نبراس الكاظمي
جاءنا خبر ليقول بأن الارهابيين استطاعوا ان يفجروا 28 مفخخة في مدينة بغداد يوم الخميس الماضي مما اوقع مئات القتلى والجرحى. وهناك خبر سبقه يفيد بأن محكمة جنيات الرصافة، والمتخصصة بقضايا الفساد، قد افرجت عن اللواء جهاد لعيبي طاهر الجابري، رئيس جهاز مكافحة المتفجرات السابق، والذي اعتقل قبل عام في شهر شباط 2011، وتم تبرأته الاسبوع الماضي لعدم كفاية الادلة.
وكان الجابري متهما بموجب المادة 340، وهي تلك المتعلقة بالضرر بالمال العام، وقضيته تتمحور حول جهاز الكشف عن المتفجرات والمفخخات الذي استورده العراق في عام 2007 وما زال يعمل به.
الخبران، تفجيرات الخميس واطلاق سراح الجابري، متصلان بل مترابطان.
جهاز الـ “آی دي إي 651″ وهذا هو الاسم التقني لما يعرف شعبيا بجهاز “ابو الاريل” المستخدم في السيطرات الامنية العراقية، هو رمز الفساد في العراق، ويختزل في كيانه كل جوانب الفشل الحكومي. ففيه يلتقي الجهل مع الفساد وتمكين الارهاب.
والانكى من ذلك كله، هو استمرار السلطات باستخدامه الى يومنا هذا، وكأن شيئا لم يكن.
اللواء الجابري والتاجر العراقي فاضل الدباس، مستورد الجهاز
الجهاز جماد لا روح فيه، لا الكترونيا ولا معنويا. فهو عبارة عن “اريل” و”واير” وعلبة بلاستيكية فارغة وفيشة بدائية لا تحتوي على اي ذاكرة مخزونة.
هو دمية بلاستيكية عديمة الجدوى. وهو غير قادر، بأي شكل علمي او تقني، عن كشف اي شيء. فلا يكشف عن المتفجرات ولا البلاتين ولا حشوات اسنان ولا المناديل المعطرة ولا مسحوق الغسيل. الاريل يتحرك ويؤشر بفعل نفسي لدى من يحمل الجهاز. اذ ان اقل حركة، لا شعورية، في معصم من يحمله سيجعل الاريل يتحرك. واذا اشّر الاريل، وتم تفتيش المركبة وتبين انها خالية من المتفجرات او السلاح، يتعذر الشرطي او الجندي بالبلاتين او بالكلينكس والعطر. ولكن الجهاز، حسب ما اثبت علميا، لا يستطيع ان يكشف عن اي واحدة من هذه الاشياء، لأنه جماد. وبالتالي تلعب الصدفة دورها، فلا يخلو فك عراقي من حشوة، او دشبول من علبة محارم، وبهذه الصورة يتم تبرير عمل الجهاز ونجاعته.
والشعب يريد ان يصدق بهذه التبريرات. لماذا؟ لأن العراقيين لا يريدوا ان يتصورا بأن اولياء الامر في الحكومة قد يمتازون بهذه الدرجة من الغباء او الفساد او اللا مبالاة في احدى اهم الامور بالنسبة للمواطن العراقي، فهذه مسألة حياة او موت. فإذا كان الجهاز يكشف عن البلاتين، فهذه اشارة بأنه يعمل على اقل تقدير، واذا كشف البلاتين، فلربما يستطيع ان يكشف عن المتفجرات كما تدعي الحكومة. هكذا يفكر العراقي ولا تلوموه على ذلك، فهو يحتاج ان يصدق بهذه الترهات لأن هذا الامر يطمئن العراقي ويخفف بعض الشيء من فزعه المزمن. اما اذا اكتشف بأن حكومته تكذب عليه، وبالتالي تعرض حياته وحياة ابناءه الى الخطر، فقد يفقد توازنه.
اذن، اصبحت المسألة نفسية: هذا الجهاز يعادل ما يعرف طبياً بـ “البلاسيبو”، اي انه بمثابة حبةّ من مادة السكر تعطى للمريض لتوهمه بأنه يتناول الدواء الذي سيشفيه. اي انه ضرب من الدجل والشعوذة يهدف الى اضفاء جو من الطمأنينة الزائفة بأن كل شيء على ما يرام. بل ان مبدأ عمل الجهاز مشابه لـ “عصا الاستنباء” وهو الاعتقاد الغامض بأن غصن شجرة قد يدليك، لو حملته بطريقة معينة، الى وجود الماء تحت الارض. نعم، دجل وشعوذة.
