مقال للدكتور ثائر العذاري حول الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة
يمكن أن نعد لميعة عباس عمارة واحدة من أهم شاعرات عصر الحداثة اللواتي استطعن الخروج من ربقة اللغة الشعرية الذكورية ، ونظم الشعر بلغة شعرية مؤنثة، وهي تتبع تكنيكات كثيرة للوصول الى هذه الغاية: منها اظهار المفارقة بين احساس المرأة بالرجل ، واحساس الرجل بالمرأة ، فمن المعروف أن حب المرأة أكثر رسوخا وعمقا وشفافية وانسانية من حب الرجل الذي تغلب عليه المتع الوقتية وعدم الثبات .
لا تقلها إن لجلجت فى حناياك
و دعنى أشتفها من عيونك
و ارتعاشات هدبك الخجل الخفق
و هذى الغصون فوق جبينك
خل هذا الغموض و حيا تقيا
لصلاة ما هومت في يقينك
و إذا الآدمى فيك تنزى
و تمطى العناق بين جفونك
فاحتضن أيهن شئت ، تجدنى
أنا كل النساء طوع يمينك
في هذه القطعة من قصيدة (أنا كل النساء) تظهر الشاعرة فهمها بوصفها إمرأة لإحساس الرجل الذي ينظر الى أنوثتها قبل أن يحاول اكتشاف تفرد شخصيتها، ومن الواضح ، بالمقارنة بين الأبيات الثلاثة الأولى والبيتين الأخيرين بناء الشاعرة مفارقة واضحة بين الحب الروحي والحب المادي (الجسدي)، ولكن من المهم هنا أن نلاحظ استخدامها كلمة (الآدمي) في البيت الرابع ، كناية عن جنس الآدميين ، ان الحب المادي عندها لا يوجد فيه فروق فردية فأي رجل يمكن أن يمارسه مع أي امرأة، أما حبها الذي تنشده فهو الحب المتفرد الغامض المعذب.
وكما كان سيجموند فرويد برى أن الرجل ساديّ بطبعه ، والمرأة ماسوشية بطبعها، وهذا سر التجاذب الجنسي بينهما، تؤكد لميعة هذه المقولة في التكنيك الآخر الذي تكثر من استخدامه في شعرها ، فهي المرأة التي تتمتع بألم الحب:في قصيدتها (لو أنبأني العراف) تقول:
لو أنبأني العرّاف
أنك يوماً ستكونُ حبيبي
لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ
خرساء أًصلّي
لتظلَّ حبيبي
لو أنبأني العراف
إني سألاقيك بهذا التيه
لم أبكِ لشيءٍ في الدينا
وجمعتُ دموعي
كلُّ الدمعٍ
ليوم قد تهجرني فيه .
انها تتلذذ بالشعور بالذنب لأنها كتبت غزلا قبل حبيبها المنتظر، لكنها ، مع كل سعادتها بشعورها ذاك وبحبيبها ، تنتظر يوما مؤلما وتتحسب له ، سعادتها لا تكتمل الا بالشعور بالألم حتى لو كان افتراضيا.
مازلتُ مولَعةً ، تدري تَوَلُّـعُها
مشدودةً لكَ من شَعري ومن هُدُبي
من دونكَ العيشُ لا عيشٌ ، وكثرتُهُ
دربٌ يطولُ ، فما الجدوى من النَّصَبِ ؟
هذان البيتان من (مسدودة طريقي) نجد غيهما ذات الشعور، غير أن من المهم أن نلاحظ قوة التعبير عن الألم في البيت الأول (من شعري ومن هدبي).وفي قصيدتها (رهينة الدارين) ترفض حبا لا عذاب فيه:
يعلم الله أنني أتعذب
رهبة من مشاعري أترهب
لا تقل لي ( أحب )
هذا بعينيك اشتهاء
ونزوة
سوف تذهب .
لست أيوب ،
لن تطيق وصالي
هو شيء من الخرافة أقرب
فالحبيبة لا تسمح لحبيبها في هذه الأبيات أن يعيش معها لحظات صفو وتكذب مشاعره لأنها خالية من الألم.وفي قصيدة (حينما نعشق شموخ الرجال) تصرح بهذا الشعور تصريحا لا لبس فيه:
وحبك وهم تخطى النجوم
وإضمامة من ضياء القدر
بأي الضلوع أضـم هواك
وكم يستقر إذا ما استقر
أعد لي الهوى يازمان الهوى
وأطلق سـراحي انطلاق الغجر
وأوجع ، فظلمك مانشتهي
وضلل ، فذنبك مايغتفر
فهي تصرح في البيت الأخير في القطعة بأن ما تشتهيه من الحب هو الظلم والشعور بالذنب. ومن الثيمات الأخرى التي توظفها الشاعرة لتأنيث قصيدتها ذكر المراكز الحسية للمتعة عند المرأة والتي تختلف طبعا عنها في جسد الرجل:
لا تقرب أنفاسك النار من وجهى
و أذنى ، و شعرى المتهافت
إن فى همسك الأعاصير و الزلزال
يجناح عالمى ، و هو خافت
طبعا لا يمكن للغة الشعرية الذكورية التقليدية في الغزل العربي أن تذكر الشعر والأذن بهذه الطريقة ذات القوة الإيحائية الكبيرة ، فهذا لا يقع الا في لغة أنثى.
يا نَديَّ الثَّغْرِ ، ثغري عَطِشٌ
لم يَبرُدِ ،
كم تمنَّيتُكَ بالأمسِ …
فما نَعِمَتْ عيني ،
ولا ضمَّتْ يدي ؛
أنا خوفٌ مُزمِنٌ تجهلُهُ
وحقولٌ مُرَّةٌ لم تُحْصَدِ ،
يائساً تَـرْجِعُ من وَصلي
فإنْ قَرَّبَ الشَّوقُ وِساداً
أُبـعِـدِ .
تجيد الشاعرة هنا في (لست غيري) التعبير بضمير المتكلم عن التمنع الشهواني الذي يطبع سلوك المرأة ، فمع تصريحها انها كانت راغبة بالحبيب أمس ، تبدي تمنعا أنثويا جميلا .