1) غريزة حب الجمال وحب الخلودالخضرة والماء عنصران ثابتان في مقيـاس الجمال عند الإنسان،في كل الشعوب وكل العصور ، وحتى في نشأةالإنسانالثانية في الآخرة .
لقد وهبهُ اللهُ قوةَ إدراك الكمال والنزوع اليه، فتراه عندما يرى النقص في نفسه أو في شئ ، يتصور كماله ويحب أن يكون كذلك . فهو بغريزته يحب الجمال والكمال ، ويريد للزهرة والثمرة أن تكون في أعلى درجات الجمال، وللعصافير والأشجار،وكل ما يحيط بحياته .
وكما ينزع الى الكمال والجمال ينزع الى الخلود..فإذا أحس بالجوع عرف أنه يوجد ما يؤكل فتراه يبحث عنه،وإذا رأى محدودية وجودهفي جانب ،عرف أنه يوجد فيه كمال وخلود ،فينزع اليه .
فالنزوع الى الكمال والخلود غريزةً تؤشر له على وجود الجنة ، والخلود فيها .
يرى الإنسان من الطائرة:مساحات واسعة من الأرض: جبالاً مقفرة ، أو صحراء مجدبة ،يابسةً أو ثلوجاً . أو أرضاً مغطاةً بمياه البحار المالحة.. فيقول في نفسه:لماذا صارت أكثر أرضنا قاحلة، ومصادر قوت الناس بقاعاً ورقاعاً صغيرةيتنازع عليها البشر؟ فهل من الصعب على الله تعالى أن يجعل الأرضكلها مروجاً وأنهاراً ، ويحل المشكلة ؟
وطعامنا..جعله الله من نبات الأرض وحيوانها، يحتاج الى جهد يأخذ أكثر وقتنافهل كان من الصعب عليه عز وجل أن يجعل قوتنا ميسوراً مبذولاً للجميع، كما جعل الهواء الذي نتنفسه ؟
وهل كان من الضروري أن يكون ابن آدم أجوف،يجب عليه أن يملأ جوفه باستمرار بمواد من نبات الأرض أوحيوانها ، فإن لم يملأه مات !
وعندما ينظر الإنسان الى نفسه يرى أنه جهاز عظيم ،مجهز بخمس كاميرات متطورة ،هي حواسه الخمس ، وبمركز تحليل قدير لمعلوماتها هو الدماغ .
وإذا قسنا سرعة عمل دماغ الإنسانبسرعة شرائح الحاسب،وجدنا أن أعظم الشرائح وأكثرها تطوراً ،متخلفة عاجزة عن القيام بأبسط عمليات الدماغ !
ويتميز الإنسانعن كل الأجهزة بأنه يعي نفسه وينفتح على غيره ، فله نوافذ لفهم وجود العالم من حوله ، ومعرفة وجود ربه ،خالقه وخالق العالم .
ويتميز بطموحه العظيم ، وإمكاناته الكبيرة.. وبتناقضه العجيب .
إنه جهاز فريد (متعوبٌ عليه) . لكن عُمْرَهُومشاكله لا تتناسب مع عظمته !
مسكين ابن آدم ،تؤلمه البَقَّة ، وتقتله الشَّرْقَة ، وتُنْتِنُهُ العَرْقة، وسرعان ما يموت ويصير تراباً ! وما قيمة الستين سنة والمئة !
فهل كان صعباًعلى الله عز وجل أن يجعل عمره ألوف السنين ؟أو يجعله خالداً لا يموت ؟! إن الفقر والمرض والموت ،حدودٌبالغة القسوة على وجودنا .
وربط وجودنا بجاذبية الأرض ،سجنٌ يكبل مجال حياتنا .
والنتيجة: أننا ندرك وجود حياة أفضل وأكمل، ونطمح اليها ، وننزع الى الكمال والجمال والخلود .
لكن الله تعالى يقول لنا إن مشكلتكم أنكمتعجلون ، وتريدون ذلك في الدنيا ،والدنيا لاتصلح لما تريدون ، لأنها مبنية على المحدودية ،والإمتحان ! وغاية مايمكن أن يكون للدنيا من دور ،أن تكون مكاناً للإعداد لما تريدون .
يقول عز وجل: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . (الشورى:27).
ويقول النبي(ص) :لولا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسه شئ: المرض ،والفقر، والموت ،وكلهنَّ فيه وإنهمعهن لَوَثَّاب ) !(الخصال/113).
وهكذا قدم الأنبياء(ع) عقيدة الجنة والنار الى الأمم،واقعاً أمامهم،لكنه في دار أخرى غير الأرض . أما في الأرض فالإيمان به معادلةٌضرورية في قانون الثواب والعقاب،تكمل قوانينهم فترتقي بسلوك الناس،وتساعد على إصلاح مجتمعاتهم .
إن الدين يقدم الجنة للناس بنعيمها المادي والمعنوي، أملاً محققاً ،لتخفق له قلوبهم ، وتُشحذ له هممهم ،فيعملوا الخير ويبتعدوا عن الشر،ليفوزوا بها .
ويقدم عقيدة العقاب بالنار أمراً محققاً أيضاً ، لترتعد منه فرائصهم ، ويكون رادعاً ضميرياً لهم عن الشر .
من كتاب الولادات الثلاث/للشيخ الكوراني