أخلاق الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) مع من أساء إليه
كان (عليه السلام) يجازي المسيئين بالإحسان ، ويعفو عمن أساء إليه ويدعو له.
قال أبو جعفر الخثعمي: أعطاني الصادق (عليه السلام) صرّة فقال لي: (( ادفعها إلى رجل من بني هاشم ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً ))، قال: فأتيته، قال: جزاه الله خيراً ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش بها إلى قابل، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله(1).
وفي كتاب الفنون: نام رجل من الحجاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى الصادق (عليه السلام) مصلياً ولم يعرفه، فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني، قال: (( ما كان فيه ؟ )) قال: ألف دينار، قال: فحمله إلى داره ووزن له ألف دينار وعاد إلى منزله، فوجد هميانه، فعاد إلى جعفر (عليه السلام) معتذراً بالمال، فأبى قبوله وقال: (( شيء خرج من يدي لا يعود إلي ))، قال: فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: لا جرم هذا فعال مثله(2).
وكان بين الإمام وبين بعض بني الحسن حساسية وكانوا يتصورون أن الإمام يحسدهم حين ينهاهم عن القيام والتحرك ورفع السيف حيث كان يعلم بما لا يحيطون به علماً، وفعلاً كانت نتائج أعمالهم سفك دمائهم.
فوقع بين الإمام الصادق (عليه السلام) وبين بني عبد الله بن الحسن كلام في صدر يوم ، فأغلظه في القول عبد الله بن الحسن ، ثم افترقا وراحا إلى المسجد ، فالتقيا على باب المسجد ، فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد لعبد الله بن الحسن: (( كيف أمسيت يا أبا محمد ؟ )) قال: بخير ـ كما يقول المغضب ـ فقال: (( يا أبا محمد ، أما علمت أن صلة الرحم يخفف الحساب )) ، فقال : لا تزال تجيء بالشيء لا نعرفه، فقال: (( إني أتلو عليك به قرآناً ))، قال: وذلك أيضاً؟ قال: (( نعم )) ، قال: فهاته ، قال: قال الله عزّ وجل:(وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) (3). قال: فلا تراني بعدها قاطعاً رحماً (4).
وروي أن رجلاً أتى أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إن ابن عمك فلاناً ذكرك فلم يدع شيئاً من سيء القول إلا قاله فيك، فأمر جارية أن تأتيه بوضوئه، فتوضأ وانصرف إلى الصلاة، قال الراوي: فقلت في نفسي: سيدعو عليه، وبعد أن صلى (عليه السلام) ركعتين، قال: (( يا رب هو حقي قد وهبته ، وأنت أجود مني وأكرم فهبه لي، ولا تۆاخذه بي ولا تقايسه ))(5).
في جملة من أخلاقه:
عن يعقوب السراج، قال: كنا نمشي مع أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يريد أن يعزي ذا قرابة له بمولود له، فانقطع شسع نعل أبي عبد الله (عليه السلام) فتناول نعله من رجله، ثم مشى حافياً، فنظر إليه ابن أبي يعفور، فخلع نعل نفسه من رجلة، وخلع الشسع منها وناولها أبا عبد الله (عليه السلام)، فأعرض عنه كهيئة المغضب ، ثم أبى أن يقبله، وقال: (( لا ، إن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها )) ، فمشى حافياً حتى دخل على الرجل الذي أتاه ليعزيه(6).
وعن شعيب قال: تكارينا لأبي عبد الله (عليه السلام) قوماً يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر، فلما فرغوا قال لمعتب: (( أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم ))(7).
عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) مولى له يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال له: (( تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا ))، قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فٍِسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد الله (عليه السلام) ومعه كيسان في كل واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال: (( إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ )) فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا ، فقال: (( سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً ؟! )) ثم أخذ الكيسين ، فقال: (( هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح ))، ثم قال: (( يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال ))(8).
عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تزيّد السعر بالمدينة: (( كم عندنا من طعام ؟ )) قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة، قال: (( أخرجه وبعه )) ، قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام؟! قال: (( بعه ))، فلما بعته قال: (( اشتر مع الناس يوماً بيوم ))، وقال: (( يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة))(9).
عن الشقراني قال: خرج العطاء أيام المنصور، وما لي شفيع، فوقفت على الباب متحيراً، وإذا بجعفر بن محمد (عليه السلام) قد أقبل، فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج، وإذا بعطائي في كمّه فناولني إيّاه وقال: (( إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح، وإنه منك أقبح لمكانك منا ))(10).
وإنما قال الإمام له ذلك هذا لأنه كان يشرب الشراب ، فمن مكارم أخلاق الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قضى حاجته ووعظه على وجه التعريض.
المصادر:
1 ـ البحار، 47: 23، ذيل حديث 26.
2 ـ منتهى الآمال.
3 ـ الرعد: 21.
4 ـ كشف الغمة في معرفة الأئمة، 2: 375.
5 ـ منتهى الآمال، 2: 167.
6 ـ الكافي، 6: 464، حديث. البحار.
7 ـ الكافي، 289، حديث، البحار، 47: 57، حديث 105.
8 ـ الكافي، 5: 161، حديث. البحار 47: 59، حديث 111.
9 ـ الكافي، 5: 166، حديث. البحار، م. ن. حديث 112.
10 ـ منتهى الآمال، 2: 166.
منقول