أشعار نساء الريف والبادية وأقوالهن
جودت جالي
كنت، وحتى بلوغي مرحلة الكهولة، أختلف الى أرياف أقربائنا وأنسبائنا، وخرجت مرات مع عزبهم (في لهجتهم لفصل الربيع حالتان... الريع عندما يكون الربيع غنيا بالمرعى، والمحل يعني الجدب لقلة الأمطار التي سقطت في الشتاء ، وعزبة بكسر العين وتسكين الزاء هي القسم من العائلة يخرجون وقت الربيع بالأغنام أذا كانت كثيرة العدد) الى البادية ( هذه الحركة الموسمية تحدث في مناطق تشمل بادية الكوت حتى البادية غرب العراك (العراق) وهو أسم الفرات الأوسط حصرا عند البدو لكثرة مزارعه وبساتينه). سمعت منهم النوادر والأمثال، سجلت البعض ونسيت البعض الاخر. هذا البعض المسجل فيه مايخص النساء الريفيات، أمهاتي وخالاتي حتى ولو لم تربطني ببعضهن قرابة، مازالت أسماؤهن محفورة في ذاكرتي هي ومعانيها،
(شمسه) و (كميله) و(شذره) و (مغاصه) و (بيرغ) و (بركﺔ) و (حظيه) و (كيفيه).... وكما ترون لم يكن بينهن طبعا(ميرﭭت) ولا (أشجان) ولا حتى (نيران)! كان بامكان أحداهن، مع خضوعها وطاعتها للرجل من أهلها، أن تمسك بالرجل الغريب وتصرعه أذا تعدى حدوده، تعرف تماما متى تكون منقادة ومتى تأخذ بزمام الأمور. يستيقظن باكرا في الغبش لكي يجمعن الحطب لنار التنور والأفطار، والحشيش للأبقار ويحلبنها (توجد حلبتان... حلبة الرواح من المرعى وقت الغروب ولذلك يقال في المثل يسرح ويروح، وحلبة أخرى في الصباح الباكر قبل الرعي (السراحة) ويطلق على هذا الرعي (النشر) أيضا يعني نشرها في المرعى، وحين تجمع لقضاء الظهيرة أو الليل يقال لمكانها (مراح) وهو ليس (المربط) الخاص بالدواب).
تنجز النساء كل هذه الأعمال قبل أستيقاظ الرجال الذين يقضون الليل في الحراسة (النطاره) ولابأس أن يكلفونا نحن الصبيان بالمناوبة معهم في أوقات محددة من الليل يعرفون بخبرتهم أن لاخطر محتمل فيها دون أن يعطونا صلاحية أطلاق النار بل أيقاظهم عند اللزوم، وغالبا مايكون واجبنا قبل انتصاف الليل أو عند الفجر المضيء. كنا نلزم أماكننا قربهم وهم نائمون لكي نوقظهم أذا حدث طارئ، وكان أكثر خوفنا من الذئاب ولكن لاتخف وأنت تحرس مادام (.....) يحوم في الأنحاء (لن أذكر أسمه الخاص فهو من الأسماء المشتركة بين الحيوان والأنسان خشية التأويل السيئ أو الألتباس!)، ذلك الكلب المغوار الأبتر الذي لو كان سائق الشاحنة، الذي دهسه على الشارع العام في بادية شرق الكوت، يعرفه كما عرفناه من بين كلاب الحي لتربع بين نساء عربنا ( العرب أذا كان تجمعا لعدة بيوت بلهجة البدو ومن ينحدرون منهم ولو كانوا في الريف، أو السلف بلهجة الجنوب، والجرية بلهجة الغربية) اللائي بكينه، وبكاه مثلهن بكاء مرا، فما قتل ألا كلب كان يوصل الأطفال الى المدرسة الريفية الطينية الحصرانية عبر الشارع ثم، كأنه عالم بالتوقيت، يذهب للقائهم ويحرسهم في طريق العودة حتى بيوت أهليهم، وفي الليل يتحول الى سبع ضار فيبطش بالذئب كما يبطش بكلب دخيل. أذا كنت غريبا ورآك مع أهل الدار في حالة من الود عرف أنك قريب وتركك تتجول حيث تشاء، أو ضيف (وصدق أنه كان يستطيع أن يحدد بالضبط) فلا يغفل عنك، أما أذا كان الأمر بخلاف ذلك فالفاتحة على روحك. لكنه لم يرحل عن الدنيا دون ذرية فيها العوض.
