قصص قصيرة جداً /
جمال القواسمي
الكلمة
قرر الطبيب ان يصبح كاتباً اخرس لأنَّه أكتشف انه ساخر وسليط اللسان، بل بوسعه احياناً ان يشعر بالسكاكين والشفرات وهي تنبت على لسانه وتنطلق في كل اتجاه كسهام القنفذ. لطالما شعر بأن الكلمة سلاح أبيض. اتهمه الكثيرون من النقاد والقراء وكتاب الصحف الرسمية والصفراء انه يعيش في برج عاجي، لكنه لم يحاول ان يحادث أحداً للدفاع عن نفسه، ولا حتى زملاءه الكتاب، الذين نصحوه بالعودة للعمل في الطب، مع الموتى، كطبيب تشريح جنائي!! ما همه لو اتهموه!؟ ما همه لو سخروا من مقايضة الطب بمهنة لا تطعم ولا تكسو؟ وما همَّه لو سخروا من موته الغامض، بُعيد تقرير صحفي متلفز مُدته دقيقتان ظهر الطبيب فيه واضطرَّ -بدافع الخجل- في عشر ثوانٍ من التعليق على مشكلة الطول في البلد: طول الصبر وطول الحكم وطول طوابير طالبي الخبز؟ أفاد تقرير التشريح الطبي بأن وجهه كان مجرَّحاً ومشوها ولسانه مبتوراً وقصيراً، قصيراً جداً.
-----------------------------------------------
24 ساعة
ثمة دعوة تلقيتها لعرض جديد جميل في مسرح الكرة الأرضية. ثمة امرأة قبيحة كانت تحاول ان تتعرَّف إليَّ ونحن في طابور الانتظار. ثمة ثلاثة أشخاص اعترضوا طريقي قبيل دخول القاعة.
قال الشخص الأول: فتِّح يا أعمى، صفّ على الدور. وطالبني بدفع رسوم الدخول فجرَّدني من كل مالي. قال انه سيجعلني أرى بنوره. كان ذلك هو أبو النور وهو رجل الإضاءة.
قال الشخص الثاني: أنا سآخذ منك أحلامك، ساحتفظ بها في خزنة الأمانات. كلا، ليس بوسعك الدخول وهي معك. العرض هو الحلم الذي نعرضه عليك. كلا، كلا، غير مسموح أن تُدخل الى المسرح رؤاك، ولا بصيرتك. لي منك كل أحلامك ورؤاك وثلث يومك. وقال انه سيجعلني أحسُّ بعتمته. كان ذلك هو أبو ستارة، وهو رجل العتمة.
قال الثالث: سلِّمني هاتفك وصوتك، لك أن تتنهد، وتزفر، وتتعجب بكلمة آه، تبكي وتنتحب وتغاغي. اسمعني فقط وتعلَّم حكمة الصمت. قال انه سيجعلني أسمع بصوته. كان ذلك أبو رعد وهو فنّيّ الصوت. أمَّا المرأة الدميمة التي كانت تنتظرني لتجالسني في المسرح فقد كانت حياتي.
------------------------------
حكمة
في عالم كله أذكياء، ستكون محظوظاً لو اشتريتَ قليلاً من الغباء بأثمن ما لديك ولو كان أمك أو اباك، لأنهما سيكونان ذكيين لدرجة انهما سيبيعانك لأتفه رأسمالي ذكي في سوق النخاسة قبل أن تفكر ببيعهما!!!
هذا ما اقترفه حكيم ذات يوم: فكَّر؛ فانتهت مدة حكمته ثم صلاحيته ثم محكوميته ثم حياته ثم فترة عدته ثم فترة عذابه في جهنم وهو الآن على اعتاب الجنة.
– ماذا تريد!؟
– الدخول.
– الستَ الغبي الذي باع أمه وأباه؟
– نعم، لكنني كنتُ ذكياً آنئذ وربحتُ في البيعة!؟
ضحك رضوان ساخراً: كيف ربحت؟
– ربحتُ الحِكمة!!
– وما الحكمة!؟
– الحِكمة مثل الخطيئة لها مدة صلاحية، يا رضوان يا حبيبي!!
– ادخل يا حكيم، ادخلْ، الله يرضى عليك؛ الناس جوعانة لأي كلام!!
--------------------------------------------وصية
انتظر الشيخُ الزبائن ذلك اليوم. انتظرهم بفارغ الصبر. في نهاية الليلة الفائتة، بعد نهاية حلقة الحضرة، أخذ شيخه منه الدفَّ وقال له: بلغ شوقك تمامه؛ لم يعد بوسعك الوقوف أيها الحبيب، فتخفَّفْ وأمنح موسيقاك لعازفها. سيأتيك مشترون غداً، فبعهم جميعاً ما أرادوا، بِعْ كلَّ ما لديك، أمضِ في سبيلك!!
في تلك الحانوت الصغيرة، المُطرَّزة بأكياس الزنجبيل وورق الغار والزعتر والدُّقة والعصفر والهيل والحلقوم والزبيب والقطين، أخيراً وقف شاري أكتع أمام البائع الشيخ. كان الشاري الوحيد الذي وقف أمام البائع الشيخ. وقف الشيخ، مشى متئداً، فتح كيساً ورقياً، استعداداً للبيع؛ سأل الشيخُ المشتريَ: زعفراناً؟ زهورات؟ ثم خانه صوته المتعب فأشار بيده نحو الينسون، البابونج، الكمون، العسل، قرفة، السماق، أو الزنجبيل!؟
هزَّ المشتري رأسه نافياً وأشار إلى دفٍّ معلَّقٍ على حائط الحانوت. قال البائع الشيخ: الدُّف ليس للبيع.
قال الأكتع: إنَّه كلُّ ما أريد.
قال البائع الشيخ: إنَّه كلُّ ما لديّ.
ثم ابتسم الشيخ، فقد تذكر وصية شيخه، وناوله الدفَّ الذي بلا صنجات. قال له: أتعلم ماذا تصنع بالدف؟
قال الأكتع: دُلَّني!!
قال البائعُ: خذه بلا مقابل. تذكَّرْ، نار شمعة صغيرة تكفي لشدِّه.
أغلق دكانه، لم تحمله قدماه، ومضى في سبيله.