من أعظم الأخلاق وأهمِّها خُلُق الأمانة؛ لذلك كان هذا الخلق ملازمًا لكل الأنبياء، وحكى القرآن صورًا كثيرة من حوار الأنبياء مع أقوامهم، وكانوا دومًا يذكرون ذلك لهم؛ قال تعالى على لسان الأنبياء: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107]، وللأمانة مظاهر كثيرة؛ منها هذه السُّنَّة التي بين أيدينا، وهي سُنَّة حفظ السِّرِّ؛ ففي خطوات حياتنا نطَّلِع على أسرار كثيرة؛ سواء بعلم أصحابها أو بغير علمهم، وكانت سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظ هذه الأسرار، خاصَّة إذا كان يعلم حرص صاحب السِّرِّ على عدم كشف سرِّه؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: حسن- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ التَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ".
فكشفُ السِّرِّ تضييعٌ للأمانة، وهو إثمٌ كبير، ويزداد الإثم شرًّا إذا كان كاشفُ السِّرِّ قريبًا من صاحبه؛ لأن صاحب السِّرِّ في هذه الحالة يُعطيه كامل الأمان، ولا يتوقَّع منه غدرًا، فتُصبح مصيبة كشف السِّرِّ أعظم؛ وقد روى مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا".
كما يزداد الإثم إذا كان كاشف السِّرِّ متعمِّدًا الإيذاء بنقله؛ فقد روى مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ، فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ. قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ".
والقتَّات هو مَنْ ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم؛ فلْنحرص على حفظ أسرار الناس، ولْنعلم أنها من جملة الأمانات التي أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحفظها.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].