مكر النساء وعفتهن
لطالما تساءلت متى تجد تلك النسوة الوقت للحظات حميمة مع الزوج وهن يقمن بكل تلك الأعمال نهارا وليلا بصبر ودأب. أنا لا أقول كما يقول النسويون أنهن كن ينفردن دون الرجال بالشعور بالقهر والأنكسار والضعف لاينجيهن منه الشعور برفعة الحياء وعفة النفس والقدرة على التأثير في قلب الرجل المهيمن. نعم... كن يعرفن طبعا شيئا أسمه المكر ويمارسنه ويترنمن به تعويضا نفسيا عن حالة الضعف. عندما كان أقرباؤنا يمتلكون من الشياه والماعز وحتى الجمال ولم تكن العلاقات الأقطاعية بشرورها المعروفة عند أهل الجنوب مألوفة عندهم لم يكونوا قد غادروا حالة البداوة تماما بعد، وقد أدركت هذه المرحلة الأنتقالية. كنت أرافق الحاصودات الى الحقل وأنا صبي وأجلس معهن وقت الغداء حول طعام بسيط ولكنه غني بمشتقات الحليب والتمر الجسب وخبز الشعير، فيتسلين بعد تناوله بوسائل منها أن تضع أحداهن في راحة يدها حبة دوسرة (وهي كالسنبلة بالضبط تميل الى السواد وتنمو مع سنابل الحنطة والشعير ولكن حبوبها تعزل قبل الطحن لأنها تجعل الخبز مرا)، تبصق هذه الفتاة في يدها على الحبة وتردد( شلون مكر النسوان يالدوسره؟ شلون مكر النسوان يالدوسره؟....) هكذا بنغمة ترقيص فتأخذ الحبة، وياللعجب، بالدوران داخل البصقة كأنها تستجيب للترقيص وكنت أنا أراقب مندهشا (مكر النسوان) يدور في راحتها نشوانا. ولهن حكايات يرددنها عن كيد المرأة ومنها أن أمرأة تزوجها رجل من غير قومها ورحل بها الى أرض بعيدة في زمن لم تكن فيه المواصلات متيسرة فمر بها مسافر عابر (يقال للمسافر العابر طارش) وهي جالسة في ظل شجيرة برية ومعها أطفالها وقد أستبد بها وبهم الجوع ورثت ثيابهم فسألته عن وجهته فقال أنه يقصد الديرة الفلانية. فرحت لأن الديرة التي يقصدها هي ديرة أهلها وحملته وصية هذه الكلمات لأخيها:
من الضيم ناكل خبز بنخال/ ومن العره (العري) نلبس جلال (مالايليق ألا بالدواب).
نفذ الرجل الوصية ولكنه لم يجد أخاها فأبلغ الكلمات الى زوجته ومضى في طريقه. كانت هذه المرأة تكره أخت زوجها كرها قديما فقررت أن تكيد لها فحرفت الكلمات وأنتظرت مجيئ زوجها الذي قال لها أنه سمع بأن رجلا عابرا مر بالدار فما شأنه قالت له أن هذا الرجل ألتقى في طريقه بأخته وجاء منها بهذه الكلمات:
من الضيم ناكل خبز حنطه/ ونغمسه بلحم بطه/ ومن العره نلبس البته (لباس ناعم).
فغضب الأخ لما أعتبره من أخته تعريضا به وتعييرا ساخرا. ذهب الى البر وجمع في كيس ثعابين وعقارب وكل ماوجد من الحشرات السامة وقصد الى حيث علم أنها تسكن ليلقي بما جمع عليها. عندما وصل وجدها على الحال التي وصفنا وتلقته هي فرحة وأحتضنته وقبلته وهو حائر لايدري مايصنع. قال لها لماذا بعثت لي بتلك الكلمات وأنت هذه حالك؟ وذكر ما سمع من زوجته فقالت له أنها لم تبعث ألا بكلمات صادقة وذكرت له وصيتها الحقيقية فقال لها متأسفا بأن زوجته قد خدعته ودفعته لينتقم منها ويلقي عليها بأسباب الموت، وفتح الكيس وأفرغه على الأرض فأذا بالثعابين والعقارب والحشرات تحولت الى ذهب وفضة بنفس الرسوم والجسوم رحمة من الله وتعويضا لهذه الأخت البريئة ضحية كيد زوجة أخيها التي دحض الله كيدها...