لا تصدقوني، اليس كذلك؟
اذن، شاهدوا التحقيق الصحفي الذي بثه تلفزيون البي بي سي البريطاني قبل عامين في يوم 22 كانون الثاني يناير 2010، وقد قمت بترجمته الى اللغة العربية في السبتايتل ليتسنى لعدد اكبر من العراقيين متابعته:
ما رأيكم الآن؟ اليس “ابو الاريل” ضرب من الدجل والشعوذة؟
دعونا من مسألة قيام الدولة العراقية بدفع اضعاف سعر الجهاز في حينها، فهذا موضوع متعلق بالفساد المستشري، ويبدو بأن الامر سجل ضد مجهول من بعد الافراج عن اللواء جهاد الجابري. ولكن دعوني افيدكم بمعلومة: هل تعرفون بأن كلفة تصنيع الجهاز بمواصفاته الالكترونية الحالية يبلغ اربع دولارات فقط كلفة الاريل والقالب البلاستيكي والسلك وطبع البطاقة الالكترونية، وذلك حسبما افاد به مصدر موثوق إلي؟ اربع دولارات! اي ان العراق دفع ما يعادل عشرة آلاف ضعف (40,000 دولار) لجهاز من الممكن، بكل سهولة، تصنيعه في سوگ مريدي.
ودعونا من ملابسات عقد الصفقة والتجار البريطانيين والعراقيين الذين يقفون ورائها.
ودعونا من اعلان اللواء قاسم عطا في عام 2010 بأن الحكومة قد شكلت لجنة من الخبراء ومن اساتذة الجامعات لدراسة جدوى الجهاز ورفع تقرير به الى رئيس الحكومة خلال اسابيع حينئذ.
ودعونا من قيام الحكومة البريطانية بحظر تصدير الجهاز من بعد كشف البي بي سي لحقيقته.
ودعونا ايضا من قيام السلطات البريطانية باعتقال السيد جيم مكورميك مصنّع الجهاز واحالته الى التحقيق الجنائي الذي ما زال مستمرا.
دعونا من هذه الامور كلها لأنني فقط اريد ان اعرف لماذا تزاول الحكومة العراقية على استخدام الجهاز من بعد سنتين على تقرير البي بي سي؟
يحاجج البعض ويقول بأن الجهاز قد تم تصديره الى 28 دولة حول العالم. ولكن هل تتعرض اي واحدة من هذه الدول الى ما يشابه حجم الهجمة الارهابية التي تعصف بالعراق منذ سنين؟
هل شهدت احدى هذه الدول خميسا داميا كما حصل الاسبوع الماضي في بغداد؟
هل نحتاج، نحن العراقيين، لرأي الخبراء ولتحليلات المختبرات لندرك بأن هذا الجهاز، بكل بساطة، لا يعمل بالرغم من انتشاره في كل السيطرات؟
هل يتنقل الارهابيون بمفخخاتهم وعبواتهم بالحمام الزاجل، او في انفاق تحت الارض؟
وهل نحن فعلا نحتاج الى الطمأنينة النفسية، الـ “بلاسيبو”، لنقنع انفسنا بأن كل شيء على ما يرام وبأن الدولة تقوم بواجبها والمواطن بخير، في حين شوارعنا تتجمع بها برك الدماء بين اسبوع وآخر؟
قيادات امنية مزمنة، لا تتغير بالرغم من تراكم الفشل
وزارة الداخلية العراقية فيها ثلاثة مناصب عليا من بعد منصب الوزير، وبتبوئها كل من:
السيد عدنان الاسدي، من حزب الدعوة، وهو يتبوأ منصب الوكيل الاقدم لوزير الداخلية منذ عام 2004.
الفريق احمد الخفاجي، من منظمة بدر، وهو يعمل وكيلا لوزير الداخلية لشؤون الامن الاتحادي منذ عام 2004.
السيد عقيل الطريحي، من حزب الدعوة ايضا، وهو يتبوأ منصب المفتش العام لوزارة الداخلية منذ عام 2005.
اعذروني، فأنا لا اصدق بأن اللواء جهاد الجابري قد اقدم بنفسه في عام 2007 على استيراد جهاز “ابو الاريل” من دون علم هؤلاء. ولكن هل من سيحاسبهم؟
هل من سيسائلهم: لماذا انتم مصرين على استخدام الجهاز بعد تراكم الادلة على عدم جدواه وفشله؟
فهذا هو اصرار غير منطقي على الجهل، وعلى الدجل، وعلى الشعوذة. لماذا؟ ايخجل هؤلاء القادة بأن محتالا بريطانيا قد نجح بـ “قشمرتهم” وتمرير شعوذته عليهم، مستغلا جهلهم وغشمتهم؟ العراقي يحب ان يرى نفسه “لوتي” و”مفتّح باللبن” واصعب ما عليه ان تنعته بـ “قشمر”. وها هو اللواء الجابري يصرح في عام 2009 “انا أنا لا أبالي بمختبر سانديا أو برأي وزارة العدل الأميركية أو غيرهما. أنا أعرف عن هذه القضية أكثر مما يعرف الأمريكان. وفي الحقيقة أنا أعلم بالمتفجرات اكثر من أي شخص في العالم. ولا يهمني ان كانت آلية الجهاز علمية أو سحرية. ما يهمني هو انه يكشف المتفجرات.”
