.
.
.
.
ـ
تمنيت
طويلاً تمنيت
لو أَنَّني سَبقتُ الموتَ إليك
لـ أضمك بقوة
وأخلعُ عنك صقيع الخوف
الـ أثلج راحتيّك
حتّى تسكن رجفتك
وتموت بدفء
.
.
كان هاتفي الجوّال بيدي حَين كنتُ أبحث عنه قرابة ربع ساعة
بعض الأحداث تُفتك بقدرتك على التركيز ومعايشة الواقع كما ينبغي لتستمر
مُنذ الأمس وأنا أُحاول إرغام قلبي على استيعاب فكرة أن تموت أُسرة بأكملها إثر حريقٍ ماكر
أستغل غمضهم ليلاً ليحاصرهم في غرفة قصيّة بلا حول منهم ولا قوة .!.
: إنَّه قدرهم .!.
قالها أبي وهو يحاول أَن يُعيد لروحي سكينتها بعد تلك الرّجفة التي صاحبتني أَثناء تلقي الخبر
: اللهمّ لا اعتراض ,, الحمد لله الحمد لله
الموت حقّ يا أبي موقنة من ذلك ولكن بعض صوره لا طاقة لقلبي على احتمالها
هذا كان ردي لأبي فيما باغتتْ قلبي دمعة حارّة
تصهر ما تبقى من جدرانه الناجية من حرائق الأمس ..!.
كانتْ ليلة موحشة وأنا احاول إيجاد فسحة شاغرة في خزانة الأحزان لأدس بها هذا الفقد الجديد
لم أكن لأُصدق بأَنَّ تلك الليلة ستنقضي ولكنّها مضتْ وإن تركت على قلبي ووجهي شحوباً جديداً
استنجدتُ بكلُّ الوسائل التي بإمكانها أَن تُعيد لقلب مرتجف طمأنينته لتهدأ ثورة الوحشة بصدري
نجحت نسبياً وبدأت كما أفعل بعد كلّ نكبة أن أبدأ صفحة حياة جديدة
كان صوت التلفاز عالياً حين كان أبي يُتابعه في ظهيرة اليوم
ولم يكن من اللائق أَن أطلب من أبي أن يخفضه وليتني فعلت
ليتني ..!.
كان المُذيع يتحدث عن ظاهرة الإيمو التي تتفشى بين مراهقي العراق
لم أهتم للأمر في البدء وقلتُ في نفسي هو طيش عابر فليس بمقدور
هكذا ثقافة نتنة أن تستفحل أو تتحقق في بلد شرقي
عربي مسلم كـ العراق
ولكن المذيع صعقني حين أنتقل بحديثه إلى ظاهرة أُخرى وهي قتلهم بالسّلاح الأبيض في أروقة بغداد
وضمن أشهر أحيائها , بدأت نبضات قلبي تتزايد قفزت من مكاني وقمت بتتبع الأنباء بألم وامتعاض .!.
