الرمز والرمزية وتراسل الحواس، مجموعة من المفهومات التي تنحدر من المعنى الأصلي لكلم «رمز». إن كلمة symbolon اليونانية كانت تستعمل للدلالة على أداة مشطورة إلى نصفين، يتقاسمهما شخصان، وتصير رمزاً ذا معنى حين يستطيع حاملاها تجميع جزأيها، أي إن أجزاء الكل تولد فيما بينها علاقة تكامل. في الحديث عن الرمز، تتشارك حاستان، ويمكن لهذه العلاقات أن تنشأ بين الأشياء المختلفة، وبين ما هو مرئي وما هو غير مرئي. إن توافق الحواس هذا هو أحد أهم المفهومات التي تميزت بها المدرسة الرمزية[ر]، وأطلق عليه مفهوم الـ correspondance وترجم إلى العربية بـ «تراسل الحواس» أو «تزامن الحواس» أو «توافق الحواس» أو «التوافق» على نحو مختصر. وترجم حتى بـ «نظرية العلاقات» ودُرس في إطار «التمازج في التفاعل الحسي».
ويقسم هذا التراسل أو التوافق إلى نوعين: التراسل الأفقي correspondance horizontale، أو التزامن بين المدارك التي تنتمي إلى حواس مختلفة كالصوت والرائحة على سبيل المثال. والتراسل العمودي correspondance verticale، وهو العلاقة بين العالم المادي والعالم الروحي. أفضل من تحدث عن تجربة تراسل الحواس، هو الأديب والمؤلف الموسيقي الألماني هوفمان[ر] (1776-1822)E.T.A.Hoffmann، في معرض حديثه عن موسيقى بيتهوفن[ر] Beethoven، إذ قال: «ليس في حالة الحلم، وإنما في تلك التي تسبق النوم، وخاصة حين أكون قد استمعت إلى الكثير من الموسيقى، هذه الحالة التي تشعرني بوجود نوع من التوافق بين الألوان والأصوات والروائح. فيبدو لي أنها جميعها تتراءى بالطريقة الغامضة نفسها في نور الشمس، لكي تنصهر بعد ذلك لتكون معزوفة رائعة. إن لعطر القرنفل الأحمر تأثيراً سحرياً فيَّ، يدفعني رغماً عني إلى حالة من الحلم، فأبدأ حينها بسماع أصوات آلة البوق وكأنها تأتي من البعيد، ثم تتضخم وتتلاشى بعد ذلك». ويحتل مفهوم تراسل الحواس مكانة خاصة في المدرسة الرمزية، وذلك لأن جوهر الشعر الرمزي، يرتكز على فكرة أن المعنى الحقيقي للعالم، يختفي خلف العادات والمظاهر والأفكار الجامدة، وأن الشاعر قادر على تفسير سر العالم. فالشاعر هنا المفسِّر والعرَّاف، وتوقه إلى الحلم وإلى ما وراء الحقيقة هو تعبير عن رغبته في إيجاد نوع من التراسل بين العالم الروحي وبين العالم المادي. ويحتل مفهوم تراسل الحواس مكاناً جوهرياً في فكر بودلير[ر] Baudelaire، فهو حين أراد أن يمتدح الرسام دولاكروا[ر] Delacroix في أثناء «المعرض الكوني» L’Exposition Universelle الذي أقيم عام 1855، وصفه بأنه رسام التوافق الكبير. وأكد فكرة التوافق وشرحها في مقالته التي كتبها عام 1861 عن الشاعر فيكتور هوغو[ر] Victor Hugo، حين قال «كل شيء، الشكل والحركة والرقم واللون والعطر، في المجال الروحي أو المادي، كل منها يحمل معنى خاصاً، يتداعى معه معنى آخر،وما الشاعر إلا المترجم الذي يفك هذه الرموز». وحين كتب عن الموسيقي الألماني فاغنر[ر] Wagner قال «إن ما يحبه فيه هو كونه موسيقي التوافق»، وأن «ما يستدعي الدهشة فعلاً هو أن يوحي الصوت باللون، وألا تعطي الألوان فكرة اللحن، وأن يعجز الصوت واللون عن ترجمة الأفكار، لقد عبرت الأشياء عن نفسها دائماً بوساطة هذا التبادل والتماثل، وذلك منذ أن خلق الله العالم على شكل وحدة معقدة لا تتجزأ». ويرى الناقد الفرنسي المعاصر مارك إيغيلدينجر Marc Eigeldinger في دراسته «أفلاطونية بودلير» Le Platonisme de Baudelaire التي نشرها عام 1952، أن بودلير «يجتهد للتغلب على فوضى الواقع بإعادته إلى الوحدة، وذلك بأن يفرض عليه مثالية إلزامية». وإن سعيه لتوحيد معطيات العالم المحسوس من جهة وإظهار توافقاتها مع معطيات اللامنظور من جهة أخرى، وبواسطة تراسل الحواس يعيد الشاعر اكتشاف وحدة العالم، ويتوصل إلى مزج «الأنا المادي» بالأشياء الخارجية. وهنا تغدو عملية «وصل المرئي بما هو غير مرئي» ممكنة بحسب مبدأ «التوافق العمودي». فالطبيعة في وحدتها ما هي إلا لمحة عن السماء، وتتراءى لنا بحسب قصيدة بودلير، على شكل معبد، مليء بالرموز. هناك إذن تراسل سري بين العالم المادي والروحي، وتوافق بين ما هو مرئي وما هو غير مرئي، وتقع على عاتق الشاعر مهمة اكتشاف تراسل الحواس هذا والبحث عن كل ما هو روحي وسط مظاهر العالم المادي.
ميساء السيوفي