تأملات في الإستبداد الأمريكي
1
حسن العاصي
حين انتهت الحرب الباردة بين المعسكرين الرئيسيين في العالم ، المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وقوتهم الضاربة ” حلف الناتو ” من جهة ، وبين المعسكر الشرقي بقيادة الإتحاد السوفييتي السابق وجناحهم العسكري ” حلف وارسو ” من جهة ثانية ،في بداية التسعينات من القرن الماضي ، مع انهيار الإتحاد السوفييتي وحصول دول الإتحاد على استقلالها ، إذ أضحت دولاً مستقلة بذاتها بعد أن كانت جزء من امبراطورية استمرت عقوداً ،نهاية الحرب هذه أفضت إلى وضع بدأت تتشكل معه معالم الشكل الجديد للعالم ذو القطب الواحد المتمثل بالرأس الكبير الولايات المتحدة الأمريكية بما يتضمن ذلك من قوة عظمى اقتصادياً وعسكرياً .
تميزت هذه الفترة وحتى نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن ،تميزت بالغطرسة الأمريكية والعربدة ، كقوة انفلتت من عقالها ،وظهرت الولايات المتحدة في صورة الدولة الزاهية التي انتصرت على الظلام، وبدا رئيسها كسيد لهذا العالم ، يريد نشر وتعميم الثقافة والقيم الأمريكيتين ،وتميزت الفترة أيضاً إضافة إلى أحادية القطب ـ في غياب مبدأ الحوار بين الشعوب والدول ،هذا بسبب أن سيدة العالم -الولايات المتحدة- تستطيع أن تفرضالإملاءات والشروط على الآخرين دون حوار لأنهم لايملكون القوة التي تمكنهم من مقاومة النموذج الأمريكي ،وبالتالي فإن الولايات المتحدة لم تكن تلجأ إلى الحوار إلا عندما تواجه صعوبات في تشكيل العالم كما تبتغي .
واستيقظ العالم على قدر بدا وكأنه لامفر منه ،وبدأت مرحلة أمركة العالم سواء عبر وسائل الإغراء او بواسطة العنف ، عبر تصدير السلع والمنتجات الأمريكية إلى العالم ، وبالتالي الإستحواذ على الأسواق العالمية وخاصة الناشئة منها ،وعبر نشر الثقافة الأمريكية وإظهار النوذج الأمريكي الأفضل للعيش الرغيد ، وبالتالي بسط السيطرة الفكرية على مناطق متعددة ، وشعوب متنوعة ،أو عبر الإحتلال والقوة العسكرية ،فما هو مهم لدى الإدارة الأمريكية هو تحقيق النتائج ، حتى لو كان عبر التدخل الوقح في شؤون الآخرين ، واللعب على التناقضات بين الأطراف في المناطق الساخنة في هذا العالم ، وبالتالي بسط الهيمنة على العلاقات الدولية ،وتسخير مقدرات الكون لمصلحة الإمبراطورية الأمريكية .¨
لقد كانت القوة العسكرية الأمريكية في التسعينات غبر مسبوقة ،فالإنفاق العسكري الأمريكي كان يزيد عن إنفاق عشرين دولة متطورة ، وما أنفقته على البحث العلمي يعادل إنفاق العالم كله ،وهي القوة الإقتصادية الأكبر في العالم ، رغم تراجع نصيبها في التجارة الدولية عن ماكان عليه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي .
وبالرغم من كل هذه القوة فشلت الولايات المتحدة في فرض إرادتها المطلقة على عالم التسعينات ، ولم تنجح في تحويل عالم القطب الواحد ينصاع إلى إرادة القطب الواحد ،بسبب رفض العالم تحكم قوة واحدة في شؤونه ،أيضاً لأن مقياس التحكم والقيادة لم يعد ينحصر بالأساطيل ، بل في مصداقية السياسة والإلتزام بالقيم المشتركة بين شعوب العالم، فقد خرجت الولايات المتحدة من فترة الحرب الباردة متسلحة بأيديولوجية الديمقراطية وحقوق الإنسان ، لكنها في ذات الوقت استمرت في حصارها غبر المبرر لكوبا ، وتنكر واضح للحقوق الفلسطينية ،وما أن ختم كلينتون ولايته في نهاية التسعينات ، حتى كانت سياسة العولمة الإقتصادية غير العادلة التي قادها، قد أدت إلى انهيار الإقتصاد الأندونيسي ، وإلى تراجع خطير في اقتصاديات دول شرق وجنوب شرق آسيا ، وإلى إفلاس الأرجنتين ،وتراجع متسارع في اقتصاد جميع دول أمريكا اللاتينية .
المناطق الوحيدة التي لم تتأثر نسبياً من دكتاتورية العولمة الأمريكية هي دول أوروبا الغربية ، والصين التي لم تكن قد انضمت إلى منظمة التجارة العالمية ، واليابان عملاق الثمانينات المرعب هوت إلى مرحلة من عدم التوازن الإقتصادي.
التسعينات حملت معها أيضاً فشل أمريكي تدلّل عليه على سبيل المثال، الإنفجارات التي حصلت في منطقة البلقان ، وصمود كوبا في وجه استمرار الحصار الأمريكي ،وتحول الصين إلى قوة لا يستهان بها في الإقتصاد العالمي ، استمرار كوريا الشمالية في برنامج التسلح وإطلاقها صاروخ تجريبي فوق اليابان ،وانهيار اتفاق أوسلو ومعه انهار وهم تغيير وجه الشرق الأوسط الذي أطلقه الرئيس الأمريكي كلينتون .
