بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
"كل مدّعي المهدوية، والإمامة، وكل من يزيد في الأئمة أو ينقص، هو مبتدع ضال عن المنهاج الذي أسّسه رسول الله (ص) وأكد عليه أهل بيته الأطهار، بخطوات فكرية محكمة".
لم يترك النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) مسألة التحدّيات العقائدية دون أن يضعوا لها أسساً ويعبّدوا لها طريقاً يحقق صحة مسارها ومسار كل معتنق لها، فمنذ اليوم الأول من انطلاقة الدعوة الإسلامية، برز تيار العداوة الذي اعتمد المجابهة المباشرة للدعوة الرسالية، فلما فشل في تحقيق غرضه في هزيمة من يحمل الراية، اعتمد سياسة التحريف، والتحريف هو عداء خفي، يبتغي ليّ المسار للوصول إلى غير الأهداف الإلهية، فكان جهاد النبي (ص) على التنزيل وتأسيس الدين وقيمه، وكان جهاد الإمام علي (ع) ومن بعده من الأئمة على التأويل، أي على الإنطباق الصحيح لقيم السماء في الواقع، وقد أخبر النبي (ص) أميرَ المؤمنين بهذه الحقيقة، "أنا أقاتل على التنزيل وأنت تقاتل على التأويل".
فكان النبي (ص) وأهل بيته واعين لكل ذلك أشد الوعي، وعملوا على تحصين العقول من التشويش والإنحراف، وأسّسوا البناء الفكري الرصين ليحفظ الحق ونور الحق إلى آخر العصور، وهذه من أبرز مهامهم الرسالية عليهم صلوات الله وسلامه.
فمن السياسات التحريفية التي يمكن أن يدخل منها الشيطان وأعوانه، أو يسوّل بها الشيطان لبعض البسطاء أو المصابين بلوثة الفكر أو القلب، هي إدعاء المقامات السامية المحورية في الدين، كي يكون الدين والمسلمين في قبضتهم، يسيّرونه إلى حيث يريدون، وبهذا تتحقق مآرب أعداء الله، سواء بيد عدوٍ مباشر لله، أو بيد من يسيّره الأعداء من حيث لا يشعر.
إحكام منصب الإمامة والمهدوية
وكي لا يتخلّل أحدٌ في هذا الفراغ، ولا ينصّب نفسه من لا نصيب له من شأن الولاية، عمد النبي (ص) وأهل بيته (ع) إلى إحكام هذا المنصب، وصيانته من التحريف، سواء في النقيصة أو الزيادة، فأكد النبي (ص) مراراً وتكراراً على أن الأئمة هم اثنا عشر خليفة من بعده، لا يزيد فيهم أحدٌ ولا ينقص منهم أحدٌ، وتواترت الروايات بهذا المعنى، وتعدّدت بالألفاظ، وروتها الفرق الإسلامية على اختلافها، فقال (ص) (اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، و(لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة)[1]، بل وقرن الإثني عشر باثنيعشرية القرآن الكريم، كي لا يغلب المبطلون، ولا يرتاب المؤمنون في زيادة أو نقيصة، فقال (ص): (خلفاؤكم اثنا عشر، عدّة نقباء بني إسرائيل)، وعدّة الشهور عند الله، وقام بتحديد هويتهم القرشية، والقربتية بل والإسمية، فهم (اثنا عشر من أهل بيتي من عترتي)، ثم حدّد أولهم وآخرهم، فقال (ص): (يا علي أوّلهم أنت وآخرهم قائمهم)، وهكذا حتى ذكرهم بأسمائهم، كل ذلك كي تكون محورية الإمامة آية محكمة لا ينفذ إليها المضلّون ولا يتخللها المشكّكون، فقطع الطريق على كل محاولات التحريف التي حاولت اختطاف منصب الإمامة.
فالروايات الواردة عن النبي (ص) وكذا عن أهل بيته (ع)، التي ذكر منها صاحب كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر[2]، ثلاثمائة وعشرة أحاديث، أسّست عملية الإحكام في الإمامة من خلال عدة تأسيسات، وهي:
1/ أن الأئمة من بعد النبي (ص) اثنا عشر إماماً، عدد لا ينقص واحداً ولا يزيد، وربط هذا الرقم بآيات القرآن الكريم، عدد النقباء، الأسباط، الشهور، وكلها لا تتغيّر ولا تتبدّل، وهي معلومة مشهورة مسطورة في كتاب الله.
