قل ولاتقل
العلامة مصطفى جواد
كان العلامة الدكتور مصطفى جواد دائرة معارف تمشي على قدمين ، فهو علم اللغة العربية في العراق والوطن العربي...
كان فن مصطفى جواد هو التصحيح اللغوي فهو في العربية لم يسبقه سابق على الرغم من كونه تركمانياً من عشيرة صارايلو ، وكانت حافظته عجيبة وشخصيته طريفة وقلبه سليما نقياً أبيض .
ومن طرائف العلامة :
في يوم من الايام ركب العلامة مصطفى جواد إحدى سيارات الأجرة في بغداد ، وفي الطريق شغل السائق المذياع ، وكان برنامجه من الإذاعة ( قل ولا تقل ) يذاع ، فضجر السائق وأغلق المذياع وقال باللهجة العراقية العامية : (اسكت كواد) ، فطلب مصطفى جواد التوقف ونزل من السيارة وهمس في أذن السائق : (قل قوّاد ولا تقل كوّاد)، فسارع السائق للاعتذار منه وقبل مصطفى جواد اعتذاره وضحك .
ومرة التقى العلامة جواد الزعيم عبد الكريم قاسم وقال له : أرجو أيها الزعيم أن لا تقول : ( الجَمهورية ) بفتح الجيم ، بل قلْ الجُمهورية بضم الجيم .. وتقبل الزعيم النصيحة ، لكنه تساءل عن السبب ، فقال له مصطفي جواد : لأن المأثور في كتب اللغة هو ( الجُمهور ) بضم الجيم ولأن الاسم إذا كان على هذه الصيغة وجب أن يكون الحرف الأول مضموماً لأن وزنه الصرفي هو فعلول كعُصفور .
ومرة أخطرته وزارة المعارف بكتاب رسمي بضرورة عدم نشر المقالات في الصحف استنادا للقوانين التي لا تجيز للموظف المشاركة في الأمور العامة والنشر في وسائل الإعلام، فقام بتصحيح الأخطاء الواردة في الكتاب بالقلم الأحمر وأعاد الكتاب إلى الوزارة داعيا أن تقوم بتقويم كتابها قبل أن تقّوّم الآخرين .
وذات يوم كان مسافرا خارج العراق وعند وصوله مطار البلدة التي يروم السفر إليها طلب منه الموظف المسؤول إبراز وثيقة التطعيم ضد الجدري فأخطأ في نطق الكلمة بكسر الجيم ورفع التشديد فرد عليه الجواد قل الجدري برفع الجيم وتشديد الدال فهز الموظف رأسه مستغربا وسمح له بالمرور.
كان العلامة جواد بعيدا عن السياسة ومشكلاتها ولا يعنى بمتابعة مجرياتها حتى قيل إنه لو سئل عن مدير شرطة بغداد لصعب عليه معرفته ولكن لو سئل عن رئيس الشرطة في زمن هارون الرشيد لقال إنه فلان ابن فلان عين لرئاسة الشرطة سنة كذا وعزل من عمله عام كذا وتوفي عام كذا واستخلفه فلان الذي... الخ ولأورد تاريخ الشرطة في ذلك الزمن من دون أن يعنى بالحاضر لاشتهاره باهتماماته التاريخية وانصرافه للعلم وحده .
تدهورت صحته ونقل على اثرها الى مستشفى ابن سينا ، فحصه الطبيب فوجده يعاني صدمة وضيقاً في التنفس وألماً شديداً في الصدر، واجري له تخطيطا للقلب ، فأخبره الطبيب بأنه يعاني من ( جلطة قلبية ) وكان متوقعا ان يحزن مصطفى جواد لهذا الخبر وينزعج منه ، ولكنه ابتسم وقال : ( يا دكتور... قل غلطة قلبية... ولا تقل جلطة قلبية ) !
ولا بد أن نذكر أن (العائلة المالكة) انتقته لتدريس الملك (فيصل الثاني) درس اللغة العربية...
لقد كان وداعه الأخير تظاهرة كبرى سار في توديعه جمهور كبير من محبيه والمعجبين بأحاديثه التلفازية عن محلات بغداد القديمة وكان في مقدمة مشيعيه (احمد حسن البكر) رئيس الجمهورية آنذاك... وبرحيله فقد العراق علماً من أعلامه البارزين ورمزاً من رموزه الخالدين .
واليكم نبذة عن سيرته الذاتية :
ولد مصطفى جواد عام 1904 من أبوين تركمانيين في محلة شعبية في الجانب الشرقي من بغداد. تنقل طفولته بين بغداد وقضاء الخالص التابعة لمحافظة ديالى. تعلم في الكتاتيب ومن بعد في المدارس قارئا القرآن الكريم وحافظا له. ودرس في المدرسة الجعفرية ومدرسة باب الشيخ بعد دخول الإنكليز العراق محتلين . بعد تخرجه من دار المعلمين عام 1924 عين معلما في مدرسة الناصرية ثم البصرة وبعدها في مدرسة الكاظمية ببغداد. سافر إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا هناك والعودة عام 1939 بعد نيل شهادة الدكتوراه مدرسا في معهده الذي تخرج منه وساهم في التدريس فيه وأيضا في كلية التربية التي ورثت المعهد بعد تأسيس جامعة بغداد . في عام 1962 أنتدب للتدريس في معهد الدراسات الإسلامية العليا وعين عميداً للمعهد المذكور بعد عام . وواصل النشر والكتابة والبحث في تلك السنوات رغم اشتداد آلام مرض القلب عنده والذي طال به . وقد خلف كنزا ثمينا من آثاره ومؤلفاته المختلفة في شتى ميادين المعرفة بلغت مجموعها 46 أثراً ، نصفها مطبوع ونصفها الآخر ما زال مخطوطا ، وفضلا على ذلك فكان للعلامة جواد العديد من المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد . وبالإضافة لكونه من عباقرة اللغة العربية وموسوعة معارف في البلاغة والسير والأخبار والآثار، كان مؤرخا معروفا وله مصادر تاريخية موثوقة يرجع إليها الباحثين والمهتمين في شؤون التاريخ . فكانت حياته الثقافية حافلة بالإبداعات في البحث والتنقيب والتخصص في اللغة وتاريخها فألف وحقق ما يثريها ويعمق من معرفتها والتمعن بها، باذلاً جهوده في الإحاطة بها وتدريسها لأكثر من خمس وأربعين سنة .