معسكر أوشفيتز: "صرخة يأس وتحذير للإنسانية"
تساقطت الثلوج على جذوع الأشجار المنتشرة في محيط معسكر أوشفيتز، وكست طبقة سميكة من الجليد أبنية تضم بين جنباتها ما يربو على ألف سجين في كل منها.
لكن لا شيء باستطاعته إخفاء هول ما حدث هنا بين عامي 1940 و1945.
حتى جموع التلاميذ المندفعة من الظلام وزنازين العقاب خالجهم الصمت وهم يخرجون، لا يُسمع لهم سوى صوت خطوات على الجليد.
أما اليوم فيردد المعسكر أصداء أصوات أولئك الذين نجوا من المعسكر النازي للإعدام، حيث تجمع نحو 200 من الناجين لإحياء الذكرى السنوية الـ 70 لتحريرهم على يد جنود الجيش الأحمر.
إنها نفس الأصوات التي كان يسعى النازيون إلى إخمادها إلى الأبد.
وعلى الرغم من بلوغهم حاليا سن الثمانينيات أو حتى التسعينيات، فبعضهم مازال يشعر بأنه يتعين عليه أن يأتي ويتحدث نيابة عن من قتلوا هناك، وأن يسرد قصصهم للأجيال الجديدة قبل فوات الآوان.
كان من بين هؤلاء ريني سالت، 85 عاما، من شمال لندن، التي قالت "على مدار 50 عاما لم أعد لمعسكر أوشفيتز."
وأضافت "لكني عدت للمرة الأولى قبل عشر سنوات. كان شعورا صعبا، لكني شعرت بعدها بالسرور، لقد دفنت أشباحا."
وقالت "منذ ذلك الوقت دأبت على الذهاب والإياب. سأفعل ذلك قدر استطاعتي. لماذا؟ لأن هناك الكثير ممن ينكرون الهولوكوست في أنحاء العالم.. وإن لم تتحدث فإن العالم لن يعرف ما حدث."
وأضافت "كنت محظوظة بنجاتي في الوقت الذي لم ينج فيه كثيرون، لذا نحن نفعل ذلك."
واقع مفزع
من الصعب إنكار واقع مفزع شهدته ثكنات معسكر أوشفيتز 1، أو خط السكة الحديد الذي كان ينقل ما يزيد على مليون شخص إلى الموت في معسكر أوشفيتز 2، معسكر الإعدام، 90 في المئة منهم يهود.
كان المعسكر يضم سجناء سياسيين من بولندا وجنودا أسرى من روسيا.
في ذلك الوقت كان يجري نقل أسر يهودية من شتى أرجاء أوروبا إلى هنا في شاحنات الماشية، بينما كان يسعى النازيون لتنفيذ سياسة "الحل الأخير"، بالقضاء على يهود أوروبا.
ويشير رسم توضيحي في المتحف إلى الكيفية التي كان يُسجن بها أعداء النازية في المعسكر مع وضع شارات خاصة تميزهم عن غيرهم، وهي نجوم صفراء لليهود ومثلث قرمزي اللون للسجناء المثليين، ومثلث بنفسجي لشهود يهوه، مع علامات أخرى تميز كل أقلية في تسلسل هرمي لجحيم إنساني.
حتى بعد مرور 70 عاما، يقف معسكر أوشفيتز صامتا لكن بمثابة شاهد راسخ على وحشية الإنسان تجاه الإنسان: مكان مازال الموت الجماعي يلوث أرضيته.
أقيم المتحف في عام 1947 بمساعدة ومشورة بعض السجناء السابقين فيه ممن كافحوا من أجل تأمين مستقبلهم ليكون ذلك المتحف بمثابة ذكرى خالدة لمن لم تُكتب لهم النجاة، وتحذير لأجيال المستقبل.
كفاح للبقاء
لكن المتحف واجه صعوبات على مدى سنوات من أجل تمويل عمله، وترميم الكثير من الأبنية التي لم تُشيد على الإطلاق بهدف البقاء.
أفضل المعروضات في المتحف هي أيضا أكثرها هشاشة وقابلية للفناء. ومن أفضل المعروضات خصلات متبقية من حلق شعر رؤوس سجناء أو بقايا جلد أحذية أطفال.
ودأبت الحكومة البولندية لفترة طويلة على توفير الأموال اللازمة للمتحف، لكن في ظل كفاح فريق عمل المتحف في مهام الترميم، بما في ذلك وثائق المتحف الحيوية التي مازال يستخدمها أقارب الضحايا لسنوات عديدة، كثف آخرون مساعدتهم.
قالت مؤسسة أوشفيتز-بركينو إنها تمكنت من تحقيق هدفها الرامي إلى جمع مساعدات بقيمة 156 مليون دولار، والفضل في ذلك يرجع إلى تبرعات 34 دولة من بينها ألمانيا والولايات المتحدة وبولندا وتركيا والكرسي الرسولي بالإضافة للمانحين المستقلين مثل مؤسسة "رايتيوس بيرسونس" التابعة للمخرج ستيفين سبيلبيرغ.
ويتيح مصدر الدخل الثابت للمتحف، للمرة الأولى في التاريخ، إمكانية التخطيط لتنفيذ عمليات ترميم طويلة الأجل لمساحة تبلغ نحو 200 هكتار من الأرض و155 بناية و300 من أطلال الأبنية القديمة، بالإضافة إلى الأرشيفات ومجموعات العرض.
والهدف من هذا العمل هو بقاء معسكر أوشفيتز لنحو 30 عاما من الآن ليستوعب 1.5 مليون زائر سنويا.
تجدد المخاوف
ومازال معسكر أوشفيتز رمزا قائما بذاته، حتى بعد 70 عاما، إذ يأتي إحياء ذكراه في وقت تجددت المخاوف بشأن اليهود في العديد من دول أوروبا مع تصاعد الهجمات المعادية للسامية.
فبعد مقتل رسامي كاريكاتور وصحفيين ويهود في العاصمة الفرنسية باريس على أيدي متشددين إسلاميين، ثم تنفيذ هجمات انتقامية على مساجد ومسلمين في فرنسا وأماكن أخرى، أصبحت رسالة معسكر أوشفيتز رسالة ذات صلة وضرورية ينقلها كل من تجمع لإحياء الذكرى.
فبينما تكافح مجتمعات في شتى أرجاء أوروبا مشكلة الهجرة وتسعى إلى تعريف نفسها وقيمها بطريقة جديدة، وتطلب من الأقليات الدينية أن تثبت الولاء للبلدان التي تعيش فيها، نلمح كلمات منقوشة على نصب بيركينو تقول :"ليكن هذا المكان صرخة يأس وتحذير للإنسانية" لعله يكون صدى تقشعر له الأبدان.
المصدر
http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnew...chwitz_message