ولي الامر .. والشعر
أن لولي الأمر (الوالي) من الرجال عند المرأة مكانة عظيمة خصوصا أذا كان أبا أو أخا حتى ولو تزوجت لأنه سندها في الملمات ومرجعها أليه وهو الحامي لها والذاد عنها ظلم الزوج وغيره وتبقى نفسها تتوق لعطفه وسنده. تقول أحداهن:
أخوي المانفعني بركدة أغطاي (تعني رقادها مريضة)/ والمارهن بيته على أدواي (علاجي)/ لو متت لايمشي وراي (لايشيعني).
ولكن أخرى تقول بأباء وشمم:
ياعلة الببداني (التي في بدني)/ ماسولفتهه لكل داني (لكل قريب ويصح أن تقصد الدنيئ)/ ولا لأمي اليابتني (التي ولدتني)/ ولا لبوي (لأبي) الرباني (الذي رباني).
وتنوح ثالثة على أمها التي ماتت دون وجود رجل من أهلها يدفنها:
أسمع ﻀﺤﭻ (ضحك) باﻠﻤكﺒﺭة/ وزلام (ورجال) يدفنون بمره/ أثاري (تبين أن) الزلام مصخره.
تقصد أنهم يدفنونها بتكليف ويضحكون لأمر ما دون الأخذ بنظر الأعتبار حرمة الموقف لأنه لايمس عواطفهم وليسوا متألمين لوفاتها. وتقول على لسان المتوفية:
دفان دفنك ماعجبني/ وتراب مسحاتك لهبني (أحرقني)/ وأريد دفن أخوي وأبني.
الرجال مثلهن ولكن لقهرهم وأنكسارهم أسباب أخرى يغطون عليها بالكبرياء والمروءة والأباء، غير أن لقهر النساء وأنكسارهن طعم مختلف، وحزن مختلف كنت أتحسسه، وأكاد أقول (أتذوق) لوعته في أمثالهن وأشعارهن. الكلمات ذات طابع خاص، أو فلنقل ذات أستعمال خاص قطعا، فيه رقة، والى حد ما، ركاكة أحيانا لأنهن غير محترفات القول شعرا. يمكن تمييز شعر المرأة الريفية (والبدوية) عن شعر الرجل القوي المتين في التعبير والسبك فأذا أخذنا مثلا هذا الشعر (وهنا نقتبس من أشعار المغمورين وغير المحترفين) لرجل من شمر الغربية يفتخر بالكرم والضيافة:
ركﻴت (أرتقيت) راس الدير وأشرف على اﻠﻤـكير (أسم منطقة قرب الموصل)/ومديت الشوف (النظر) لن (وأذا ﺒ...) الشيخ سير (بتشديد الياء جاء ضيفا)/ يا هلا بالشيخ هوه والمسايير (الضيوف)/ يادلةك (يا دلة القهوة) تفوح والبلشتي (من أسماء التبغ) مهير (مهيئ)/ لو عيروني بلابتي (بقومي) ماني معير/ وليه (ولي) خوالك على الجوده (الجود) مشاهير.
قالها هذا الرجل أفتخارا بأخواله أذا قصر الأقربون عن أسباب الفخر أو فقد جوارهم. ولكن بربكم أنظروا الى هذه البانوراما الملحمية بلسان نسوي رسمتها أمرأة من زبيد عندما قتل صنديد من صناديدها (وفي رواية أنه عجيل آل بطيخ الذي كان يحارب الأنجليز ويغير على أرتالهم ومعسكراتهم) حين وقفت تندب (للندابة في حالة الرثاء أسمان نعاية عند أقوام وكﻭﺍﻠﺔ عند أقوام خصوصا أهل الجنوب أذا كانت مأجورة محترفة):
شفت خيال (فارس) ياني (جاءني) من اﻠﺸﺒﻴﭽﻴﺔ (أسم منطقة)/ بيده ماطلي (نوع من السلاح قيل أنه أكبر من الغدارة) والسيف أبو ميه (نوع من السيوف الجيدة)/ يدك (يدك) هامات لو دك المكنزية ( لو حشاها بالبارود والرصاص وأطلقه، والمكنزية نوع من البنادق القديمة البارودية ذات ماسورة طويلة)....