فهل هذا الاعتداد بالنفس، وخوف المسؤول من انكشاف الحقيقة، يدفعه الى التزمت والاستمرار بإستخدام هذا الجهاز؟
اتفهم حرجهم وورطتهم، ولكن بأي ثمن نتستر على هفوات المسؤولين، واوصال الناس من عامة الشعب تقطعها المفخخات؟
ومن هو وزير الداخلية وكالةً منذ زمن تشكيلة الحكومة الحالية؟ اليس هو السيد رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي نفسه؟ اليس هو كذلك القائد الاعلى للقوات المسلحة منذ عام 2006؟ ماذا حصل لتلك اللجنة وتقريرها التي اعلن عنهما اللواء قاسم عطا عام 2010؟ الم ترفع اللجنة تقريرها الى المالكي، وهو من امر بتشكيلها، الى حد هذه الساعة؟ الم يصل خبر تقرير البي بي سي اليه من بعد سنتين على بثه؟
وهناك من يقول بأن الحكومة البريطانية قد ارسلت العديد من المخاطبات الدبلوماسية منذ عام 2009 تترجى فيها الحكومة العراقية الكفّ عن استخدام الجهاز لأنه عديم الجدوى ويعرض حياة الناس الى خطر. الم تصل هذه المراسلات الى طاولة المالكي؟
(وزير الداخلية وكالة والقائد الاعلى للقوات المسلحة السيد نوري المالكي يتفقد احدى السيطرات الامنية في بغداد مؤخرا حيث يستخدم جهاز “ابو الاريل”، وهنا يذكرنا المالكي بالمثل الصيني القائل: “انظروا! الامبراطور يتبختر وهو عاري عن الثياب!”)
وبعد هذا كله، ما العمل الآن؟
اتمنى ان تخرج الحكومة العراقية غدا لتقول لنا انها تقر بخطئها وستسحب الجهاز الوهمي من السيطرات كي لا تعرّض المزيد من الارواح الى الخطر، وستضع حلول مبنية على اسس علمية للكشف عن المتفجرات. فواجب الحكومة الآني هو رفع هذا الجهاز من الشارع فورا، وايجاد البديل له.
ولكنني استبعد بأن هذا سيحصل.
ولهذا، ارى ان سبل معالجة الامر تكمن في ثلاث محاور، احدهما قانوني والثاني قضائي بريطاني، والثالث يلوذ بالمرجعيات الدينية:
اولا: بما ان الحق العام قد سقط بتبرئة اللواء جهاد الجابري فيما يخص جهاز الـ آى دي إي 651، عليه تقوم منظمات المجتمع المدني بتحريك دعاوي من منطلق الحق الخاص وبإسم ضحايا المفخخات والعبوات ضد كل من كبار مسؤولي وزارة الداخلية الحاليين والسابقين، واللواء الجابري، والتاجر فاضل جاسم محمد الدباس، على خلفية استيراد هذا الجهاز الذي تبين برأي الخبراء والتقنيين في البلد المصنّع بأنه دمية بلاستيكية عديمة الفعل والجدوى. ولنا ان نحرك دعوى ضد وزير الداخلية وكالة السيد نوري المالكي لأنه استمر على استخدام هذا الجهاز بالرغم من تراكم الادلة على انه مزيّف وفاشل، مما وفّر شعور بالاطمئنان الامني الزائف، وبالتالي ادى الى التخاذل والتقاعس في تأدية احدى اهم واجبات الدولة وهو توفير الامان لمواطنيها. ناهيك عن تعريض حياة المواطن الى الخطر لأن الجهاز لا يكشف عن المتفجرات او اي امر آخر بتاتا حسب التحقيق العلمي والالكتروني، مما يمكّن الارهاب ويساعد الارهابيين على تنفيذ اعمالهم الشنيعة، وكذلك تبديد راحة المواطن ووقته في السيطرات ونقاط التفتيش التي تستخدم هذا الجهاز.
ثانيا: تقوم وزارة الخارجية العراقية بتحريك دعوى ضد شركة آى تي أس سي المصنّعة للجهاز في سبيل استرداد اموال العراق المهدورة عليه.
ثالثا: استفتاء المراجع العظام في النجف، والمرجعيات الدينية الاخرى في البلد، واستصدار فتاوي تحرّم استخدام هذا الجهاز لأنه يعرض حياة العباد للخطر، ولأنه يعتمد على الاحتيال والدجل في أداءه الذي يشابه “عصا الاستنباء”، ويفترض بالشعوذة ان تكون محرمّة حسب المنظور الديني.
وفي الخاتمة، لا يسعني الا ان اقول بأن الاجيال القادمة من العراقيين ستستهزأ بنا، لأن كذبة كبيرة من العيار الثقيل قد انطلت علينا، واستمرينا في تصديقها بالرغم من الدليل المادي والعلمي، بل استمرينا ودأبنا على استخدام جهاز كاذب وليس كاشف، اشتريناه من نصاب دولي، ويعمل بشعوذة “عصا الاستنباء”، وكل ذلك حصل في مطلع القرن الواحد والعشرين، قرن الحداثة والتكنولوجيا والعلم.
ولربما، في عام 3012، اي بعد الف عام، سيعرض هذا الجهاز ضمن موجودات ومقتنيات المتحف الوطني في بغداد، ليتندر به عراقيو المستقبل، وهم لا يعلمون بحجم الآلام والمآسي التي تسبب بها في حاضرنا.
مما قرأت