كيف يُقتل إنسان غير راشد لم يُتم نضوجه بعد لأنه يحمل فكرة غير صائبة سرعان ما ستضمر برأسه ؟
بأيِّ عالم بائس أعيش ؟ يا إلهي
كان كلّ شيءٍ حتّى الآن قابلاً للاستيعاب
حتّى بدأ ذلك المذيع البائس بنقل ذلك النبأ الذي قضى على قلبي وطمأنينتي تماماً
قُبيل أَن أُسرد لكم تلك المأساة التي لا يمكن إخفاء بشاعتها بحرف أنيق وأسلوب عذب سأُخبركم بشيء
في الأول من آذار بكلّ عام يحتفل العراق بعيد المعلم , يُقام احتفالا في كلّ مدرسة
قُبيل أيّام قررت أنا وشقيقتي الكبرى أَن ننتخب ذلك اليوم لنزور سيدة وقورة كانت معلمة لنا صقلتنا بحنانها
وإخلاصها, عاملتنا تلك المرّبية بإنسانية
وصنعت منّا شخصين صالحين في الوقت الذي كانتْ تتخذ من ذنوبنا في حضرتها
فكرة جديدة لدرس آخر تغرسه في رؤوسنا
إلى جانب فسائل العلم الذي تلقيناه منها بكلّ محبة وإخلاص ورأفة
لم يكن بوسعنا مع كلّ ذلك الحنان أَن نمضي غير آسفين وعازمين على التوبة من عبثنا
والاجتهاد لـ نكون أجدر بذلك القلب الكبير
كانتْ لي أُمنية عتيقة تخصّ تلك السّيدة حلمتُ طويلاً بتذوق أحضانها
وفي الأول من آذار الحالي زرتها في بيتها وأنا أحمل طبقاً من الحلوى أعددته بنفسي
وبعض الأشياء التي ترمز لعرفاني بجميلها
عانقتني طويلاً وفي عينيها تتلألأ دمعة أمتنان وفرح
حين أخبرتها إنَّها كمعلمة بل أُمّ مرّبية تستحق أن نحتفل بها كلّ يوم وليس في مطلع آذار فقط
انتهى .
إليكم الآن النّبأ الذي أفسد أُمسيتي
في مدينة ميسان جنوب العراق , قامتْ معلمة بحبس تلميذ في دورة المياه
لأنَّه كان شقياً بما لا تستطيع تلك المربية احتماله
وبعد انتهاء الدوام خرجت تلك المعلمة ناسية ذلك الطفل حبيساً هناك
شاء الله أن تنسى تلك المعلمة ذلك الطفل
ولا تتذكر بشاعة صنيعها إلا قبيل منتصف الليل فهرعت تتصل بمدير المدرسة ليجد لها حلاً
وحين وصل المدير لتلك المدرسة وكسر باب دورة المياه وجد الطفل ميتاً من فرط خوفه
كانت عائلته في تلك الأثناء تجوب تلك المدينة بحثاً عنه والنَّار تشتعل بصدورهم
وبعد أن علموا بمصير ابنهم هجموا على بيت تلك المعلمة وبعد اشتباك انتهى ذلك المشهد بقتل شقيقي المعلمة
وأحد أقارب الطفل المجنى عليه لـ تبدأ معركة عشائرية وحده الله يعلم إلى أين ستنتهي
منذ سماعي لهذه القصة المهولة وقلبي يبكي دماً على ذلك الطفل الذي قضى ساعاته الأخيرة
حبيساً في مكان قذر بارد موحش
خائفاً من الظلمة والوحدة
كيف كان صوت بكائه , هل قام بالصّراخ وطلب النّجدة , ما الذي فكر به حينما
كانت معلمته تتناول شاي المساء وتضحك مع عائلتها
كان بودّي أَن أصرخ صرخة كبيرة توقظ إنسانيتنا المقبورة
تحت عرش المسخ الذي يُسيرنا ويشوه أخلاقياتنا
ليُخبر الشّيطان بكلّ زهو أَن هناك كائنٌ أبشع منه .!.
بحثتُ عن جوالي طويلاً .. لأُعتذر لـ صديقتي التي دعتني كي أصنع لها أُمسية سعيدة
وحين أخبرني أبي بأَنَّ جوالي بيدي .. ضحكتُ ضحكة كبيرة
ونسيت أمر العائلة المتفحمة
والمراهقين الذين تتم تصفيتهم جسدياً لأنهم تائهون لم يكلف أحد نفسه عناء إرشادهم
وذلك الفَزِع الوحيد المنسي الذي مات خلف قضبان العُتمة
يالبشاعتنا وبشاعة هذه الحياة ..!.
.
.
ليتها تركتْ له قالباً من الطباشير فـ يرسم على وجه الظلمة وجه أَمّه لـ يطمئن
كـ ذاك اليتيم الذي احتال على خوفـه ..!.
.
.