ثم بعد هذا الأستهلال الرامز لخطر قادم تخاطب البطل القتيل فتقول:
وينك يذيب هروت (واد في بادية الكوت مشهور بضراوة ذئابه) يالماذيهه (يامؤذي العدو)/ سواهه (جعل العدو)غنم والذيب يرعه بيهه/ لعب بطرادها (بساحة القتال) ذيب النهروان/ ﻴﭽﺘف (يقيد) بالزلم (بالرجال) وﻴكﻭل خرفان (الأعداء بنظره كالخراف)...
وتصف أخرى هدوء أخيها ورزانته في المضيف ( ويسمى أيضا الديوان، وأذا كان مبني كالغرفة فهو الربعة عند بعض أهلنا في وسط العراق...) ولكنها لاترضى له هذه الرزانة والسكوت في حالة خلاف يتطلب الحزم ولاينفع معه الأدب فتنشد من خلف ساتر لتسمعه:
كلهه ﺤﭽﺕ والحر مصبط (ساكت هادئ)/ والأنذال مثل الحرش (نوع من السمك) يلبط/ تريد المجالس سن ضارب (حاد اللسان)/ وﺤﭽﻴﻪ مثل لدغ العجارب (العقارب)....
يقال أنه حين قتل رشيد البربوتي وقفت أمرأة من نساء العشيرة تصف مكانته من كرمه وضيافته فقالت:
خان جغان بالحمدان مبنيه ( مضايفه في الأرض الفضاء مبنية وتصفها بخان جغان لكثرة الغادين والرائحين)/ ينهر ذياب (تقصد رشيدا فتشبهه بنهر معروف) يالتجري سواجيه (سواقيه)/ بالليله ﻨكﻝ (نقل للضيوف) ميتين صينيه/ ﭽﺍني ﭽﺍذبه (أذا تكذبوني) تشهد الحوشيه (الخدم والحشم)/ ﺘﺒﭽي تنوح ﭽﻨﺘﻬﻡ ( تبكي كنتهم لكثرة الضيوف وماتسببه لها من التعب) يضيفتهم (ضيافتهم) الحربيه (كأنها ساحة حرب من شدة الحركة لخدمة الضيوف)/ بيهه من يشيل الزاد ومن يمد الفرش كيفيه (بفرح)/ أفتحي الباب للشايل الصينية/ ذوله أهل الكرم وأهل العزوبيه(الضيافة).
من امثال النساء
بقي لنا أن نذكر بعض أمثال النساء وقد يتيسر لنا في المستقبل أن نلم شتات الذكريات ونقدم مقالات مستقلة لشعراء أوشواعر لم يقرأ عنهن.
تقول الواحدة منهن وهي تطحن بالرحى مفتخرة بنفسها ومنتقدة من يقول أن النساء سواء في الجد والعمل أو ربما يقصد خاملات مراوغات:
يامن كلﺕ كلهن سوه/ ﭽﻠﺒﻙ عوه (كلبك عوى جوعا)/ وبيتك دوه (سقط)/ يامن كلﺕ كلهن سوه/ خبزك فطير وماأستوه.
ومن أمثالهن:
عشر ﭽواديد (رجال يكدون في العمل ويأتون بالمال) ماﺘﻠﺤك على (لاتسد متطلبات) الهباده (المبذره المسرفه).
ومن أمثالهن أيضا:
صاحت الصايحه على الجريه (القرية) الخربانه. ومعناه أتهام البريئة التي تنهك نفسها في أعمال البيت كما يشاع أن قرية خربة يخرجون منها قطاع الطرق ليغيروا على القوافل ولاذنب لهذه القرية الخربة التي لاسكان فيها...
منقووووووووووووول