2/ حدّد هويتهم العامة، بأنهم من قريش، وكذا حدّد هويتهم الخاصة فإنهم من أهل بيته وعترته.
3/ حدّد صلتهم به، بل وأسماءهم واحداً واحداً.
4/ أكد على أوّلهم وعلى آخرهم، فعلي (ع) هو أولهم، والمهدي هو آخرهم وقائمهم.
5/ حدّد موقعية المهدي وأنه هو الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الغائب المنتظر ولا أحد سواه، وعلى كل الناس أن ينتظروا خروجه هو بعينه، ليلتحقوا بركبه المبارك.
التحديات والغربلة الإيمانية
إن المؤمنين يعلمون بنور بصيرتهم بأن هنالك من سيخرج مدع الإمامة وخصوصاً المهدوية في عصر غيبته، وأن ذلك أحد مواطن الغربلة والامتحان الإيماني، فقد قال الإمام الباقر (ع): (لا يكون فرجنا حتى تغربلوا، ثم تغربلوا، ثم تغربلوا ـ يقولها ثلاثاً ـ حتى يذهب الله الكدر ويبقى الصفو)، فالأصفياء هم الذين يثبتون على ولايتهم المحكمة من الله ونبيه وأهل بيته، فينتظرون الفرج، وهو القائم الخاتم من الأئمة (ع).
فالهداية هي ما قاله النبي (ص) وأهل بيته (ع) والتي عليها هم وأصحابهم المخلصين، وهو طريق الأئمة الاثني عشر، لذلك قال الإمام الصادق (ع): (طوبى لمن تمسّك بأمرنا في غيبة إمامنا، فلم يزغ قلبه بعد الهداية)، فالهداية العقائدية متحققة عند المؤمنين، وكل من يأتي بجديد في أمر الولاية فهو ضال لا يلتفت إليه بحال.
علامات الظهور تثبيث للمهدوية
لقد أكثر أهل البيت (ع) من ذكر علامات الظهور المقدّس لصاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، وذكر الحوادث المرافقة لظهوره الشريف، وهذه العلامات أوضحت للمؤمنين على مر الزمان أن العالم ينتظر مهدياً واحداً محدداً، وهو من نسل فاطمة الزهراء(ع) وابن الإمام الحسين (ع)، وأبوه الإمام الحسن العسكري (ع)، وقد ولد في عصره، وغاب عن الأنظار غيبة صغرى وتلتها غيبة كبرى، وسوف يظهر في آخر الأمر عندما يأذن الله تعالى، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
وهذه الشخصنة الدقيقة في تحديد هوية الإمام المنتظر (عج)، هي تثبيت لفكرة المهدوية، فلا يمكن لأحد أن يسرقها من عقول وقلوب الموالين الواعين، كما أن ذلك الظهور سوف يكون واضحاً غير ملتبس، لأن العلامات الحتمية التي سوف ترافقه هي علامات يستدل بها المؤمنون بل والتائهون، فلا غموض فيها ولا شك في ظهورها لكافة الناس.
أدعياء المهدوية
في عصر الأئمة كان الشيطان يدعوا أولياءه للتلّبس بلباس الإمامة من خلال التالي:
1/ اغتصاب منصبها الدنيوي، وإدعاء الشرعية للمنصب من أجل التحكّم في مسار الأمة الإسلامية ومنع الأئمة الحقيقيين من قيادة الأمة، وقد قام بهذه المهمة أمثال بنو أمية، وبنو العباس، وما زال الحكام يحاولون السيطرة على الخطاب الديني وتقييده من أجل أن لا يخرج عن عباءتهم خارج، فهذا هو المنهج، هو نفسه المتبع تاريخياً.
2/ إدعاء الإمامة وإدعاء الأحقية، بطريقة التأويل الخاطئ بليّ الحقائق إلى جهة فرقة أو شخصية، لينسب لها الشرعية الإلهية، وبالتالي يمكنها التصرف في قيادة الأمة وإقصاء القيادة الحقيقية المتمثلة في أهل بيت النبوة وموضع الرسالة.
