(د ب أ)
يمين نهر أو يساره، هكذا، ولا يمكن أن يكون مكان آخر، ترسخت على مدى عقود صورة ضفتي نهر السين جنوب العاصمة الفرنسية باريس، كمركز للمثقفين والمبدعين والمفكرين من كل مكان في ليالي الحرية بمدينة النور.
كنتاج لهذا المناخ نشأت ظاهرة ما يعرف بـ(ريف جوش) أو الجانب الأيسر ويقصد بها أكثر من موقع جغرافي متميز على نهر السين، حيث تحدد أسلوب حياة كامل يشمل المتاحف والمطاعم والمقاهي وكل ما له علاقة بالحياة البوهيمية لفناني ومثقفي باريس عاصمة النور في النصف الأول من القرن العشرين.
جدير بالذكر أن نهر السين هو ممر مائي تجاري أساسي لفرنسا يمتد لمسافة 29 كيلومتراً شمال غرب ديجون. ومن هناك يجري في مسار ملتوٍ لحوالي 764 كيلومتراً في اتجاه الشمال الغربي إلى مصبه في القنال الإنجليزي بالقرب من مدينة لو هافر. وعلى بعد حوالي 378 كيلومتراً من منبعه يصبح السين نهراً عريضاً يخترق قلب باريس، حيث يمر تحت أكثر من 30 جسراً، بعضها يتجاوز عمره 300 سنة.
وعلى الضفة اليسرى ذائعة الصيت جنوب نهر السين في باريس يوجد الحي اللاتيني وجامعة السوربون وحدائق لوكسمبرج وبرج إيفل والشانزليزيه والتروكاردو، وتقع كاتدرائية نوتردام في جزيرة بقلب نهر السين.
منذ عقود حمل ميلز ديفيز جيتاره عازفاً للعامة من عشاق الموسيقى في حي سان جيرمان، حيث كان يقضي لياليه مع المغنية جولييت جريجو وقريباً منهم كان يجلس على مقهى كارتييه الفيلسوف الشهير جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار يتباريان في حل المشكلات الفكرية والفلسفية كأول مفكرين منذ عهد سقراط يهبطان بالأفكار من برجها العاجي إلى الشارع.
كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وفي عشرينيات القرن الماضي كان مفكرو وأدباء الولايات المتحدة الأمريكية يحتلون لا ريف جوش ومن بينهم إرنست هيمنجواي وهنري ميللر وجيرترود ستين. وفي عام 1968 حدث العديد من الاضطرابات وأصبحت الضفة اليسرى مسرحاً للاحتجاجات الطلابية الساخنة التي غيرت وجه الحياة الاجتماعية في كل أوروبا.
ومع ذلك وبالرغم من مرور السنوات إلا أن باريس التي كانت من أكثر مناطق الجذب خاصة للأجيال الشابة بمتاحفها على الضفة اليمنى للنهر وحي مارايس بالقرب من أوبرا الباستيل هي نفسها المدينة التي غنى لها الآن سوشون آسفاً على ما حدث يشدو قائلا "وداعاً أرض الموسيقى والشعر وداعاً للجاز والليالي الباريسية".
وعلى الرغم من أن السائحين ما زالوا يقبلون بكثرة على حي سان جيرمان دي بري يجذبهم تاريخ العصر الذهبي للمدينة، تاريخ الأدب بها وبوهيمية "الضفة اليسرى" التي تبدو الآن وكأنها نائمة ومع ذلك فما زال الكثيرون يأتون إلى مقهى "دو ماجو" لكي يستمتعوا بالأجواء التي عاشتها الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساجان صاحبة رواية (صباح الخير أيها الحزن). وحينما يحين وقت التسوق فإن السائحين يفضلون عبور النهر للوصول للضفة اليمنى.
في الوقت الراهن أصبح معقل المثقفين والأدباء يعلوه الغبار لدرجة أن صحيفة "لوفيجارو" كتبت مستنكرة هل لا ريف جوش مازالت موجودة ؟ ويبدو أنه توجد إجابة فالموجود بعض المقاهي والحانات الجديدة والمحال التجارية الراقية وديكورات أخاذة ومع ذلك فإن الضفة اليسرى تريد أن تستعيد مجدها.
يقول الصحفي الباريسي إريك نيوف إن "محال الجزارة حلت محل بوتيكات المجوهرات، البائعات يرتدين أفضل وأرقى من العملاء .. رهان تحققه العصرية والموضة "وفنون الطهي الراقي" حتى يتمكن من جذب زبون قادر على دخول مطاعم تتضمن قوائمها أكلات من كل أنحاء العالم".
"ومع ذلك هناك من حافظوا على إخلاصهم الشديد مثل جان كلاين، الذي ما زال يفضل ارتياد الحانات القديمة التي لا زالت تحتفظ بسمعتها ومذاقها على هذا الجانب من نهر السين، مشيرا إلى أن مقهى "لا جلوسيري دى ليلا" بشارع مونتبارناس ما زال جديرا بالاهتمام مثله مثل حانة "الصرافين" التي توجد بالقرب من الأوديون"، يوضح الصحفي الفرنسي.
من ناحية أخرى ينتقد المعارضون للوضع الراهن ما وصل إليه حال هذا المكان، حيث أصبح بمثابة مكان يعكس بذخاً مترفاً مبالغاً فيه، وأن والحي الذي كان يوما حي الفنانين أصبح مكاناً لجذب المستثمرين من أجل الأعمال التجارية فقط.
ومع ذلك بطبيعة الحال فإن التسكع دائماً ما يتيح فرصة للعثور على جوهرة مكنونة مثل: بائع كتب قديمة لم يخضع لإغراء المال ولم يقبل بمقايضة محله مهما كان الثمن, مساحة من الوقت للاستمتاع بالفن المعاصر في عشرات من المعارض والجالريهات الفنية أو العثور على دار نشر شجاعة نجحت في الصمود في وجه الأزمة، سواء في اليمين أو اليسار ... يبدو أن كلمة النهاية لم تكتب بعد بالنسبة لضفاف نهر السين.