ومع وصول الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن إلى البيت الأبيض في بداية عام 2001 ، لم يكن أحد من أفراد طاقم الرئاسة يختلف حول ضعف الموقف الأمريكي ، لكنهم كانوا منقسمين في الموقف حول الآليات التي يجب اتخاذها في معالجة هذا الضعف .
فقد ظهر صوت قوي من داخل الإدارة الأمريكية يدعو إلى إنسحاب أمريكي محدود من الشأن الدولي ، وصرف النظر عن مشروع العولمة ،والدفاع عن المصالح الأمريكية الإقتصادية في مواجهة الإجماع العالمي ، وتعزيز القدرات العسكرية الإستراتيجية لمواجهة التحديات المحتملة .
لكن هجمات الحادي عشر من أيلول-سبتمبر- عززت نفوذ أنصار الخيار الثاني ، خيار الإنتشار الأمريكي الإمبريالي في العالم ، وفرض الإرادة الأمريكية بالقوة المجردة إن اقتضى الأمر.وماحصل أن سياسة بوش الخارجية كانت في الحقيقة انتهت إلى إجتماع الجوانب الأسوأ في الخيارين ، فأعلنت الحرب على أفغانستان عام 2001 وعلى العراق عام 2003 ، بذريعة مكافحة الإرهاب ،واستمرت الولايات المتحدة في الإستهتار بإرادة المجتمع الدولي في مواضيع كثيرة ، منها قضايا البيئة ،المحكمة الجنائية الدولية ، اتفاقات الحد من الأسلحة الكيمائية ،وحتى فيما يتعلق بالتجارة العالمية التي صاغت قواعدها الولايات المتحدة في الأصل لم تحترمها ،وأبدت الإدارة الأمريكية استهتار ملحوظ بالأمم المتحدة وشرعية القرار الدولي، ومضت في استفزاز القوى العالمية بتطوير حائط الصواريخ البالستية بعيدة المدى ، ونشرت عشرات الآلاف من قواتها في أماكن متعددة من العالم ،وقامت باحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين ، وقامت بالتحكم في مصادر العراق النفطية .
حاولت هذه السياسة في عهد الرئيس جورج بوش تحقيق ما عجزت عنه إدارة الرئيس كلينتون عن تحقيقه خلال عقد التسعينات ، وقد ظهرت مع وصول بوش الإبن إلى البيت الأبيض تحولات في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ،بأن اعتمد في إدارته على مجموعة من المفكرين الذين لاينتمون إلى أي حزب لكنهم يمثلون مراكز الدراسات الإستراتيجية ،فكانت حقبة بوش الإبن هي المرتع والمناخ الملائم الذي احتضن أفكار – المحافظين الجدد- الذبن استطاعوا السيطرة على الرئيس الأمريكي طوال فترة رئاسته ، واستغلوا أحداث الحادي عشر من أيلول للترويج لنظرية الأمن القومي التي تعتمد على الإستخدام المفرط للقوة العسكرية ،وفرض توجهاتهم المتطرفة على مخططي السياسة الخارجية الأمريكية ،وكانت أهم ملامح هذه السياسة المتشددة إعلان الحرب على الإرهاب كأولوية للسياسة الخارجية الأمريكية، وظهر مبدأ ابتدعه المحافظين الجدد باسم “الحرب الإستباقية ضد عدو محتمل” فتم إعلان الحرب على أفغانستان عام 2001 للقضاء على حركة طالبان ، وتم احتلال العراق عام 2003 بذريعة امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل ،وتم تشجيع إسرائيل لشن عدوانها على لبنان عام 2006 للقضاء على حزب الله، ومن ثم أرسلت الولايات المتحدة قواتها العسكرية إلى الصومال عام 2005 لدعم أمراء الحرب ضد المحاكم الإسلامية ،وفي عام 2008 سعت الإدارة الأمريكية إلى محاولة بناء درع دفاع صاروخي في بعض الدول الأوروبية المحاذية لروسيا، وأدت إلى اشتباكات دموية بين روسيا وجورجيا بشأن أبخازيا وأوستيا ، واستخدمت الولايات المتحدة القوة المفرطة في أماكن متعددة ، وحاولت تفعيل نظرية المؤامرة ضد أنظمة حكم في بلدان أخرى ادعت إدارة بوش أنها دول معادية لأمريكا مثل إيران وسورية والعراق وكوريا الشمالية وفنزويلا وغيرها من الدول ، ومن أجل تحقيق هذه السياسة تكبدت الولايات المتحدة أعباء مالية ضخمة ، وأدت إلى آثار سلبية تم إلحاقها بالإقتصاد الأمريكي، وأدت إلى أزمة مالية بدأت في العام 2008 ألحقت أضراراً بالإقتصاد العالمي، ومازالت آثارها مستمرة حتى يومنا هذا .
كل هذا ينطلق من النظرة الأمريكية إلى العالم على أنه عبارة عن أقاليم متمردة يجب إعادتها إلى بيت الطاعة ،واتبعت الإدارة الأمريكية الفاوستية روحها الشيطانية لتغيير العالم كما تشاء،وكان لابد من وجود الآخر الذي على خطأ تماماً ، ليوحي للقطب الأوحد بجدوى وجوده، وتصرفت الولايات المتحدة كعصابة في خضم الأحداث المتلاحقة في فترة الرئيس بوش ،وليس كدولة ، ‘ذ أنها انفلتت من عقالها وأصبحت خارج اي قانون ، فبدلاً من الجهد الجماعي العالمي والمنظم لمكافحة الإرهاب وأسبابه ،انفردت أمريكا بإعلانها وخوضها لحروب على أعداء قد لايكونون بالضرورة أعداء حقيقيين للعالم بأسره .
------------------------
يبقى السؤال المهم
تابع