كيف يصنع العظماء الأمل
د. هيا إبراهيم الجوهر
في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، صرخت امرأة يابانية في العاصمة السودانية بآهة من ألم في بطنها، وصل صدى صرختها اليابان، كيف لا وهي زوجة السفير الياباني في السودان وابنة إمبراطور اليابان!
لذا استنجد زوجها بالخارجية اليابانية لمساعدته على إيجاد حل عاجل لحالتها، خصوصا مع ضعف الإمكانات هناك، فما كان منهم إلا أن وجّهوه إلى "مستشفى بحري"، وهو مستشفى متواضع يفتقر لأبسط المستلزمات الطبية، لكنه غني ببشر فاق طموحهم إمكانات البلد، انطلق السفير بزوجته حيث أُمر، وزاد رعبه رعباً حين رأى حال المستشفى، وطلب من الطبيب أن يسكن آلامها فقط حتى يتمكن من نقلها خارج السودان لعمل اللازم، ولكن الطبيب السوداني الشاب "زاكي الدين أحمد حسين" ردَّ عليه بكل هدوء وثقة بالنفس، رغم الوضع من حوله قائلاً: معذرة المرأة هذه بقي لها ساعتان، إما الجراحة أو الموت!
زاد ذلك من فزع السفير وحيرته، فهذه ابنة الإمبراطور، ولم يجد حلاً سوى أن يجعلها تقرر مصيرها، فقالت له والألم يعتصرها: أخضع للجراحة!
وقف السفير على باب غرفة العمليات المتواضعة منتظراً سماع نبأ وفاتها، ولكن تمر الساعات وتنتهي العملية والقلق يعتصر قلبه منتظراً سماع النبأ السيئ، وتكون المفاجأة وتخرج زوجته على قدميها بعد يومين من إجراء العملية، ليطير بها إلى أضخم وأفخم مستشفيات اليابان، وهناك أخضعوها والجراحة نفسها لفحوص واختبارات ليتأكدوا من سلامة ما حدث لها، وخرجوا والدهشة تعلو وجوههم والسؤال الذي على ألسنتهم: مَن أجرى لها العملية وأين أُجريت؟ فما حدث لها معجزة!
فقال السفير: أُجريت لها في بلد اسمه السودان، وعلى يد الطبيب زاكي. فأصرّوا على دعوة الطبيب السوداني المعجزة للتعرُّف عليه، وما هي إلا فترة وجيزة ويُؤتى بالطبيب بناءً على دعوة شخصية من الإمبراطور نفسه، ليسأله: ماذا تتمنى؟ وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان، وصنع الطبيب الشاب المعجزة الحقيقية، فلم يطلب مالاً ولا جاهاً ولا إقامة دائمة هناك! فطلب إقامة مستشفى للسودان! مستشفى حديث متطور يضاهي مستشفيات اليابان. وكان له ما أراد، فبعد تسع سنوات وفي بداية الثمانينيات الميلادية ظهر على أرض السودان "مستشفى ابن سينا" بمعدات حديثة ومتطورة، وتعهد بتجديده كل عام من اليابان.
هكذا يتصرف العظماء، وحق علينا أن نذكره وندعو له بالرحمة، فقد تُوفي هذا الجرّاح الفذ في شهر ديسمبر 2014 ، تاركاً خلفه إرثاً عظيماً ودروساً لكل الأجيال العربية اليائسة، فعلمه وإيمانه بقدراته وتغليب حبه لشعبه ووطنه خلّدت ذكراه.. فرحمه الله رحمة واسعة.