وقد قام بهذه المهمة العديد من الأشخاص، بدءاً بمدّعي النبوة والإمامة أو تحريف معنى النبوة أو الإمامة، أمثال مسيلمة وسجاح، ومحمد بن ابي زينب الأسدي[3] في عصر الإمام الصادق (ع)، وأبو منصور العجلي الذي أسماه الإمام الباقر (ع) أنه (رسول إبليس)[4] ولعنه، وعلي ابن أبي حمزة البطائني الذي أسس الواقفية وأنقص من عدد الأئمة، وغيرهم.
وبعد الغيبة الكبرى لصاحب الأمر (عجل الله فرجه)، استغل الشيطان وجود النفوس المريضة، وسوّل لها إدعاء المهدوية، باعتبار أن الخفاء للإمام الحقيقي متحقق إلى أمد بعيد، فاعتبر الفرصة سانحة لهدم الولاية ومسار الحق الرباني، ولذلك خرج الكثير من الأدعياء الذين بائت مشاريعهم بالفشل وتلاشت من صفحات التاريخ، إلا أنهم لوّثوا عقول بعض الضعفاء، ومازالت بعض صباباتها الملوّثة تخدم الباطل وأهله.
ولكن أهل البيت (ع) كانوا على بصيرة بهذا الخط وهذا الانحراف، فأخبروا شيعتهم عن ظهور هؤلاء وحذروهم منهم، وأخبروا بأنه سيأتي من شيعتهم (من يدّعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة)، وحكموا عليه بالكذّاب المفتري، وقال الإمام الصادق (ع) عن العلامات الواضحات قبل خروجه كي يقطع الطريق على كل مدّعي الإمامة أو المهدوية:
فعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) أَنَّهُ قَالَ: لِلْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ ظُهُورُ السُّفْيَانِيِّ وَالْيَمَانِيِّ وَ الصَّيْحَةُ مِنَ السَّمَاءِ وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ وَالْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ. وعنه (ع) في كمال الدين: "قبل قيام القائم خمس علامات محتومات".
الهدم من الداخل
السياسة التي اتبعها أعداء الدين لهدم الدين، هي أن يقوموا بنخر عضامه كي ينتهي إلى الضعف وعدم القدرة على مواجهة التحديات وكي يسير في ركابهم، وهي سياسة الهدم من الداخل، وهدم الدين باسم الدين، فهي أسهل طريقة لاجتذاب من كان لديهم الحس الديني، وجعلهم معاول هدم من غير أن يشعروا، وفي الحقيقة إن هذه السياسة هي تستفيد من الجذوة الإيمانية التي خلقها الدين في النفوس، ولكن مع تغيير اتجاهها نحو اتجاه آخر مختلف عن مقاصد الدين وعن حقيقة الدين، إلى أن ينتهي الأمر إلى تبنّي فرقة مغايرة أو مذهب آخر أو دين جديد.
وهذا ما حصل مع العديد من الفرق التي خرج أدعياؤها باسم الدين في البدء ثم شيئاً فشيئاً ترى عجلتهم تسير باتجاه المقاصد الغربية ومقاصد أعداء الدين.
كشف اللثام عن الأدعياء
يمكن بسهولة أن يكتشف المرء منطق الهدم وروح العداء للدين وأهل الدين عند أدعياء المهدوية أو أدعياء المحورية الولائية، وكل من ابتدع دعوى من عنده كي يغرر بها المؤمنين، أمثال أدعياء البابية للروسل والإمام، أو أدعياء السفارة المهدوية، ومدّعي اليمانية والمهدوية، أو مدّعي عصمة المنهج في عصر الغيبة كالقصدية، أوغيرهم ممن إدعى صحة كل تجربة دينية لأي أحد من الناس ولا معنى لخطأ في الحياة باسم الحداثة الدينية، ويمكن ذلك عبر ملاحظة اتجاهين:
الأول: التأسيس على الهدم، لا على البناء، ولأنهم ليسوا كالأنبياء الذين جاؤوا لمجتمعات متخلفة، عرّفوهم بمشاكلهم بكل ود، وجاؤوا بكلمة التوحيد التي تنقذ الأمم، وبينوا مناهج الشريعة التي تضيء الطريق بالدعوة بالتي هي أحسن، فإن الأدعياء جاؤوا ليتصيّدوا في الماء العكر، ويستغلوا أخطاء هنا أو هناك، ويعملون على تضخيمها، بل واختلاقها، ثم يقتاتون عليها، ويحاولون اجتذاب الناس من خلالها.
