أخرى.
رأي الجاحظ
من قراءة بسيطة لكتاب ابن وهب وغيره من كتب التاريخ العربي، يلاحظ أننا نعيش داخل أنظمة لغوية تعمل ببنى لم تتغير منذ أن بدأت اللغة العربية بالتشكل وحتى الآن. وبعيداً عن رأي الجاحظ الذي يرى أن بداية لغتنا كانت قبل الإسلام بنحو مئتي سنة، فإن هذه اللغة لم تتغير إلى في هامشها وليس في متونها. فالاستعارات التي اشتغل عليها ابن وهب في النص السابق ما زالت تعيش حتى اليوم، ومن خلال هذه النظرة، وجد نورثروب فراي في بحثه عن المدونات الكبرى، أن المجتمعات القديمة كانت تفكر داخل نظام لغوي يقوم على الاستعارة، التي ما زالت العنصر التكويني الأساس في لغة الأدب والشعر، وفي هذه اللغة الاستعارية لا توجد مسافة تفصل بين الكلمة والشيء أو الموضوع الخارجي الذي تدل عليه، بل تلتحم فيها الذات بالموضوع، والدال بالمدلول، واللفظة بالشيء، تلاحماً سحرياً يغذيه مبدأ الكلمة، وسحر المفردة.
شواهد كثيرة
وربما من يقرأ الدراسات التي بحثت الاستعارة في القرآن الكريم يجد شواهد كثيرة على التصاق الدال بالمدلول، فعمر نوح (ع) تجاوز التسعمئة وخمسين سنة، حسب النص المقدس، كان من الأعمار الطويلة التي ذكرها القرآن، في الوقت الذي لم ينم فيه أهل الكهف إلا ثلاثمئة وتسع سنوات فقط، إلا أن باحث مثل كمال الصليبي يؤكد هذا الكلام ولا يشكك به إلا من باب الاستعارة أيضاً، فيرى أن هذا عمر قبيلة نوح التي بنت السفينة، فالقرآن كان صادقاً في كلامه، لكننا لم نفهم قوله بالشكل الصحيح.
وما دام مؤرخونا عاشوا حياة ملؤها التخييل والبنى الاستعارية، فمن حق أحفادهم أن يعيشوا هذه البنى، لكن بصيغ مغايرة. فالحقائق التي تدوَّن الآن ربما لا تكون حقيقية بالكامل، بل تدخل ضمن بنية اللغة التي نعيشها، استعارية في أغلبها، حتى كأننا نعيش في واقع استعاري
أيضاً، يستعير الجحيم منه صوراً يمكن أن تقاس فيما بعد. تماماً مثلما قالت وسائل الإعلام العربية والأجنبية (دمرت قوات التحالف مدينة بغداد بالكامل إضافة إلى مدن أخرى)، وكأن أكثر من ثمانية ملايين مواطن اختفوا بلحظة واحد، بلغة استعارية جعلت من الدال والمدلول
علامة لغوية واحدة، ومزجت بين الحقيقة والتخييل.