بل إن تأسيساتهم الهادمة، إنما توجه سهامها إلى أصل العقيدة، فتراهم يدّعون أن كل العصور التي تلت غيبة الإمام الثاني عشر هي عصور ظلام دامس وجهل مطبق، فجاؤوا هم لينقذوا الناس، فلا هداية قبلهم ولا جهود طيبة لأي من العلماء قبلهم.
فمنطقهم التسفيه لكل أحد سواهم، والاحتقار لكل جهد دونهم، وهذا عين الهدم الذي يريده أعداء الدين.
الثاني: التدرّج بتمييع العقيدة وأحكام الدين، فما يريده أعداء الدين، هو أن يجلعوا الدين جسداً بلا روح وإطاراً بلا محتوى، واسماً بلا معنى، فالبعض ينكشف في أول دعواه، والبعض ينكشف تدريجياً، فتكون عند بعضهم العصمة أمر عام لا يختص بالأئمة الإثني عشر، أو إيجاد البديل والرديف للإمام فيكون محوراً بيده مقاليد كل أمر، ويسعوَن لتحريف الكتاب بمناهج متشابهة تتبع نفوسهم المريضة (المنحرفة)، فكما انطلقت دعوى السفارة من التشديد بالإلتزام بأمر الحجة الغائب، حتى انتهت إلى التخلي عن السنّة في فهم النص القرآني وانتهاج مناهج حديثة في فهمه، فرفض إدخال الدين في الحياة العامة وتشريع التحلل والانصياع للغرب، وهكذا ترى كل ما يريده الغرب له عنوان وباب في تشريعاتهم المتلبّسة بلباس الدين.
الزايد فينا كالناقص منا
عبر السياسة الفكرية المتكاملة التي اتبعها النبي وأهل بيته (ع) بشأن الأطروحة المهدوية، أصبح الإمام المنتظر (ع) آية محكمة، يرد إليها كل متشابه، فعند تشابه الفتن وتتابعها على العقل، ما عليه إلا أن يرجعها إلى الفكرة المهدوية المحكمة، فإن وافقتها فقد وافقت الحق، وإن خالفتها فقد خالفت الحق، فلا مهدي قبله ولا مهدي بعده، فهو المهدي الخاتم سلام الله عليه.
لذلك فإن من أنقص من الإئمة عن عددهم الحقيقي الإثني عشري، وأنكر بعضهم كالواقفية والكيسانية والزيدية، كمن زاد فيهم وزادهم على الإثني عشر، فهم سواء في بعدهم عن الحق وفي انحرافهم عن أمر الولاية والمهدوية المقدّسة.
وهذه الحقيقة يذكرها الإمام الحسن العسكري (ع) بوضوح تام لا لبس فيه،فقد سأل الإمام الحسن العسكري أحد أصحابه عمن وقف على أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) (وكان عمه قد توفي) قائلاً: أتولاهم أم أتبرأ منهم؟
فكتب له العسكري (ع): (لا تترحم على عمّك، لا رحم الله عمّك، وتبرأ منه، أنا إلى الله منهم بريء فلا تتولاهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً. سواءٌ من جحد إماماً من الله، أو زاد إماماً ليست إمامته من الله، أو جحد، أو قال: ثالث ثلاثة.إن جاحد أمر آخرنا جاحد أمر أولنا، والزايد فينا كالناقص الجاحد أمرنا)[5].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] / راجع صحيح مسلم وصحيح البخاري وسنن الترمذي وسنن أبي داود والمعجم الكبير والصغير وغيرهم من كتب العامة.
[2] / إلى الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، أفرد المجلد الأول كله للروايات الناصة على أئمة الإثني عشر بالعدد والمواصفات والشخوص.
[3] / انظر اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) للشيخ الطوسي، حديث 509 صفحة 302 وحديث 521 صفحة 307
[4] / رجال الكشي، ح546 ص369
[5] / الخرائج والجرائح 1/452 و كشف الغمة 3/319